إنه يوم آخر وقصة أخرى عن قيام الأجيال الصاعدة بقتل أحد التقاليد العريقة. أولاً، أتوا ليفسدوا كرنب بروكسل الشهير (Brussels sprouts)، مهلاً، هل عادت مجدداً إلى حالها القديمة؟ لقد أضعت المسار. والآن، يقوم جيل "زد" أو ما بعد الالفية (Z) بإلغاء حلوى بودينغ الميلادية.
فبحسب ما يمكن وصفه بالبحث المبتكر وغير المسبوق فعلاً، تبين أن نحو نصف الذين تراوح أعمارهم بين 10 و25 سنة لا يحبون الحلوى التقليدية الخاصة بموسم الأعياد، على رغم إقرار أكثر من الثلث بأنهم لم يسبق أن تذوقوها. بسبب هذا الأمر، أعلن الباحثون أنه من المحتمل أن تصبح بودينغ الميلاد من الماضي بحلول عام 2025.
لا أدري ما الذي أجده مقلقاً بشأن هذه الإحصاءات. هل هو أن الباحثين الذين استطلعوا البريطانيين البالغين عشرة سنوات من العمر شعروا بالذهول لمعرفة أنهم لا يريدون كعكة فاكهة مسلوقة في يوم عيد الميلاد أو أن لوم الشبان على إفساد التقاليد قد انتقل أخيراً إلى الجيل "زد". فنحن، جيل الألفية، حملنا الشعلة لفترة طويلة - الآن يتم تجاهلنا تماماً على أننا الجيل "أكس" (جيل المواليد من أوائل الستينيات إلى منتصف الثمانينيات وجيل طفرة المواليد - الجيل المولود بعد الحرب العالمية الثانية).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهم ليسوا أول جيل يتهم بقتل التقليد. فقبل خمسة أعوام، كنت أحرر مقالات عن المجموعة التي أنتمي إليها أنا أيضاً التي تخرب عيد الميلاد - يبدو أننا الآن بصدد القضاء على الزواج ودوام يوم العمل من التاسعة إلى الخامسة. ونعلم جميعنا بأن جيل طفرة المواليد هم الذي يتحملون اللوم بسبب الإسكان الباهظ التكاليف وبريكست. لن يطول الأمر قبل أن تنتقل العباءة إلى الأشخاص المولودين بعد عام 2012. هذا المشهد يوازي رعباً وضع بودينغ مخمر على النار وتناوله بعد أن تكون قد ملأت معدتك بعشاء مشوي ضخم.
وهذا الأمر يثير التساؤل التالي: هل كان بودينغ الكريسماس جيداً فعلاً؟
آخر مرة تم التطرق إليه بإجلال واحترام كان في آل "كراتشيت" في رواية "كريسماس كارول" (A Christmas Carol) للروائي تشارلز ديكنز الذي بذل جهداً كبيراً هو أيضاً لجعل البودينغ يبدو جاذباً. فقد كتب أن رائحته عندما يخرج من الوعاء النحاسي تشبه "مطعماً ومخبزا مجاورين وبجانبهما غرفة للغسيل". وعندما تقوم السيدة كراتشيت بتقديمه أخيراً، يكون بمثابة حمل يزال عن كاهلها، فيما يعتبره السيد كراتشيت "أعظم نجاح أنجزته السيدة كراتشيت منذ زواجهما". لم يجرؤ أحد من العائلة على إطلاق الأحكام. "سيكون القيام بذلك أشبه ببدعة".
ولكن، لا يزال هنالك بعض الـ" كراتشيت" المعاصرين الذين لديهم ما يقولونه لأولئك المهرطقين البالغين عشرة سنوات من العمر. ومن بين هؤلاء، لويد مورس، كبير الطهاة في "ذا بالمرستون" (The Palmerston) وهو مطعم تقليدي في ادنبره. ويقول لي غاضباً: "مجرد فكرة بأن بودينغ الميلاد سيختفي من الموائد البريطانية خلال ثلاث سنوات كما لو أنه ديناصور مهدد بالانقراض، هو أمر عبثي. إنه الطعام الذي يملكه الأشخاص العاديون في منازلهم وليس الطعام الذي يقدمه الطهاة على ’إنستغرام‘ والطهاة المؤثرين للعالم. اذهبي إلى منزل والدة أي طاه بريطاني مرموق في عيد الميلاد وأراهن بأنك ستجدين حلوى بودينغ الميلاد تتصدر المائدة".
يبدو أن بودينغ عيد الميلاد مثير للانقسام بالقدر نفسه الذي يساء فهمه. تقول بعض المصادر إنه ظهر للمرة الأولى في القرن الـ14 كنوع من العصيدة أو الحساء مع القرفة والزعفران. كما أن الوصفات القديمة كانت تضيف لحم العجل والضأن والفاكهة المجففة والنبيذ والتوابل. ويعتقد آخرون بأنه نشأ من النقانق الإنجليزية في القرون الوسطى حيث كان يتم حشو معدة وأمعاء الحيوان بالمكونات بهدف الحفاظ عليها طازجة لفترة أطول. كان الأمر أشبه بكعكة فاكهة تتخللها نقانق. يبدو الأمر شهياً. أتساءل لماذا لم يعودوا يقدمونها.
توجب الانتظار حتى القرن الـ16 لكي تتحول من طبق مالح إلى حلوى وتصبح مرتبطة بعيد الميلاد. في القرن الـ17، قام أوليفر كرومويل (قائد عسكري وسياسي انجليزي) بحظر البودينغ إلى جانب مجموعة من التقاليد السخيفة الأخرى (ربما كانت فكرته صحيحة نوعاً ما). ولاحقاً، بعد بضعة قرون قام رواد العصر الفيكتوري، مع بعض المساعدة من ديكنز، بتعديل الوصفة لتصبح على ما هي عليه اليوم، ولكن مع مجموعة صارمة من القواعد المتبعة كالتالي: أولاً، يجب جمع البودينغ في ما يعرف بأحد التحريك وهو آخر يوم أحد قبل يوم مجيء المسيح، وقد سمي هكذا لأن أفراد العائلة يقومون بتحريك الخليط من الشرق إلى الغرب (في دلالة على الرحلة التي قام بها المجوس الثلاثة) بواسطة ملعقة خشبية (ترمز إلى المزود الذي ولد فيه يسوع)، ومن ثم يتم غليه في قماش خاص بالبودينغ ويترك في مكان بارد وجاف للأسابيع الخمسة المقبلة (وهي رمزية مشكوك بأمرها). ويجب على بودينغ عيد الميلاد أن يضم 13 مكوناً في إشارة إلى يسوع وتلاميذه الـ12. وهذه المكونات هي تقليدياً: الزبيب، الكشمش، الشحم، السكر البني، فتات الخبز المقرمش، الحامض، قشر الليمون، قشر البرتقال، الدقيق، توابل (بهارات) مختلفة، البيض، الحليب والبراندي. وعندما يحين أخيراً وقت تقديمه، يتوجب طبخه على البخار أو غليه لمدة ثماني ساعات ومن ثم صب مشروب البراندي فوقه وإشعال النار فيه لتجسيد آلام المسيح. لا أذكر أن المسيح حرق حياً أو قتل حرقاً ولكنني أفترض أن أي رمز قديم سيفي بهذا الغرض.
لا حاجة إلى القول إنها عملية مضنية فعلاً. فهل سيكون مستغرباً أن الجيل"زد"، مع أدوات القلي على الهواء، ووصفات "تيك توك" التي لا تتعدى مدتها 60 ثانية وحسابات "ديليفيرو بلاس" Deliveroo Plus (لخدمة التوصيل) التي تأتي بأي طعام يريدونه على أعتاب منازلهم بنقرة على شاشة الهاتف الذكي، لن يكون مفتوناً أو مهتماً بالكعكة التي تحمل معاني دينية ويتم الاحتفاظ بها في الخزانة لمدة شهر - أو، إذا صدقنا الأساطير، لمدة تصل إلى عامين؟
تقول آمي بون التي أعادت إحياء سلسلة المطاعم الصينية الشهيرة التي تملكها عائلتها وحولتها إلى سلسلة مطاعم متنقلة ووحدات سكنية وخدمات توصيل شطائر اللحوم الطازجة: "تتغير الأذواق وأصبح عدد أقل من الأشخاص يحبون كعكات الزبيب والفاكهة المجففة والمنقوعة بالمشروب. الآن وقد أصبح لدينا أوعية طعام فورية وجاهزة للأكل ووصفات يمكن إعدادها خلال 15 دقيقة، لم يعد الأشخاص يستغرقون وقتاً ويبذلون جهداً. ولكن الطعام، على غرار التاريخ، يأتي في دورات عديدة. على سبيل المثال، من كان ليظن أن كوكتيل القريدس لن يكون مقبولاً مجدداً وحسب، بل محتفى به بطريقة كبيرة أيضاً". ولإرضاء ابنتها الصغرى، تصنع بون الكريب سوزيت (crêpes suzette) عوضاً عن بودينغ الميلاد "وبهذا ما زلنا نحظى ببعض العرض الناري"، وهي نفسها تفضل "سوربيه جيد وحاد لتناوله بعد وجبة ثقيلة كهذه".
يوافقها الرأي أيفان تيسدال-داونز، رئيس الطهاة في "نايتيف"، وهو مطعم بريطاني يراعي البيئة في لندن ويقول إن القدرة على الحصول على كل ما نريد وفي أي وقت نريده جعلتنا ننسى أن كثيراً من عادات الطعام التي نتبعها ولدت من الضرورة. ويخبرني أن "تقليد الحصول على أطعمة فيها توابل في عيد الميلاد يعود في الأساس إلى ارتفاع سعرها وصعوبة شحنها إلى أوروبا، مما يعني أنه كان يتم الاحتفاظ بها لمناسبة مميزة". بالنسبة إليه، إن الحنين إلى الماضي وذاكرة إحيائه هو ما يحافظ على التقليد حياً. ولكنه يضيف بأن "نقص التقليد بوسعه أيضاً أن يؤدي إلى نقص السعادة في الطعام، ولهذا من المهم التمسك بتلك التقاليد سواء كانت بودينغ عيد الميلاد أو وجبة صينية جاهزة عشية عيد الميلاد".
حتى بوب كراتشيت من رواية ديكنز، الذي توجب عليه إعالة زوجة وستة أولاد بـ15 شيلينغ أسبوعياً، لم يعتقد أن عشاء الميلاد يكتمل من دون البودينغ. ولكن في خضم أزمة كلفة المعيشة التي نتخبط فيها، من الممكن أن تكلفك المكونات نفسها أكثر بحوالى 30 جنيه استرليني (36 دولاراً) كحد متوسط في السوبرماركت. وهذا مبلغ كبير في مقابل كعكة بودينغ صغيرة في وقت يبحث فيه بعض الأشخاص إلى عدم إنفاق ما يتخطى هذا المبلغ على العشاء بأكمله هذه السنة. فعندما يكون بوسعكم الحصول بودينغ ميلادي مقبول نوعاً ما ومحضر مسبقاً في مقابل خمسة جنيهات أو أقل من دون استحضار المسيح، يبدو الأمر لا يستحق عناء التفكير.
ولكن، بعيداً من المزاح – وأنا في الغالب أمزح - يعتبر الطعام جزءاً مهماً للغاية من ثقافتنا، ولعل التقاليد كهذه تكون ثمينة بشكل خاص خلال الأوقات العصيبة. تساعد الوصفات التي تتناقلها الأجيال في الحفاظ على تاريخ الشعب الذي قام بطهيها. وفيما أتصور أن قلة من البريطانيين يشعرون بأي نوع من الارتباط مع أجدادهم من العصر الفيكتوري أو القرون الوسطى بالطريقة نفسها التي تفعل فيها ثقافات أخرى ذلك، فلن أقوم بانتقاد بودينغ الميلاد الذي يعود إلى إنجلترا الغابرة، لن أفعل ذلك أيضاً مع ثقافة الخبز الفرنسي أو الحساء الأوكراني أو الشاي الصيني، على سبيل المثال لا الحصر.
شوكو أودا رئيسة الطهاة في كويا وهي سلسلة أودون نودلز (udon noodle) في لندن تقدم أودون ودونبوري (donburi) وأطباق يابانية صغير في لندن، تقول: "أقوم دائماً بمقارنة عيد الميلاد هنا مع رأس السنة في اليابان الذي يتعلق بالطعام التقليدي والعادات". أمضت أودا طفولتها بين لندن وطوكيو ولوس أنجلوس. "لا يحب الجميع الطعام الذي نتناوله في اليوم الأول من السنة الجديدة (المعروف باسم أوسيشي osechi)، ولكنني أعتقد بشدة أنه من المهم أن يكون ذلك الطبق موجوداً على المائدة. يشكل الطعام جزءاً كبيراً من كل ثقافة وبوسع المرء اكتساب هويته إذا ترعرع على هذه الثقافة". ولكن هذا لا يعني أنه يجب على التقاليد أن تعود إلى قرون طويلة ماضية وأن تكون راسخة في التاريخ. ستقضي أودا عيد الميلاد في طوكيو هذا العام حيث تكون مشاركة وعاء كبير من دجاج "كي أف سي" (KFC) مع الأصدقاء والعائلة هو التقليد المتعارف عليه – وهو ليس بعيداً للغاية من طبق السمك والبطاطا المقرمشة (fish and chips).
إن كان بودينغ الميلاد استمر على مدار 800 عام، فهو لن يواجه خطر الانقراض في أي وقت قريب، ولكن من الجيد أن نذكر أنفسنا بالتقاليد التي قد نكون نسيناها، حتى عندما نصنع تقاليد جديدة. وكما يقول لي مورس "لا يمكنك اعتناق الجديد من دون القديم". ويضيف في الختام: "ما الطبق الذي تتناولين كاسترد البراندي معه"؟
© The Independent