ثلاثة أعوام على أزمة المصارف في لبنان باتت كفيلة بالكشف عن مشهد التغيير في "النموذج" الاقتصادي الذي ارتكز منذ نشأة الدولة على متانة نظامه المصرفي وتمدده "الأخطبوطي" في الخارج ليشكل رافداً ضخماً من الأموال الأجنبية، إذ إن حجم الودائع في البنوك قبل الأزمة قدر بنحو 178 مليار دولار، في حين لم يعد يتجاوز حالياً 97 ملياراً، مسجلاً تراجعاً تاريخياً يكاد يصل إلى 50 في المئة من الودائع.
وتشير الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان إلى أنه تم إقفال نحو ربع فروع البنوك في البلاد، إذ أغلق قرابة 400 فرع على الأراضي اللبنانية وخارجها، وبات عدد فروع المصارف حالياً 902 منها 830 فرعاً تابعاً لـ46 بنكاً تجارياً لبنانياً وأجنبياً. وبحسب المعلومات فإن 32 فرعاً إضافياً ستتعرض للإقفال خلال الأشهر المقبلة ضمن خطة تخفيف النفقات التي تعتمدها المصارف في هذه المرحلة.
وتوازياً خسر القطاع المالي ثلث قدراته البشرية، إذ تشير الأرقام الصادرة عن جمعية المصارف إلى انخفاض العاملين في القطاعات المالية من 26 ألف موظف عام 2018 إلى نحو 17 ألفاً حالياً مع توقعات بتراجع إضافي خلال المرحلة المقبلة مع إقفال فروع أخرى.
وفي تاريخه شهد القطاع المصرفي اللبناني أزمتين حادتين، كانت الأولى أزمة بنك إنترا عام 1967 رافقها إفلاس سبعة مصارف وتسريح لعدد من الموظفين، أما الثانية، فتلك التي بدأت عام 2019 ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
هيكلة المصارف
وفي هذا السياق يشير رئيس اتحاد نقابات موظفي المصارف جورج الحاج إلى أن الأعوام الثلاثة الأخيرة كانت الأصعب على موظفي المصارف، متوقعاً استمرار تسريح العاملين، وقال "نحن في خضم العاصفة، والأزمة الأخطر ستقع حين يتوصل لبنان إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في شأن عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي".
وتوقع تقليص عدد المصارف العاملة في لبنان لدى البدء بهيكلة القطاع المصرفي، إذ إن هناك عدداً كبيراً من البنوك لن تستطيع تلبية الشروط المقبلة، الأمر الذي سيؤدي إلى تصفيتها وتسريح الموظفين.
ويدعو صندوق النقد الدولي باستمرار إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي المؤلف من 61 مصرفاً، إضافة إلى توزيع الخسائر المقدرة بـ69 مليار دولار بشكل عادل بين الدولة والبنك المركزي والمصارف والمودعين.
في حين أوضح النائب السابق لحاكم المركزي غسان عياش أن قرار المصارف خفض نفقاتها هو نتيجة حتمية لانكماش النشاط المصرفي والأزمة المالية السائدة في البلاد، وأكد أن البنوك حريصة على اتخاذ مثل هذه الإجراءات من دون التسبب في مشكلة اجتماعية جديدة.
هوية جديدة
في المقابل يترافق الانهيار المستمر في القطاع المصرفي مع ازدهار واسع النطاق تشهده شركات تحويل الأموال ومكاتب الصرافة التي تفتتح مئات الفروع في مختلف المناطق اللبنانية، الأمر الذي يثير التساؤلات حول الخلفيات، إذ يعتبر بعض خبراء الاقتصاد أن هناك استهدافاً للقطاع المصرفي بغية تغيير دور لبنان المصرفي في المنطقة، في حين يعتبر آخرون أن تلك الشركات ليست سوى وجوه مقنعة لبعض البنوك الكبرى.
إلا أن المعلومات تشير إلى أن أحد أبرز أسباب الفورة المالية التي تشهدها تلك الشركات، نتجت من إقفال آلاف الحسابات المصرفية للمودعين خلال الأعوام الماضية، بحيث تفيد الأرقام بانخفاضها من 1.5 مليون حساب عام 2019 إلى نحو 700 ألف حساب بداية عام 2022، الأمر الذي دفع المواطنين إلى الاعتماد على تلك المؤسسات كبديل عن المصارف في معاملاتهم المالية، إضافة إلى غياب الثقة بهذه الأخيرة.
ويعكس افتتاح مئات المكاتب المالية ازدهار قطاع المؤسسات المالية غير المصرفية ومنها فروع مصرفية مقفلة استأجرتها تلك المؤسسات، وتشير الأرقام إلى ارتفاع عدد فروع إحدى الشركات العاملة في لبنان منذ نحو 20 عاماً من 1200 فرع قبل الأزمة إلى 1300 تقريباً، في حين برزت شركة مالية جديدة بدأت منذ ثلاثة أعوام وتجاوز عدد فروعها 500 فرع، مما أثار تساؤلات حول هويتها وأهدافها، لا سيما أنها لا تتقاضى عمولة للتحويلات في العملة اللبنانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنسبة إلى بعض الخبراء تشكل الشركات المالية غير المراقبة من قبل الجهات المتخصصة، خطراً على خصوصية المواطنين والمقيمين، إذ من خلال التحويلات المالية أو سداد الفواتير والرسوم تستحصل على "داتا" شريحة واسعة من الأشخاص، لا يعرف مدى استخدامها بشكل آمن أو تسريبها لجهات معينة.
وبرزت خلال الأعوام الأخيرة عشرات الشركات المالية بالتزامن مع انهيار كارثي في الاقتصاد وهروب المستثمرين وتصفية واسعة للشركات، الأمر الذي يثير حيرة الاقتصاديين حيال سبب الاستثمار في هذا القطاع.
سوق مشبوهة
وبموازاة فورة الاستثمار في الشركات المالية، يبرز القلق من مئات مكاتب تحويل الأموال المعروفة باسم "حوالات"، إذ انتشرت بشكل واسع النطاق في بيروت وبعض المناطق اللبنانية، وعلى عكس الشركات المرخصة ليس لديها سقف للتحويلات المالية بمختلف العملات إلى دول في المنطقة أبرزها العراق وسوريا وإيران وتركيا. ويمكن للعميل تسلم حوالته خلال دقائق ومن دون مستندات رسمية، إذ يكتفي الموظف في تلك الشركات بصورة مرفقة مع المبلغ المراد تحويله وإرسالهما عبر "واتساب" من وإلى لبنان، من دون أن تكون هناك رقابة على ذلك من جانب وزارة المالية أو البنك المركزي.
وعن سبب انتشار هذه الظاهرة بشكل كبير في الآونة الأخيرة يقول الكاتب الاقتصادي منير يونس إن "سقوط النظام المصرفي كوسيط مالي موثوق كان له الأثر الأكبر، فالثقة بالبنوك اللبنانية أصبحت شبه معدومة، بالتالي هناك تعاملات كثيرة باتت خارج البنوك التي فقدت وظيفتها الأساسية المتمثلة في الإيداع والإقراض"، مبيناً أن العمليات النقدية تحولت بمعظمها إلى السوق السوداء أو السوق الرمادية (ويقصد بها شركات تحويل الأموال وشركات الصيرفة الرسمية، ثم السوق الموازية التي تضم آلاف الصرافين في المناطق).
والسبب الثاني وفق منير، يعود لتحول الاقتصاد إلى "اقتصاد كاش"، وهناك تقديرات تشير إلى أن أكثر من 60 إلى 70 في المئة من العمليات أصبحت نقدية، ويشرح أن السبب الثالث الذي يقف وراء ازدياد هذه الظاهرة، يرجع إلى تعدد أسعار الصرف وهي خطيئة متمادية يرتكبها مصرف لبنان بترك أسعار متعددة للصرف، أدت إلى تشوه في التعاملات التي يجب معالجتها فوراً، وفقاً لمتطلبات صندوق النقد الدولي.
أموال "حزب الله"
إلى ذلك تلعب المضاربة والتربح من فروق الأسعار الدور المهم في هذه المسألة، وهنا يؤكد منير أن تعدد أسعار الصرف وسقوط القطاع المصرفي أوجدا شريحة من المضاربين والمتربحين من فروق الأسعار التي تتجلى على أكثر من صعيد وأبرزها مستوى الصرافين في الأحياء والشوارع.
ورأى منير أن "ما يحصل أشبه بالعمل المافيوي في هذا القطاع لأسباب مختلفة منها المضاربة والتربح، أضف إلى ذلك أن هناك كتلة نقدية بالدولار الأميركي تعود لحزب الله ورواتب عناصره التي تصل إلى السوق بطريقة سرية وتذهب عموماً إلى السوق السوداء للصرافة، وهذا بطبيعة الحال جزء من الانفلات الحاصل في البلاد على جميع المستويات. ويضاف إلى كل ذلك، التهرب والتهريب عبر الحدود من دون حسيب أو رقيب والذي يحتاج إلى كاش".
صرافين "دليفري"
ومن مظاهر الفوضى النقدية في لبنان انتشار ظاهرة بيع العملات على الطرقات العامة، أو عبر خدمة التوصيل المنزلي، بحيث تتم العمليات النقدية من دون ضوابط وخارج أي رقابة رسمية، كما أن سعر الصرف قابل للتفاوض بما يناسب الطرفين.
وعلى رغم محاولات خجولة من جانب السلطات الأمنية لكبح هذه الظاهرة، إلا أن النتيجة باءت بالفشل وبات انتشار صرافي الطرقات يتنامى بشكل مثير للقلق والتساؤلات حول إذا ما كانت هناك مافيا لجمع الدولارات لمصلحة جهات حزبية أو شركات مالية أو أصحاب شركات الصيرفة.
وبرأي مراقبين فإن لبنان بات ساحة واسعة لغسل الأموال والتجارات غير الشرعية، حيث يمكن استخدام ما بات يعرف بالسوق السوداء خارج الرقابة الحكومية والمرتبطة أيضاً بأسواق مماثلة في دول إقليمية أخرى لإتمام التحويلات الدولية بشكل غير شرعي ومن دون المرور بالبنوك الوسيطة التي تكون عادة بمثابة الرقيب الدولي على التحويلات.