الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بدأ أكبر انقلاب استراتيجي في الصراع الجيوسياسي في الإطار الكوني، تخفيف التزامات أميركا في الشرق الأوسط لزيادة التركيز على الشرق الأقصى. ترتيب تقاسم إقليمي - عربي للنفوذ في المنطقة وتجميع الموارد لمواجهة التحديات الصينية والروسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ثم جاء نائبه الرئيس الحالي جو بايدن بعد مرحلة الرئيس دونالد ترمب ليكمل اللعبة ويضع الشرق الأوسط في المرتبة الخامسة والأخيرة من الأولويات في استراتيجية الأمن القومي لإدارته. لكن روسيا التي استعادت دورها في الشرق الأوسط عبر الدخول العسكري في حرب سوريا بعد تردد أوباما وتراجعه، فتحت أمام أميركا والغرب جبهة جديدة في أوروبا عبر غزو أوكرانيا. والصين التي بدأت دورها الإقليمي والعالمي بمشروع "الحزام والطريق" بموازنة تريليون دولار لمشاريع في آسيا وأوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، صارت الشريك الاستراتيجي لمعظم الدول في المنطقة. فالرئيس شي جينبينغ عزز الدور الصيني مع أهم حليفين لأميركا في الشرق الأوسط، شراكة في ميناء حيفا مع إسرائيل وشراكة استراتيجية مع مجلس التعاون الخليجي حيث "الكنز" النفطي والغازي تحت المظلة الأمنية الأميركية. والملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان فتحا أمامه الباب لثلاث قمم مهمة في الرياض، قمة صينية - سعودية وقمة صينية - خليجية وقمة صينية - عربية. وهذا حدث نادر وصفته بكين بأنه "أكبر نشاط دبلوماسي واسع مع العالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية".
الشراكة الاستراتيجية
ذلك أن الرياض أضافت الشراكة الاستراتيجية مع الصين إلى الشراكة الاستراتيجية مع كل من أميركا والهند واليابان وألمانيا، فضلاً عن الصداقة مع فرنسا والعلاقات الجيدة مع روسيا. وليس تنويع العلاقات سوى تعبير عن أهمية الدور السعودي والموقع الاستراتيجي للمملكة وتجربة التنمية السريعة بنسبة تزيد على 8 في المئة والقدرة على تنويع مصادر الدخل القومي بدل التركيز على النفط، والقفزة الهائلة التي تحققت في السنوات الأخيرة. وليس اتفاق "المواءمة" بين مشروع شي "الحزام والطريق" ومشروع السعودية "رؤية 2030"، سوى تسليم بالحاجة إلى التكامل بين المشروعين. فالتفاهم مع الصين، كما ظهر في البيانات الصادرة عن قمم الرياض الثلاث هو تفاهم على مواضيع الحياة والمستقبل، "الابتكار والتقنية والطاقة".
وما جعل الشراكة مع الصين ممكنة وضرورية هو التجربة الصينية الهائلة في التنمية التي دفعت العالم إلى وضع "إجماع بكين" محل "إجماع واشنطن" في إدارة الاقتصاد، بعدما ثبت خطأ النظرية الأميركية القائلة إن لا تنمية اقتصادية من دون ليبرالية سياسية. وهو أيضاً خروج الصين من حقبة ماو، وكارثة "الثورة الثقافية" للاندفاع مع دينغ شياو بينغ وخلفائه في التنمية وامتلاك "القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية" والتخلي عن "تصدير الثورة" الذي يصر عليه النظام الإيراني فيخسر العلاقات مع جيرانه ويقع في أزمات اقتصادية خائفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النظام الدولي
كان واضحاً أن أميركا محرجة. فهي تلقت "الرسالة" السعودية وردت عليها بانتقاد الصين عبر قول الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، "كثير من الأمور التي يسعى إليها الصينيون وطريقة سعيهم لا تتلاءم مع الحفاظ على النظام الدولي الذي تحكمه قواعد محددة". لكن هذا النظام الذي تصر واشنطن على أنها مستمرة في قيادته، يواجه زلزالاً في أوروبا عبر الهجوم الروسي على أوكرانيا وحديث الرئيس فلاديمير بوتين عن نظام دولي متعدد الأقطاب، كما يواجه تحديات في الشرق الأقصى أكبر من قصة تايوان. ومن التحديات رغبة الرئيس شي في "نظام عالمي أكثر عدالة ومساواة، يستند إلى قوة الصين بدل قوة أميركا"، كما يقول كيفن رود رئيس الوزراء سابقاً في أستراليا في مقالة نشرتها "فورين أفيرز". وأقل ما أكدته قمم الرياض التي وصفها شي بأنها "حدث مفصلي" عبر "شراكة استراتيجية مع 12 دولة عربية"، هو خطأ قول جون إيكنبري في "فورين أفيرز" إنه "ليس لدى الصين سوى علاقات مع جيبوتي وكوريا الشمالية وبلدان قليلة أخرى" مقابل علاقات لأميركا مع 60 دولة.
غير أن الدور الأميركي في مجال الأمن لا يزال مهماً. وشراكات الرياض الاستراتيجية مع دول عدة لا تلغي واحدة منها أية شراكة أخرى. ولم تتأخر واشنطن في الإعلان أنها "لا تطلب من الدول الاختيار بينها وبين الصين"، لكنها أصرت على أنها "في وضع يتيح لها القيادة في إطار هذه المنافسة الاستراتيجية".