على رغم أن الديمقراطية وجدت طريقها إلى دول غرب أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي، فإن هذه الدول لم تتحل بالجدية اللازمة. ومع ذلك، خلق الوهج الأول للديمقراطية حوافز مختلفة لاكتساب متطلبات التنمية الاقتصادية وبناء الدولة، لتعود مرة أخرى تدور في الحلقة الجهنمية من الانقلابات العسكرية الطويلة وفترات انتقالية دون عبور معظمها مرة أخرى بالديمقراطية.
تمر أفريقيا بالحالة ذاتها التي استشرت فيها الضغوط الاجتماعية والاقتصادية العالمية، وأدت إلى تآكل ثقة الجمهور في مؤسسات الحكم الديمقراطي، وبينما أدت في الدول الديمقراطية إلى احتجاجات وتحفيز الحركات الشعبوية، ففي أفريقيا أدت إلى موجات من الانقلابات.
وجدت معظم دول غرب أفريقيا نفسها أسيرة لهذا الوضع، مما جعل منظماتها الإقليمية تعمل من خلال الدول، وليس الأنظمة غير المستقرة، ومع ذلك، فإن منظمة مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" قررت في قمتها السنوية في أبوجا بنيجيريا أخيراً إنشاء قوة إقليمية هدفها التدخل في حال وقوع انقلابات لإعادة النظام الدستوري كتلك التي شهدتها المنطقة في العامين الأخيرين، وفي استعادة الأمن أو ضد العمليات الإرهابية. أما مناقشة آليات تشكيل القوة الإقليمية فستكون في يناير (كانون الثاني) المقبل بعد اجتماع مسؤولين عسكريين.
وتكاد لا تخلو دولة من دول المنطقة من انتشار الحركات المسلحة، مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا كوناكري، وهي الدول التي استولى فيها العسكريون على السلطة بالقوة وأصبحت مسارح لانقلابات عسكرية منذ أغسطس (آب) 2020، مما دعا جيوش هذه الدول للاستعانة بأطراف خارجية للتصدي لها، إضافة إلى الاضطرابات التي أحدثتها نشاطات التنظيمات الإرهابية على هذه البلاد.
كما لم تفلح الضغوط التي مارستها "إيكواس" من أجل عودة الحكم المدني في أسرع وقت ممكن في هذه الدول. ونتيجة لذلك علق الاتحاد الأفريقي عضوية ثلاث دول في غرب أفريقيا هي مالي وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو، إضافة إلى السودان في وسط أفريقيا بسبب الانقلابات التي جرت فيها، وذلك نزولاً عند "إعلان لومي"، الذي أقره الاتحاد الأفريقي في يوليو (تموز) 2000، الذي حظر الانقلابات ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطياً، واعتمد عقوبات ضد الأنظمة التي تستولى على السلطة بإجراء تغييرات غير دستورية، مدعوماً من الهيئات الإقليمية الأخرى و"الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم" لعام 2007.
فخ التجاذب
برزت المنظمات الإقليمية كأسلوب جديد في هيكلة العلاقات الدولية متزامنة مع ظهور نجم العولمة في ثمانينيات القرن الماضي، وفي التسعينيات، شهد التكامل الإقليمي التحول إلى نموذج عملي يمكنه الإسهام في تغييرات عدة. وعلى رغم أن أهداف التكامل الإقليمي اقتصادية بالدرجة الأولى، فإنها في الأساس مشاريع سياسية وتشمل أيضاً المجالات الاجتماعية والثقافية، مع التركيز على التكامل الاقتصادي باعتباره أحد مؤشرات قوة الدولة، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة، وانتصار القيم الرأسمالية.
وإن كانت هذه المنظمات توصف بأنها "وقعت في فخ التجاذب بين إقليمية الدولة وعولمتها"، فإن التعارض بين النظامين الإقليمي والدولي جاء في مصلحة المنظمات الإقليمية الأفريقية خصوصاً أن اندماجها في العولمة الاقتصادية مثل تحرير التجارة وفك الأطر المقيدة لها، احتاج إلى زمن إضافي أكثر من بقية دول العالم.
وصعود المنظمات الإقليمية استفاد مما سمح به ميثاق الأمم المتحدة في الفصل الثامن عن المنظمات الإقليمية ودورها في مساعدة الأمم المتحدة على تحقيق أهدافها، بقيام التنظيم الإقليمي شرط ألا يتعارض في أهدافه وأنشطته مع المنظمة الدولية الأم. وقد اضطلع هذا التنظيم في القرن الـ20 بمهام المساهمة في تسوية النزاعات داخل الدول أو الإقليم بالطرق السلمية، وذلك قبل أن تعرض هذه النزاعات على مجلس الأمن الدولي، لكنه اشترط للسماح بتدخل التنظيم الإقليمي بالقوة لفرض حل معين، الحصول على إذن مسبق من مجلس الأمن.
وعلى رغم قدم المنظمات الإقليمية الأفريقية، فـ"إيكواس" تحديداً أسست في 25 مايو (أيار) 1975 بموجب اتفاقية لاغوس، بينما تأسس الاتحاد الأوروبي في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1993، بناء على معاهدة ماستريخت الموقعة عام 1991، فإنه خلال إصلاحات المجموعة في السنوات التالية، وآخرها عام 2013، يبدو أن القادة الأفارقة افتتنوا بتجربة الاتحاد الأوروبي التي بدت شاملة أكثر من مجموعاتهم لدرجة أن ظهر اقتراح بعملة أفريقية موحدة أسوة به. وأنشأت "المحكمة الأفريقية للعدل وحقوق الإنسان" التي اعتمدت عام 2003، ودخلت حيز التنفيذ عام 2009. ومع ذلك، لم تصبح "إيكواس" منظمة تكامل وظيفية، إذ إنها تعتمد على المساعدات الخارجية، خصوصاً من الاتحاد الأوروبي، ولعدم الاستقلال المالي، أشار كثيرون إلى أنها تفتقر إلى الإرادة السياسية.
إعادة السلطة
لعبت "إيكواس" دوراً في حفظ السلام والأمن في منطقة غرب أفريقيا في أوقات سابقة عبر قوتها "إكوميغ"، التي شهدت عدم استقرار سياسي، وأرسلت قوات عسكرية مشتركة للتدخل في ساحل العاج وليبيريا في عام 2003، وغينيا بيساو 2012، ومالي 2013. أما في نيجيريا، حيث مقر المجموعة، فكانت أن تدخلت إبان الصراع السياسي الطائفي في شمال ووسط البلاد وزيادة التهديدات الأمنية من قبل تنظيم "بوكو حرام". وفي غامبيا عام 2017، تدخلت جزئياً أثناء رفض الرئيس يحيى جامع نتيجة الانتخابات التي هزم فيها، وقال إنها شهدت خروقات وطالب بإعادتها، وكان بداية قد أقر بخسارته في ديسمبر (كانون الأول) 2016. وطالبت الدول الأعضاء في "إيكواس"، بمساندة من مجلس الأمن الدولي، جامع بالتخلي عن السلطة، مهددة بالتدخل العسكري، فقبل بالتنحي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا تحولت "إيكواس" التي أنشئت بهدف دمج المجتمع الإقليمي في مجال التجارة والصناعة لغرض تنمية المنطقة اقتصادياً من هذا الغرض إلى الاهتمام السياسي وحل النزاعات الناجمة عن التهديدات الإرهابية والانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا. وأثار الانقلاب في بوركينا فاسو في 24 يناير 2022 ضمن سلسلة الانقلابات الأخرى، القلق في شأن استمرار الانقلابات ووأد الديمقراطية، وعادت بالذاكرة إلى الانقلابات التي كانت متفشية بعد الاستقلال، إذ كانت هناك محاولة انقلاب كل شهرين تقريباً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولا تكاد دولة أفريقية تخلو من تجربة انقلابية، وصلت إلى أكثر من 200 انقلاب ومحاولة انقلابية بحلول عام 2012.
وفي مارس (آذار) الماضي، قررت "إيكواس" الإبقاء على عقوباتها المفروضة على مالي بسبب تأخر عملية إعادة السلطة للمدنيين. أما بخصوص الوضع في غينيا، فتوعدت بمعاقبتها إن لم تقدم "جدولاً زمنياً مقبولاً لانتقال السلطة قبل نهابة أبريل (نيسان)"، كما هددت بفرض عقوبات على بوركينا فاسو في حال عدم إفراجها عن الرئيس السابق روك مارك كريستيان كابوري بحلول 31 مارس. وتضغط "إيكواس" حالياً على المجالس العسكرية الحاكمة لإعادة السلطة إلى المدنيين.
تحديات الديمقراطية
لم تجد مجموعة "إيكواس" دعماً كاملاً من بعض النخب الأفريقية، إذ جادل مهتمون بأن نعي الديمقراطية في أفريقيا، والشكوى من الانقلابات يعطي انطباعاً بأن القارة السمراء هي واحة للديمقراطية، بينما العكس هو الصحيح. وفي رأيهم أنه بالقدر الذي تكافح به الانقلابات، فإنه ينبغي إعادة تقييم المشروع الديمقراطي في أفريقيا.
وعلى رغم المكاسب المتحققة من الديمقراطية، فإنها تعد سطحية في دول هشة البناء، مكونة من هياكل حكم أحياناً تمثل نسخاً مشوهة من الديمقراطية الغربية التي تواجه بتحديات لا تزال تسيطر على الحكومات الوطنية منذ الاستقلال. ومن التحديات الداخلية، عدم الوفاء باستحقاقات المواطنة وانعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، واستشراء نزعة توريث السلطة السياسية بدلاً من التنافس عليها ديمقراطياً، أو تعيين مسؤولين معروفين بولائهم للحكام الأقوياء، وعلى ذلك تقلص عدد الحكومات الديمقراطية الليبرالية.
وهنالك أيضاً استعداد الرؤساء للتلاعب بالشروط الدستورية للبقاء في السلطة لفترة أطول، والتجارب كثيرة، خصوصاً في السنوات الثلاث الماضية، إبان تفشي جائحة كورونا، إذ جمدت أغلب الحكومات العمليات الانتخابية التي كانت مقررة في تلك الفترة بحجة الإجراءات الاحترازية. أما العوامل الخارجية فيمكن ردها إلى تأثير الديناميات العالمية وظاهرة الاستقطاب الدولي على الحوكمة والأمن في القارة السمراء، وحصول بعض الزعماء الأفارقة على أحلاف مصالح مع بعض الحكومات الغربية.
أثر العقوبات
لا تزال موجة الانقلاب في غرب القارة ووسطها مستمرة، وعلى رغم أن "إيكواس" والاتحاد الأفريقي قد فرضا عقوبات وقيوداً على هذه البلدان، فإنه لم يتم إحراز تقدم في العملية الديمقراطية، حيث لا يزال الحكام العسكريون متمسكين بسلطتهم في المنطقة.
في الثالث من يوليو (تموز) الماضي اجتمعت مجموعة "إيكواس" برئاسة الرئيس الغاني نانا أكوفو أدو، وهو رئيس "إيكواس" في الدورة العادية الـ61، لمراجعة العقوبات التي فرضت على مالي وغينيا وبوركينا فاسو، لتقييم الجهود المبذولة ووضع مدى زمني وضمانات لاستعادة الحكم المدني. وطالبت المجموعة المجالس العسكرية في هذه الدول مرة أخرى لإعادة السلطة السياسية إلى أيدي المدنيين في أقرب وقت ممكن، لكن المناشدات اصطدمت بعدم الاستجابة، ورفض انقلابيو هذه الدول المواعيد النهائية التي حددتها "إيكواس".
وكانت ردة الفعل كالآتي، في مالي، أثرت العقوبات على عدد قليل من أنصار الانقلاب، الذين لديهم طرق عديدة للتحايل عليها. وفي غينيا لم يأخذ الحكام الجدد تهديدات "إيكواس" على محمل الجد، وعلى رغم معاقبة المجلس العسكري بحظرهم من السفر، فإنهم تجاوزوها والتفوا حولها.
أما بوركينا فاسو فلم تتعرض لعقوبات من مجموعة "إيكواس"، وواجه المجلس العسكري إدانة الانقلاب بقوله إن الجيش يجب أن يظل في السلطة لفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات للتعامل مع التنظيمات الإرهابية.
وفي غينيا بيساو، حيث دفعت "إيكواس" بقوتها في مهمة عسكرية، أغلبهم جنود من السنغال ونيجيريا قيل إنهم لحماية أعضاء الحكومة المنتخبين وحراسة كبار المسؤولين ومباني الدولة الرسمية، وتم تمييع المهمة.
خطوة استباقية
هذه القوة التي تزمع "إيكواس" إنشاءها ستواجهها تحديات جمة، أولها أن التمويل لمثل هذا المشروع قد أظهر محدوديته في السابق، فلا المساهمات الطوعية ستسد الحاجة اللوجستية لمثل هذه القوة، ولا المنظمات الدولية ستكون على استعداد لتمويلها، خصوصاً أن قوات الأمم المتحدة والقوات الدولية الأخرى تم تقليصها لأسباب أمنية ومادية. وثانياً، أن هذه القوة ستكون نتيجة مباشرة لما يتوافق عليه وزراء الدفاع في دول غرب أفريقيا وهم عسكريون إما قريبون من السلطات الانقلابية في حكومات بلادهم أو على خصومة معهم، وفي الحالتين سيكون التحيز واضحاً.
ربما يجب أن تدفع هذه التحديات إلى إعادة النظر في بروتوكول الديمقراطية والحكم الرشيد في أفريقيا، بوضع مدى زمني لولاية الرئيس أو للفترات الانتقالية، وإلزام الحكومات بإقامة الانتخابات في موعدها وعدم التحجج بالظروف التي تمر بها أي من هذه البلدان. ويمكن للاتحاد الأفريقي وبقية المنظمات الإقليمية دعم الديمقراطية وتعزيز وجودها والتحقق من التغييرات غير الدستورية ومحاولات الاحتفاظ بالسلطة، كخطوة استباقية قبل وقوع الانقلاب وما يمكن أن يترتب عليه من مواجهات مع سلطة عسكرية بالقوة.