تستند فلسفة التربية إلى تعريفٍ دقيقٍ ينسب إلى الفلسفة القدرةَ على مساءلة الأمر الواقع. ذلك بأنّ الفلسفة تبدأ حين تلتبس الحقائق علينا، فتَفقد وضوحها وبداهتها وقوّتها الإقناعيّة. نشرع في مساءلة معارفنا حين ندرك أنّ ما كان مُسلَّماً به في زمنٍ من الأزمنة لم يَعد كذلك، بسببٍ من التحوّلات الثقافيّة الخطيرة التي تختبرها المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة. ولكن قبل هذا الزمن الذي نحيا فيه اليوم، كان الإغريق أيضاً يسائلون حقائقَ وجودهم على لسان سقراط نفسه، وهو يسخر من الاقتناعات الصلبة، والمستندات الراسخة، والموثوقيّات الجامدة، واليقينيّات المنزَلة. ومن ثمّ، يمكن القول إنّ التربية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة، إذ إنّها ترمي إلى توعية الإنسان وإرشاده إلى سبيل المساءلة الوجوديّة الشاملة. لا بدّ، والحال هذه، من أن تنعقد فلسفة التربية على السؤال الذي يحرّك وجدان الإنسان، ويدفع به إلى التفكير الرصين المتطلّب في واقع حياته.
وعليه، يجدر بنا أن نتخلّى عن تعريف فلسفة التربية مستودعاً من المعارف الثابتة التي يجب نقلها إلى الطلّاب من غير نقاش أو مباحثة، فنجرؤ على استثمار طاقة الاستفسار الكامنة في الحقل المعرفيّ هذا، حتّى نعيد النظر في كلّ ما نعرفه عن التربية وأصولها وخلفيّاتها ونظريّاتها وطرائقها وأساليبها. إذا صحّ ما قاله كانط في أنّ الإنسان لا يتحقّق إلّا بالتربية، فإنّ واجبنا الفلسفيّ يقتضي أن نحوّل هذا الحقل إلى ميدانٍ حيٍّ تَنشط فيه المناقشات الحرّة المفتوحة التي تسائل تصوّراتنا الموروثة عن الإنسان والمجتمع والتاريخ والسلطة والمعرفة والفنّ والعلوم واللغة، وكذلك عن الحياة والموت والمعنى والسعادة والله والخلود المشتهى.
جذريّة السؤال في فلسفة التربية
من الصفات التي تتّسم بها فلسفة التربية جذريّتُها القصوى أو تطلّبُها الشديد وحرصُها على مساءلة جواهر الحقائق. بما أنّ الفلسفة تبيح لنفسها أن تنظر في كلّ ما يتعلّق بوجود الإنسان، فلا تُقصي ميداناً من الميادين أو مجالاً من المجالات، تجتهد فلسفة التربية في بلوغ عمق القضايا التي تتناولها حين تُكبّ على تحليل عمليّة بناء شخصيّة الإنسان، لا بل قلْ بناء إنسانيّته بأكملها. كما أنّ الفلسفة لا تكتفي بالاستدلال على المواقيت والمواعيد، بل تسأل عن ماهيّة الزمان، كذلك فلسفة التربية لا يقتصر بحثُها التربويُّ مثلاً على شفاء الطفل من عُسر النطق العضويّ، بل يتعدّى الجهدَ التربويَّ التقنيَّ المحضَ، ويمضي إلى الاستفسار عن حقيقة النطق والقراءة، ومعنى الكلام، وقيمة الإفصاح الوجدانيّ عن مكنونات الباطن. لا تُعنى فلسفة التربية بالبحث عن أفضل البرامج التربويّة في المدارس والمعاهد والجامعات، بل تسأل عن المعارف التي ينبغي أن يكتسبها الإنسانُ في عصرٍ من العصور، وتحاول أن تسوّغ الاختيارات والإيثارات والمفاضلات تسويغاً عقلانيّاً مُقنِعاً. بتعبير وجيز، يمكن القول إنّ فلسفة التربية لا تروم، في المقام الأوّل، النظر في الوسائل المضمونة الفعّالة التي تزوّد الطلّاب عيونَ الحقائق الأساسيّة، بل تحرص الحرص كلّه على استجلاء غايات التربية ومقاصدها وأهدافها وآفاقها المشرَّعة.
بين التربية المنفتحة والترويض الآليّ
يجب علينا أن نميّز التربية من الترويض التقنيّ الآليّ، إذ إنّها تتعهّد الكائن الإنسانيّ في فرادة شخصيّته، وتعاين فيه، على نحو ما صرّح الأديب الفرنسيّ روسّو (1712-1778)، كائناً قابلاً الكمالَ (perfectible). ومن ثمّ، يجب الالتفات إلى الاختلاف الجوهريّ بين الإنسان القابل الكمال، والحيوان الذي يقتصر ترويضه على اكتساب بعض المهارات المرسومة في هندسته البيولوجيّة الأصليّة. ذلك بأنّ الترويض الحيوانيّ لا يشبه التربية الإنسانيّة، إذ إنّه يتقصّى الأثر الذي ينجم عن تطوّر الكائنات الحيوانيّة الطبيعيّ، في حين تتّكل التربية على التفاعل الحرّ بين المربّي والمربَّى، أي بين المعلّم والتلميذ، فتستنهض الطاقات الدفينة التي يختزنها الكائنُ البشريُّ في صميم ذاته المشرَّعة الآفاق.
إذا كان الأمر على هذا النحو، فإنّ التربية تفترض نشاطاً فكريّاً حرّاً يرشد الإنسان إلى قيَم الحياة الأساسيّة، ومنها قيمة الاستقلال الذاتيّ والحرّيّة المسلكيّة والنضج الكيانيّ، بحيث ترمي، في مُنتهى مقاصدها، إلى إعتاق الإنسان من قصوره المعرفيّ والنفسيّ والأخلاقيّ والمسلكيّ، على ما كان يذيعه الفيلسوف الألمانيّ كانط (1724-1804). من أهداف التربية الأوائل أن يبلغ الإنسان درجة التملّك الكيانيّ الناضج والاقتدار الذاتيّ حتّى يستطيع أن يستثمر ملَكة المعرفة استثماراً حرّاً، أي استثماراً منعتقاً من كلّ وصاية خارجيّة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على هذا النحو، ترمي التربية إلى تمكين الإنسان من استخراج القابليّات المنطوية في ذاته وتفعيلها وتحقيقها تحقيقاً يلائم ما انفطرت عليه الطبيعة البشريّة من بنية اكتماليّة ارتقائيّة. لا بدّ إذاً من صون المقاصد القصيّة التي تنطوي عليها التربية، ومنها أنّ الطفل ينبغي أن ينضج نضجاً تربويّاً سليماً حتّى يستطيع أن يستقلّ استقلالاً أصيلاً خالصاً منزّهاً عن مطامح الاستعلاء والاستكبار، فيحقّق بفضل النضج الاستقلاليّ هذا معاني الإنسانيّة المنغرسة في كيانه. في البحث الذي أنشأه كانط وعنونه "ما الأنوار؟" (Was ist Aufklärung?)، يتجلّى مقصد الاستقلال الكيانيّ، إذ يحرّضنا فيلسوف الأنوار على أن نتحلّى بجرأة استخدام عقلنا الخاصّ والاستناد إلى أحكامه في استخراج مبادئ التفكير وقواعد التصرّف.
لا غرابة، من ثمّ، أن ينصرف بعض الفلاسفة إلى السرد الممتع يكشفون فيه عن مسار التنشئة التي ينبغي أن يعتصم بها كلُّ إنسان حريص على استقلال فكره. سواءٌ تصفحّنا "اجتهادات" (Essais) الفيلسوف الفرنسيّ الشكّيّ مونتاني (1533-1592)، أو قرأنا إرشادات فيلسوف العقلانيّة الفرنسيّ دِيكارت (1596-1650) في كتابه "مقالة الطريقة" (Discours de la méthode)، أو تأمّلنا في "اعترافات" (Les confessions) روسّو، فإنّنا ندرك الفارق الخطير بين المعارف النظريّة المكتسَبة، والاختمارات الإنضاجيّة الذاتيّة التي أفضى إليها كلُّ اختبار وجوديّ فرديٍّ استثنائيٍّ. يدلّنا هذا الفارق على أنّ التربية الناجحة تجعل الإنسان ينعتق انعتاقاً هادئاً من كتلة المعارف النظريّة التي اكتسبها في أثناء عمليّة التنشئة.
تراث مذاهب التربية الثلاثة
لا يخفى على أحد أنّ التربية، في أصلها اليونانيّ القديم (paideia)، كانت من أخطر القضايا التي استنهضت اجتهادات الفلاسفة الإغريق، إذ إنّها أتاحت لهم التفكير في صورة الإنسان الكامل، وقد اجتهدت المذاهب الفلسفيّة القديمة في رسمها وفقاً لمبادئها وتصوّراتها الفكريّة الخاصّة. إذا اقتصر بحثُنا في هذه الحقبة على نهاية القرن الخامس وبداية القرن الرابع قبل الميلاد، تَبيّن لنا أنّ التصوّرات التربويّة الفلسفيّة نشأت وتطوّرت في ثلاثة اتّجاهات: الاتّجاه الأوّل أيّده التقليدُ الإغريقيُّ الأرستوقراطيُّ الذي كان يعزّز مقام التنشئة الجسديّة الرياضيّة والعسكريّة، ويجعل الفضيلة البطوليّة تُكتسَب بالقدوة الصالحة والتخلّق الأدبيّ بأخلاق الشيوخ؛ الثاني اعتمده السفسطائيّون الذين كانوا يدّعون أنّهم، بفضل كفاءتهم المعرفيّة الاستثنائيّة التي تستحقّ ما كانوا يتقاضَونه من مكافأة ماليّة، قادرون على إكساب المريدين الأهليّةَ التقنيّةَ الضروريّةَ التي تمكّنهم من إتقان فنّ الخطابة والإقناع؛ أمّا الثالث فكان يتجلّى في تعليم سقراط الذي أبطل إمكانَ اكتساب الفضيلة بواسطة التعليم والتربية والتنشئة، ولو أنّه كان يزيّن لجميع الذين يخالطونه ويُصغون إلى تعاليمه وإرشاداته أنّهم مؤهّلون للتخلّق بأخلاقه الفاضلة.
الإصغاء إلى صوت الإلهام الداخليّ
ومن ثمّ، نشأ سؤال الفلسفة التربويّة الأخطر والأصعب: هل تُكتسب الفضيلةُ بالتعلّم؟ معروفٌ جوابُ أفلاطون الذي كان ينفي قدرة الإنسان على تعلّم الفضيلة، وحجّته في ذلك أنّ الفضيلة علمٌ، والعلم لا يجوز أن يتحوّل إلى غرضٍ من أغراض الإبلاغ التعليميّ أو موضوعٍ من موضوعات التنشئة التربويّة، إذ إنّه يأتينا بواسطة الاستذكار (anamnesis). معنى القول الأفلاطونيّ الخطير هذا أنّ التلميذ يكتشف المعرفة داخلَ ذاته، لا خارجها. إذا أراد أيُّ طالب أن يقلّد سقراط، كان عليه أن يحذو حذو المعلِّم، فيُصغي إلى الروح الإلهيّة (daimon) المنغرسة في أعماق كيانه الجوّانيّ. ومن ثمّ، تَكفّ التربية عن نقل المعارف من الخارج إلى الداخل، وتغدو اجتهاداً خلّاقاً يرمي إلى اكتشافها في الداخل، بحيث تنصرف ملَكة المعرفة إلى استجلاء الحقائق المنغلّة في صميم الوجدان الإنسانيّ. لذلك كانت التربية، في نظر سقراط وأفلاطون والمثاليّين الذين ينسجون على منوالهما، أشبهَ بتوبة ذهنيّة جوّانيّة تُعيد الإنسان إلى ذاتيّته الخاصّة. لا عجب، والحال هذه، من أن يستثمر القدّيس أوغُسطينُس (354-430) الحقيقة الأفلاطونيّة هذه، فيجعل المربّين، في كتابه (De Magistro)، مثالَ المعلّمين الذين يوجّهون نظر التلاميذ إلى حقائق الوجدان المنطوية في النفس الإنسانيّة.
التوفيق التربويّ بين النظريّ والعمليّ
من الضروريّ، في هذا السياق، أن نذكر رأي أرسطو الذي كان يؤيّد رفض أفلاطون تعريفَ الفضيلة عِلماً يُكتسب اكتساباً. غير أنّه، خلافاً لمعلّمه المثاليّ، كان يذهب إلى أنّها استعدادٌ مُكتسبٌ لا يلبث أن يتحوّل إلى عادةٍ (hexis) راسخةٍ في طباع الإنسان. معنى هذا التعريف أنّ الفضيلة لا تُلقَّن تلقيناً نظريّاً، بل تُمارس ممارسةً عمليّةً منتظمةً تستهدي حكمة الناموس. في جميع الأحوال، سارت المذاهب الفلسفيّة القديمة على هذا النهج، فاعتنت بمسألة التربية وأولتها مقامَ الصدارة في حياة الإنسان، وعهدت إلى الفيلسوف الذي يتفكّر في قضاياها برسالة المربّي الأوّل.
أمّا ما حفظته التقاليد التربويّة من الإسهام الإغريقيّ، فضرورة التوفيق بين مطلبَين اثنَين: الاعتناء السقراطيّ بالذات الجوّانيّة وتهذيبها وصقلها، والتنشئة السفسطائيّة التي كانت تحرص على بناء شخصيّة الإنسان الاجتماعيّ عن طريق اكتساب القدرات الخطابيّة والطاقات الإقناعيّة. ومن ثمّ، استطاعت القرون الوسيطة أن تستثمر عمليّة التوفيق هذه، فصاغت لنا نموذجاً فريداً يجمع بين التأمّل الفلسفيّ في النفس، واكتساب فنون الكلام البليغ في الشعر وعلوم البيان. فإذا بالحضارة الوسيطيّة اللاتينيّة تعتمد على نموذجٍ تربويٍّ جليلٍ أضحى يسمّى "الإنسانيّات" التثقيفيّة المزدانة بالفنون الحرّة.
التربية تجديد الولادة
خلاصة القول إنّ التربية ولادةٌ جديدةٌ يختبرها الإنسان في جميع أطوار حياته. في كلّ طور تربويّ، تتكوّن في الإنسان جوانبُ جديدةٌ تُضاف إلى العناصر التميُّزية التي تمهر شخصيّته الفريدة. ومن ثمّ، تقترب الولادة التربويّة من الولادة الكيانيّة الأولى اقتراباً يضعها في مقام التأثير الحاسم. كما أنّ الولادة الأولى تخضع لبنية الوليد الأصليّة والقابليّات الكامنة فيها، كذلك الولادة أو بالأحرى الولادات التربويّة المتعاقبة تخضع للطاقات الذاتيّة الحرّة التي ما انفكّت تختزنها شخصيّة الإنسان. لا شكّ في أنّ الإسهام الخارجيّ المتجسّد في المثُل والقيَم والمعاني والمعارف والمعلومات والمهارات التي يستدخلها الإنسان في صميم شخصيّته المنفتحة يزوّده عناصرَ التجديد والإغناء. غير أنّ هذه العناصر يتمثّلها كلُّ إنسان بحسب خصائص كيانه الذاتيّ. يدرس الجميع الرياضيّات، ولكنّ المتفوّقين فيها قلائل. يكتسب الجميع مهارات الكتابة، غير أنّ المبدعين فيها نادرون. ينال الجميع القسط الصالح من التهذيب الأخلاقيّ، غير أنّ أنقياء القلوب وشرفاء الضمير نخبةٌ ضائعةٌ مستضعفةٌ في غابات الاستذآب المتوحّش. وعليه، يمكن القول إنّ التربية علاقةٌ جدليّةٌ بين الداخل والخارج، بين الكيان النفسيّ والبيئة الحاضنة، بين التلميذ والمعلّم، بين المتلقّي والملقي. وغالباً ما تميل العلاقةُ إلى الداخل، إذ إنّ الإنسان لا يصبح إلّا على صورة نفسه الأصليّة.