أدى التصاعد المستمر بأسعار المواد الغذائية إلى تواصل الضغوط في تونس وبلغ معدل التضخم 9.8 في المئة خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، مقابل 9.2 في المئة خلال أكتوبر (تشرين الأول).
تونس استهلت العام الحالي بنسبة تضخم قدرها 6.7 في المئة لتقفز خلال أغسطس (آب) إلى 8.6 في المئة، ثم 9.1 في المئة خلال سبتمبر (أيلول)، وهي مستويات قياسية لبلد لا ينطوي نمو الأسعار لديه على تقاليد تضخمية ويخشى من عواقب هذه المعدلات المخيفة على المقدرة الشرائية بالنظر إلى الفوارق التي ما فتئت تتعمق بين نسبة زيادة الأجور المتدنية التي لم تتجاوز 5 في المئة هذه السنة ونسب ارتفاع الأسعار.
يأتي ذلك وسط عجز الحكومة عن مواجهة انفلات أسعار المواد الغذائية والخدمات واتهامها من قبل الخبراء بالاضطلاع في استفحال التضخم بسبب الزيادات المتتالية في أسعار المحروقات.
بينما اكتفى البنك المركزي التونسي منذ شهرين برفع نسبة الفائدة الرئيسة 25 نقطة أساس فحسب، لتصبح 7.25 في المئة بعد زيادتها بـ75 نقطة أساس خلال شهر مايو (أيار).
وفسر البنك ذلك بتخوفات من تراجع الإنتاج والاستهلاك، أي المحركين الرئيسين للنمو، مما يعني تواصل الركود الذي تشهده تونس بسبب الأزمة المالية الحادة التي تلت أزمة كورونا والحرب الأوكرانية والاضطرابات السياسية والاجتماعية طوال الـ12 عاماً الماضية.
وارتفعت مؤشرات أسعار الاستهلاك العائلي بنسبة 0.6 في المئة خلال شهر نوفمبر بعد صعودها بنسبة 1 في المئة خلال أكتوبر وفق المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، ويعود ذلك لزيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة 1.3 في المئة والأثاث والتجهيزات والخدمات المنزلية بنسبة 0.8 في المئة والنقل بنسبة 0.6 في المئة.
وسجل مؤشر المواد الغذائية والمشروبات ارتفاعاً بنسبة 1.3 في المئة مقارنة بشهر أكتوبر بسبب زيادة أسعار البيض بنسبة 7.5 في المئة والخضراوات بنسبة 6.1 في المئة والأجبان ومشتقات الحليب بنسبة 3.4 في المئة والزيوت الغذائية بنسبة 3 في المئة.
بينما تراجعت أسعار الدواجن بنسبة 10.6 في المئة، كما أدت الزيادة في سعر مواد وخدمات صيانة المساكن بنسبة 1.2 في المئة إلى ارتفاع مؤشر الأثاث والتجهيزات والخدمات المنزلية بنسبة 0.8 في المئة، وبخصوص الخدمات زادت تعريفات النقل بنسبة 0.6 في المئة تأثراً بنمو مصاريف استعمال السيارات بنسبة 0.9 في المئة.
اشتعال أسعار المواد الغذائية
بدا التطور الذي سجلته أسعار المواد الغذائية بحساب الانزلاق السنوي كبيراً، بحيث سجلت أسعارها ارتفاعاً بنسبة 15.1 في المئة وزادت أسعار البيض بنسبة 43.4 في المئة والخضراوات الطازجة بنسبة 32.4 في المئة ولحم الضأن بنسبة 24.3 في المئة والزيوت الغذائية بنسبة 20.4 في المئة ولحم البقر بنسبة 17.4 في المئة.
بينما سجلت المواد المصنعة ارتفاعاً بنسبة 9.8 في المئة خلال شهر نوفمبر بحساب الانزلاق السنوي في انعكاس مباشر للزيادة التي عرفتها أسعار مواد البناء بنسبة 10 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما شهدت أسعار الملابس والأحذية زيادة بنسبة 9.5 في المئة وأسعار مواد التنظيف بنسبة 9.9 في المئة، وأدى نمو أسعار خدمات المطاعم والمقاهي والنزل بنسبة 9.8 في المئة إلى صعود أسعار الخدمات بنسبة 6 في المئة.
لكن لوحظ في المقابل تراجع وإن بدا طفيفاً في نسبة التضخم الضمني الذي يستثني احتساب الطاقة والتغذية ليصبح في حدود 7.3 في المئة مقارنة بـ4.7 في المئة خلال شهر أكتوبر 2022.
بينما شهدت الأسعار المؤطرة ارتفاعاً ملحوظاً بالنظر إلى طبيعة هذه السلع وناهز 6.2 في المئة وزادت أسعار المواد الحرة بنسبة 11 في المئة مقارنة بشهر أكتوبر و17.9 في المئة بالنسبة إلى المواد الغذائية الحرة بحساب الانزلاق السنوي مقارنة بنمو أسعار المواد الغذائية المؤطرة بنسبة 0.6 في المئة.
غياب الحلول الناجعة
كانت الحكومة عادت إلى تقنية التعديل الشهري لأسعار المحروقات خلال شهر سبتمبر 2022 بعد التوقف لمدة أربعة أشهر عن تطبيقها في محاولة للتحكم بالضغوط التضخمية.
فيما أعلنت وزارة الصناعة والطاقة والمناجم عن مواصلة التعديل بالترفيع في اتجاه الوصول إلى الأسعار الحقيقية للمواد النفطية والغاز، الأمر الذي يعني رفع الدعم عن المحروقات والذي نبه الخبراء من انعكاساته المباشرة على أسعار السلع والخدمات.
المحلل الاقتصادي آرام بالحاج أوضح في تصريح إلى "اندبندنت عربية" أن ارتفاع أسعار بعض المنتجات سيؤدي إلى بلوغ نسبة التضخم رقمين خلال أيام، لأنها لا تشكل العنصر الوحيد الفاعل في التضخم، بل تضاف إلى عوامل خارجة عن النطاق مثل المناخ المتوتر الذي خلقته الحرب الأوكرانية على حركة تدفق السلع والإمدادات في السوق العالمية وتداعيات الأزمة الصحية وما نتج منها من نسبة نمو سلبي وانخفاض في سعر تداول العملة المحلية.
ويرجح استفحال الضغوط التضخمية بالنظر إلى امتداد هذه العوامل في الفترة المقبلة بحكم غياب استراتيجية محددة من الحكومة لمواجهتها، ودعا إلى ضرورة التحكم في الأسعار باعتماد تركيز استراتيجية خاصة بالتخزين لتغطية حاجات السوق والسيطرة على مسالك التوزيع، كما يجدر بالسلطات المعنية التدخل لدعم منظومات الإنتاج، خصوصاً الموفرة للمواد الغذائية للضغط على كلفة الإنتاج، بالتالي الأسعار النهائية.
وقال بالحاج إنه يفترض على القائمين على السياسة النقدية إيجاد حلول ملائمة للوضعية الحالية بخصوصياتها المحلية التي لا تتماشى مع الآليات التقليدية النظرية التي أثبتت عدم نجاعتها في تونس، وهي رفع نسبة الفائدة الرئيسة، إذ وقع اللجوء إلى هذه التقنية في مناسبتين خلال السنة الحالية من دون تحقيق الانعكاسات المرجوة.
النسق التصاعدي
من جهته توقع الخبير الاقتصادي وسيم بن حسين حفاظ الضغوط التضخمية على نسقها التصاعدي في الأشهر المقبلة بحكم طبيعتها الهيكلية وعدم ارتباطها بالمعطيات الظرفية بسبب تزامن التضخم المستورد مع الإشكاليات التي تعانيها منظومات الإنتاج في تونس، خصوصاً المواد الغذائية الفلاحية التي ارتبطت في فترات سابقة للحرب الأوكرانية بارتفاع أسعار العلف والمواد الأولية في السوق العالمية.
وقال إنه لم يتم التعامل مع هذه الأزمات بجدية في غياب مدو لدعم هذه المنظومات الموفرة لمواد غذائية أساسية في السوق مثل الحليب ومشتقاته والبيض واللحوم بأنواعها، مما أدى إلى انفلات الأسعار الحالي والتضخم الذي هيمنت أسعار هذه المواد على الجزء الأعظم منه، ونتيجته الحتمية هي تراجع المقدرة الشرائية بنسبة 3.1 في المئة منذ حلول العام الحالي.
وأضاف بن حسين أن عجز الميزان التجاري المتنامي أسهم في تراجع سعر صرف الدينار وندرة العملات في السوق وركود العملة المحلية، الأمر الذي أدى إلى تنامي الكتلة النقدية في غفوة من الحكومة التي تخلت عن دعم الصادرات بالتخفيف من الأداءات الجمركية والتسهيلات لدعم التصدير وخلق الثروة، فالتضخم هو وجه من وجوه تراجع الإنتاج ونقص السلع مع غياب التصورات المناسبة لمقاومته.