بين صخرة عنترة وحصاة النصلة دارت فصول أكبر الملاحم القصصية التي نسجتها الذاكرة الشعبية، وغذتها الكتابات الروائية، حتى غدت أسطورة عربية شبيهة بالأساطير الإغريقية، اختلفت في رواياتها التفاصيل والأحداث ولكنها اتفقت في نسج ملامح البطل الأسطوري، الفارس الذي يحارب الأقدار ويصارع الأخطار من أجل نحت ذاته وفرضها وسط ظروف قاهرة تعاكسه.
وظلت هاتان الصخرتان صامدتين في وجه السنين وتقلباتها في عيون الجواء بمنطقة القصيم (وسط السعودية)، كما صمد حب عنترة بن شداد لعبلة التي وثقها ونحتها بأحرف من جمال في معلقته الشعرية المسجلة من بين المعلقات السبع الشهيرة، والتي بث همومه لها في معركته ضد التهميش. وقال في الصخرتين:
ولقد حبست بها طويلاً ناقتي... أشكو إلى سفح رواكد جثم
قصة عنترة فارس العرب وشاعرها وفخرها ورمز الشجاعة والقوة والبسالة وعنوان الفروسية، وهو حامي القبيلة وحارسها، ظلت حية عبر الأزمان، فلا يزال في مخيلة العرب يشبه كل من ارتقى درجة من القوة والبسالة وطمح إلى نيل لقب بطل الفرسان بـ"عنتر" زمانه، وهو الذي حارب العنصرية التي كانت مكوناً لا تخلو منه أي ثقافة قديماً وحديثاً، بل تغنى عنترة بلونه الأسود الذي منعه من الزواج من ابنة شيخ القبيلة، بقوله "لئن أك أسوداً فالمسك لوني".
ولا يزال صوت المخيلة لعنترة بن شداد في أرجاء عيون الجواء يصف مشاعر الحب بأشهر أبياته الشعرية:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي... وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
مما جعل وزارة الثقافة السعودية تستلهم حياته في تظاهرة حيوية تفاعلية توصف ملاحم عنترة بن شداد في الحب والفروسية والعنصرية، وتعيد تقديم تجربته بعد أكثر من أربعة عشر قرناً، عبر فعاليات "مهرجان عنترة الثقافي" بدعم من برنامج جودة الحياة من خلال أسلوب مبتكر ورحلة ثقافية متكاملة امتدت لأسابيع في مدينة عيون الجواء بمنطقة القصيم و"ألقت الضوء على حياة عنترة ومعاناته مع العنصرية وقصة فروسيته وشجاعته بوصفه أيقونة إنسانية مزجت بين الوحشية اللازمة للحرب، والرقة المنسابة في أوردة الحب".
محاكاة قصة عنترة ومعايشتها
ومن خلال استثمار تقني وثقافي استعرضت وزارة الثقافة قصة الشاعر عنترة من خلال محاكاة لجميع تفاصيل حياته، متجاوزة التلقي إلى المعايشة، شارحة الدوافع والظروف وكيفية ما حدث وصولاً إلى توثيق النتائج والبطولات، فأسهمت المسرحية في السفر إلى الماضي، ووظفت ما حدث في ضوء الحاضر من خلال تسعة مواقع في "مهرجان عنترة الثقافي" وغطت جوانب الحكاية بتناغم مع العصر الحديث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضمن المهرجان أقساماً متنوعة تبدأ من موقع "صخرة عنترة"، وهي مسار رقمي للتعريف بمعلقة عنترة ودور المكان في الإلهام الشعري، وعلاقته بمحبوبته "عبلة"، مروراً بالمعرض التفاعلي "ديارة عنترة" الذي سلط الضوء على محطات ثقافية من حياة الشاعر الكبير كان لها تأثيرها البالغ في الثقافة العربية، وفي قسم "عنترة في شعر العرب" قدم عدداً من الممثلين قصائد عنترة في سوق عكاظ للشعراء والأدباء، ثم قسم "معارك عنترة" الذي تضمن تجسيداً أدائياً لمعركة من معارك عنترة مع سرد صوتي لحماسته وبطولاته ووصفه الخيل والرماح والسيوف، وانتهت رحلة الزائر بالمنطقة المفتوحة المتمثلة في منطقة طعام مفتوحة على الفعاليات الأخرى التي تتضمن مجموعة من الصور الفوتوغرافية لصخرة عنترة ومواقع من حياته وقصائده المشهورة.
وقدم المهرجان مسرحاً مفتوحاً لعالم عنترة، إلى جانب مسار خاص بـ"فلسفة عنترة" اشتمل على حلقات نقاش مع المهتمين والمتخصصين الذين تحدثوا عن التأثير الثقافي لعنترة وشعره وحياته.
قدم المهرجان الذي اختتم أخيراً مساحة خاصة للأطفال تحت عنوان "أطفال الفوارس" تضمن أنشطة تعليم الفروسية، وركوب الخيل، وإلقاء لشعر عنترة، إضافة إلى الرسم والتلوين لقصائد الشاعر الكبير، والتدريب على تصميم الملابس التاريخية، والأدوات الرمزية مثل السيف وقبعة المحاربين القديمة.
عيون الجواء شاهد حب عنترة
ويعد عنترة بن شداد شاعراً وفارساً عربياً عاش بين الفترة 525م - 608م، واشتهر بمعلقته المشهورة التي وصفت بـ"الذهبية" والتي بدأها بوصف الفراق، وعرج على ذكر محبوبته عبلة، ثم وصف شجاعته وفروسيته وهزيمة أعدائه، والتي قيل إنه نظمها تحدياً لإثبات وجوده ومكانته وشاعريته، وكان يصنف من أقوى الرجال في عصره وأشدهم بأساً، فيما ينتمي عنترة لشعراء المعلقات في تاريخ الأدب العربي، وتقع "صخرة عنترة" في عيون الجواء بمنطقة القصيم، وهي صخرة ذات نقوش ثمودية ورسوم صخرية لأشكال حيوانية، وسميت بذلك لأنها كانت من أبرز شواهد حياة عنترة بن شداد وابنة عمه عبلة، وتعد هذه الصخرة إحدى أهم معالم المسار السياحي المعتمد في منطقة القصيم ضمن مسارات التراث الأدبي.
وتنظم وزارة الثقافة المهرجان ضمن مسار الشعر العربي، الذي تحتفي الوزارة من خلاله بالأسماء الرائدة والمؤسسة للثقافة العربية، وبخاصة تلك التي ظهرت من قلب الجزيرة العربية وكان لها تأثير في مسيرة الإبداع العربي منذ العصور الأولى، وذلك بهدف إحياء مكانتهم الثقافية عبر قوالب مبتكرة تسهم في تعزيز حضورها في الحياة المعاصرة.