كان الألم الذي ألحقه به معذبوه مبرحاً إلى درجة دفعت بفولوديمير جيمتشوغوف إلى محاولة عض الأنبوب الوريدي الذي يبقيه على قيد الحياة لكي ينفخ فيه فتدخل فقاعات الهواء إلى شرايينه ويقتل نفسه.
احتجز هذا الجندي من الحقبة السوفياتية الذي تحول إلى عنصر في المقاومة الشعبية الأوكرانية داخل مستشفى السجن، على يد عناصر موالية لروسيا. حدث ذلك في عام 2015 في مدينة لوهانسك الشرقية.
قبل ذلك بفترة قصيرة، ضم فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم بطريقة غير شرعية، وكانت الحرب تستعر بين الجيش الأوكراني والانفصاليين المدعومين من روسيا في دونباس. وسط كل هذا، اعتقل جيمتشوغوف البالغ من العمر 52 سنة بعدما زحف بالخطأ على لغم أثناء محاولته تخريب خط كهربائي يصل إلى موقع لعناصر مدعومة من الروس. نسف اللغم يداه وأصابه بالعمى.
ويقول إن عناصر الاستخبارات الروسية الذين كانوا يعتقلونه هددوه يومياً بصعق الجدعتين المشوهتين في ذراعيه للحصول على معلومات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنما على رغم الألم والظلمة والظروف المريعة، رفض المقاوم المخضرم أن يمتثل لأوامرهم. واستطاع البقاء حياً ما يكفي من الوقت كي يطلق سراحه في عملية تبادل للأسرى، وبعد مرور سبع سنوات، في أعقاب الهجوم الشامل الذي شنه بوتين لغزو أوكرانيا، ها هو جيمتشوغوف يحقق انتقامه أخيراً.
ويقول جيمتشوغوف الذي يتحدث بالروسية لـ"اندبندنت" من مقره الحالي في كييف "لأنني مواطن من الأراضي المحتلة، كنت أملك بيانات الاتصال بالأشخاص هناك كافة، وهكذا بدأت ببناء شبكة من المخربين حين اجتاح بوتين أوكرانيا".
وأضاف "والآن أنسق عمل الناس في المناطق المحتلة الجديدة. خارج هذه المناطق، جندنا أشخاصاً في مجموعات من 10 أفراد، وعلمناهم كيف يعملون كمتآمرين وكيف يستخدمون هواتفهم الذكية. يتلقون أسبوعين من التدريب على كل شيء بما في ذلك صناعة العبوات الناسفة المرتجلة".
بعد قضائه سنوات عدة تحت التعذيب بسبب هذا العمل، هو يدرك جيداً مخاطره - وقد قتل عدد غير معروف من المقاومين الشعبيين منذ انطلاق الغزو في 24 فبراير (شباط). لكنه يقول إن شبكته التي تكبر وتمتد ساعدت البلاد في تحقيق مكاسب هائلة من بينها إخراج رجال موسكو من مناطق كييف، وخاركيف وخيرسون.
ويضيف "إن تأثيرها ضخم" ثم يشرح كيف يركزون الآن على إيجاد معلومات حول مواقع مستودعات الذخيرة والمركبات المصفحة. "إنهم يوجهون النيران عملياً".
أكبر مشكلة يواجهها الجيش الأوكراني هي أنه أقل عدداً وسلاحاً من الطرف الثاني بكثير، بما يصل في بعض الأحيان إلى نسبة 20 في مقابل واحد في المدفعية و40 في مقابل واحد في الذخيرة، بحسب الجيش.
ساعد تدفق الأسلحة بكثافة من الغرب - ولا سيما أنظمة إطلاق صواريخ متعددة، هيمارس - في قلب الموازين.
لكن سلاح أوكرانيا السري هو الذي يقف وراء بعض أكبر الانتصارات: أي جيشها من المؤيدين المدنيين. إذ التحق المواطنون العاديون بالجهد الحربي، وكثير من بينهم يعملون في السر وراء خطوط العدو.
هم المسؤولون عن نصب الكمائن وتدمير البنية التحتية وحتى الاغتيالات، بحسب المزاعم، في عمق الأراضي التي تحتلها روسيا مثل القرم. حتى بعيداً من الجبهة، سجلت المشاركة المدنية كثافة كبيرة، وأصبح بإمكان الأوكرانيين الآن تسجيل التحركات الروسية على تطبيق هاتفي اسمه "إي إينمي" (عدو إلكتروني e-enemy) استخدم تطبيقاً آخر كان مخصصاً لتسجيل الوثائق الإدارية يومياً.
لدى أوكرانيا، كما دول سوفياتية سابقة كثيرة غيرها، تاريخ طويل مع حركات المقاومة القومية التي تعود إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية. على امتداد عقود من الزمن، ظهرت مختلف الفصائل المسلحة، بدءاً بمناصري الزعيم الوطني المتطرف (والجدلي) ستيبان بانديرا، الذي اغتاله العملاء الروس منذ 60 عاماً، ووصولاً إلى المقاتلين الذين خاضوا حرب عصابات في خمسينيات القرن الماضي ضد السوفيات من مخابئهم في جبال الكاربات.
وتحولوا إلى مصدر إلهام لهذا الجيل الجديد من المقاومين.
أخطر الأعمال هي التي يؤديها المقاومون الشعبيون، الذين يحملون على عاتقهم مهمات عسكرية وقد تلقوا تدريباً على كل الأمور بدءاً من تفجير المركبات الروسية ووصولاً إلى قطع خطوط الإمداد. بحسب تقديرات جيمتشوغوف، يعيش نحو 500 مقاوم شعبي في المناطق المحتلة مثل خيرسون وزابوريجيا في الوقت الحالي.
وإلى جانبهم، هناك الجيش السري للمقاومة المدنية الذي يعمل بهدوء وراء خطوط العدو ويندمج في الخلفية داخل البلدات المحتلة ويطلع الأوكرانيين على أماكن وجود المواقع الروسية. ويعتقد بأن 10 آلاف شخص يقومون بهذا النوع من العمل.
كان من الصعب تنسيق هذه المهمات. بسبب خطر التجنيد الإجباري الذي تفرضه روسيا داخل المناطق التي ضمتها أخيراً - ولا سيما في المناطق الشرقية من دونباس - اضطر عديد من المقاومين أن يهربوا إلى المناطق التي تسيطر عليها أوكرانيا.
وتحمل النساء قدراً متزايداً من العمل على عاتقهن.
ماريا (ليس اسمها الحقيقي) هي إحداهن، وهي تعمل في المقاومة داخل خيرسون المحتلة. وقد خاطرت بحياتها كي ترسل بضعة أسطر لـ"اندبندنت" بالخفاء تقول فيها إنها انضمت إلى المقاومة "لأن الروس أتوا لقتلي أنا وعائلتي".
وتضيف "قبل الحرب، كان لدي وظيفة عادية"، وتتابع بأنها تحافظ على سلامتها عبر اتباع تدريبها الحذر لكن ما من ضمانات، مشيرة "أنا خائفة ومذعورة على الدوام. لا بد أن تكون مجنوناً كي لا تهتم بسلامتك وسلامة عائلتك. فقدت أصدقاء كثر. عديد منهم أسرى وقتلى".
بهدف حمايتهم، يتلقى المحاربون الشعبيون والمقاومون تدريباً على طرق الإفلات من الاعتقال والعمل في خلايا سرية إلى درجة أنهم لا يعرفون بعضهم بعضاً حتى.
عمل إيغور، 50 سنة، وهو والد لثلاثة أطفال وشرطي سابق، مقاتلاً في المقاومة في بالاكيا، خاركيف، أثناء فترة الاحتلال التي استمرت ستة أشهر وانتهت منذ أشهر قليلة. ويقول إن العمل كان سرياً لدرجة أنه لم يعلم بأن جاره الذي يسكن فوق شقته بعدة طوابق عمل هو الآخر على إخطار الأوكرانيين بالمواقع الروسية.
ويقول لـ"اندبندنت" من مكان سكنه الحالي في خاركيف "كان أحدنا يرى الآخر كل يوم دون أن نعلم أبداً بأننا نقوم بالعمل نفسه". نتكلم ونحن نجلس في الظلام - فالكهرباء مقطوعة عن مبناه السكني بسبب القصف الروسي على محطة الكهرباء القريبة.
ويضيف "تبين بأن نحو 10 أشخاص أعرفهم كانوا يقومون بهذا العمل، ومن بينهم امرأة لديها ابنتان. لكننا لم نكتشف ذلك سوى بعد تحرير البلدة".
علم إيغور بأنه سيكون على رادار روسيا لأنه شغل سابقاً وظيفة حارس سجن ثم رجل إطفاء. كما كان لديه وشم كبير على جسمه يظهر ولاءه لأوكرانيا، لذلك لم يكن خيار الهرب من الأراضي المحتلة متاحاً بالنسبة إليه: فلن ينجح في اجتياز عملية الفرز.
لحسن الحظ، كان مسجلاً ضمن سكان خاركيف رسمياً، ووجوده في بالاكليا كان محض صدفة من أجل التعافي من حادثة سيارة، عندما اندلعت الحرب.
وتابع بقوله "عندها أدركت بأنه لا يمكنني الجلوس هنا فحسب، علي أن أفعل شيئاً. لو قدر لي الموت، يجب أن أموت بطريقة محترمة وأنا أقدم شيئاً لبلادي. لذلك، بدأت بالاتصال بالجيش الأوكراني من خلال أصدقائي، ونقلت لهم كل ما كنت أراه".
في البداية، يقول إن العمل كان سهلاً نسبياً. فقد استولى الروس على بالاكيا بسرعة وكانوا يركزون جهودهم على العاصمة الإقليمية المجاورة، خاركيف. مر بعض الوقت قبل أن يبدؤوا بحفر الخنادق وزرع الألغام في الحقول حول المدينة ووضع نقاط تفتيش داخل البلدة.
لكن نقل المعلومات أصبح أخطر وأخطر حين بدأت القوات الروسية بقطع إشارات الهواتف المحمولة وقطع الإنترنت. كانت الأماكن التي يمكن الاتصال منها بالأشخاص داخل الأراضي الواقعة تحت سيطرة أوكرانيا معدودة في البلدة. وأي شخص يقبض عليه وهو في طريقه إلى تلك المناطق يعتقل.
ويضيف إيغور "كان الناس يختفون بسبب هواتفهم. وقع بعض أصدقائي في الأسر، وعذبوا واحتجزوا داخل مخفر الشرطة. بدؤوا بالتنصت على اتصالاتنا".
جمع إيغور 10 هواتف مختلفة لا يمكن تتبعها وشرائح هاتفية، وهي أجهزة قديمة تركها الهاربون وراءهم. كان من حسن حظه أنه قادر على استخدام عدة شقق فارغة لأن أقرباءه قد غادروا المدينة عند بداية الحرب.
ويشرح وهو جالس وسط انقطاع التيار في خاركيف "أخذت أتنقل باستمرار"، لافتاً "توصلنا إلى لغة مشتركة ورموز كي يتسنى لي نقل إحداثيات موقع المركبات المصفحة ونقاط التفتيش وأماكن وجود وحداتهم".
أوشكوا على كشفه مرتين. مرة، أنقذته جارة مسنة اعتقدت بأنه في خاركيف وأوقفت عملية اعتقاله عن غير قصد عندما أخبرت الجنود الروس بأن الشقة التي يستعدون لمداهمتها فارغة.
وفي المرة الثانية، أنقذته عودة التيار الكهربائي المفاجئة التي أقفلت باب العمارة حيث كان يختبئ.
ويقول "أعطاني ذلك وقتاً كافياً كي أنزل إلى القبو الذي يمتد كالمتاهة على عرض المبنى. كسرت الهاتف إلى عدة قطع واختبأت هناك حتى غادروا".
ويشير إلى أن انعدام ثقة الروس بالأوكرانيين كان قوياً وبحلول نهاية الاحتلال "كانوا كما استخبارات الاتحاد السوفياتي، كي جي بي، لكن أسوأ بعشرة أضعاف" [كانت كي جي بي معروفة بارتيابها بأي نشاط].
ويضيف "حملوا كراهية خاصة للأوكرانيين. لم تعجبهم حتى القوات [الانفصالية المدعومة من روسيا] لأنها أوكرانية".
دعم عمل إيغور الاستخباراتي الجهود المسلحة للمحاربين الشعبيين المختبئين في الغابة داخل المنطقة الرمادية [غير خاضعة لسيطرة أي من الطرفين].
أحد هؤلاء هو ديما، 26 سنة، الذي ظل مختبئاً أشهراً عدة في المناطق الريفية التي تبعد نحو 50 كلم إلى جنوب بالاكيا، خارج إيزيوم المحتلة. ويشرح العنصر في قوات الدفاع الميدانية كيف هاجمت كتيبته الدوريات الروسية من مواقعها السرية، فساهمت فيما تحول لاحقاً إلى هجوم أوكراني مضاد ناجح.
عاشوا في أرض لا تقع تحت سيطرة أي فريق - وهي أراض خطرة جداً على الجبهة كانت بمثابة منطقة عازلة بين الطرفين. اعتاد المقاومون الشعبيون الأوكرانيون التسلل داخل المناطق التي يحتلها الروس كي يجمعوا المعلومات الاستخبارية ويهاجموا المواكب الصغيرة.
وحفروا الخنادق داخل الغابة كي يقضوا فيها الشتاء القارس أو اختبؤوا داخل المنازل الفارغة، وكانوا دائمي التنقل.
يقف ديما بجانب دبابة خسرها الروس في مخيمه الجديد حيث يستعد وكتيبته لدعم تقدم أبعد شرقاً، ويقول "كنا على اتصال بشبكة داخل مدينة إيزيوم، سكان محليون يمكنهم تهريب معلومات لنا. استخدمناها لشن هجمات على مواكب صغيرة". لا يمكن لـ"اندبندنت" أن تكشف عن موقع المخيم.
ويتكلم عن بعض الأحداث التي كادت أن تكشف غطاءهم. منذ أشهر قليلة، بعد أن شنوا هجوماً على موكب صغير، لاحظوا وجود مجموعة من الدبابات الروسية. ويتابع ديما بقوله "كنا ثلاثة أشخاص ليس إلا، عالقين ولا نملك أي أجهزة لتدمير هذا النوع من المركبات. لا أعلم كيف خرجنا أحياء".
ويشير إلى أن أكثر الجوانب المقلقة في عمله هي أن عائلته كانت ما تزال داخل إيزيوم، مما يعرضها لخطر شديد لو كشف عن أمره. ويردف بقوله "لكن العمل على استعادة المدينة وعلى تحقيق انتصارنا كان الأهم".
وهذا ما يحفز الحركة في كل المدينة على رغم المخاطر.
مذاك، علم إيغور بأن ثلاثة من أصدقائه، وجميعهم أفراد متطوعون في المقاومة، مفقودون. بينما ماريا مضطرة أن تعيش كل يوم في خيرسون وهي تعلم بأنه قد يكون آخر يوم لها هي وعائلتها. أما ديما فيقول إن جزءاً من عملهم الآن هو اقتلاع الأوكرانيين الذين تعاونوا مع الروس، فيما يعدون العدة لتحرير مزيد من الأراضي.
لكنهم يواصلون العمل. ويقول فولوديمير، مفسراً سبب استمرار الناس في الالتحاق بالمقاومة كل يوم "من المؤكد أن نصف الجيل الأصغر على الأقل يدرك بأنه ليس مضطراً للخوف، وبأن روسيا عدو وعليهم حماية أنفسهم لكي ينجوا".
ومن جهته، يقول إيغور إنه السبيل الوحيد لوضع حد للكابوس الذي لم يروه قبل هذه الحرب سوى "في الأفلام والكتب". ويضيف بهدوء "كلما ساعدت الجيش الأوكراني أكثر، يصبح التحرير أسرع، وينتهي كل هذا العذاب وكل هذا الكابوس. إن الحافز هائل".
© The Independent