على مشارف عشر سنوات من حبريته، التي بدأت في 13 مارس (آذار) من عام 2013، ها هو البابا فرنسيس، قبل نهاية العام، يصدر كتاباً جديداً يحمل عنوان Vi chiedo in nom di Dio
Dieci preghiere per un fouturo di speranza "أسألك باسم الله/ عشر صلوات من أجل مستقبل من الأمل"، الذي قام بتحريره الصحافي "هرنان رييس ألكايد"، وقد صدر باللغة الإيطالية.
لماذا اختار فرنسسيس الأمل موضوعاً لكتابه الذي يستقبل به عقداً على حبريته المليئة بالتجديد والتغيير داخل المؤسسة الرومانية الكاثوليكية؟
الشاهد أنه منذ بدايات بابويته، عمد فرنسيس لأن يكون مصلحاً داخل جدران الفاتيكان، وقد أحدث جلبة واسعة إيجابية عند كثيرين، وإن تحفظ عليها البعض، كما قام بفتح جسور التواصل الوجداني والإنساني مع كثير من أمم وشعوب المسكونة، وقد كان للعالمين العربي والإسلامي نصيب وافر من تلك الرؤى التجديدية التسامحية والتصالحية، ما تمثل في زيارة الإمارات العربية المتحدة عام 2019، وبعدها المغرب والبحرين والعراق.
اعتبر فرنسيس في مؤلفه الجديد أن العالم في حاجة ماسة لدعاة سلام، لا سيما منذ فبراير (شباط) الجاري، حيث اشتعلت المعارك بين روسيا وأوكرانيا، ولم ينفك الرجل ذو الثوب الأبيض يبذل الجهود، سواء الظاهرة العلنية، أو في الكواليس من أجل وقف الحرب وإتاحة الفرصة للحوار والجوار ومن ثم الوصول إلى السلم المنشود.
كتاب "أسألك باسم الله"، دعوة لدول العالم وشعوبه، في طريق بناء عالم خال من الحروب يعمه السلام، دعوة واقعية وليست بيوريتانية طهرانية لا توجد إلا في أذهان الفلاسفة، كما حال جمهورية أفلاطون، أو مدينة الفارابي الفاضلة.
الحل والحرب
في هذا السياق نجده في المقدمة يستهل النص بالتذكير بما تؤمن وتعلم به الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، من أن الحرب لا يمكنها أن تحل المشكلات بين الأمم، ويعلو صوت فرنسيس بالقطع أن الحرب هي هزيمة مؤكدة للبشرية برمتها.
ليس سراً القول إن فرنسيس، ومنذ مارس المنصرم، بذل جهوداً كبيرة مع المؤسسة الروسية الأرثوذكسية بقيادة البطريرك الروسي كيريل، وهناك حوار متلفز دار بين الرجلين استمر لمدة أربعين دقيقة حاول فيه بابا روما أن يقنع بطريرك موسكو، "بأننا خدام الدين وليس السياسة"، لكن من الواضح أن كيريل، الذي كان يقرأ من ورقة مكتوبة، بدا في عالم آخر، عالم مؤدلج سياسياً، وهو ما يتسق وكونه المرشد الروحي للقيصر بوتين، الذي اعتبره هدية من السماء للشعب الروسي.
في سطور الكتاب، يرى فرنسيس أن الحرب في أوكرانيا، قد أماطت اللثام من جديد عن فظائع الحرب، مشيراً إلى التعاقب السريع للحربين العالميتين في القرن الماضي.
والمعروف أنه وحتى قبل اندلاع المعارك بين الروس والأوكران، كان فرنسيس قد أخذ ينذر ويحذر من أن العالم دخل بالفعل في زمن الحرب العالمية الثالثة، مع كل الأهوال التي يمكن أن تحملها في طياتها من موت للملايين وخراب للعالمين على نطاق واسع جغرافي وديموغرافي غير مسبوقين.
في سطور الكتاب نجد ما يمكن اعتباره رفضاً لمفهوم قديم قال به عدد من الفلاسفة والمفكرين، وبعضهم من قلب المؤسسة الرومانية الكاثوليكية مثل سان أوغستين، وسان توماس أكوينس، أي مفهوم الحرب العادلة، أو Guerra justa وفكرة الحرب العادلة نجدها كذلك في التراث اليوناني واليهودي والإسلامي، وتدور حول العوامل التي تحدد عدالة الحروب من حيث شنها، وإدارتها في ظل المنظومة الأخلاقية ووفق شروط العدالة.
يذهب فرنسيس إلى أن "الأحداث التي جرت بها المقادير في العقدين الأولين من هذا القرن، تجبرني على أن أقول بشكل لا لبس فيه، إنها لا توجد مناسبة يمكن فيها اعتبار الحرب بأنها عادلة، لا يوجد مكان على الإطلاق لبربرية الحرب، لا سيما عندما يكتسب الخلاف أحد أكثر الوجوه ظلماً، أي وجه ما يسمى بالحرب الوقائية".
تكاد سطور فرنسيس في كتابه الأحدث، أن تكون رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للرسالة العالمية، التي كتبها سلفه البابا يوحنا الثالث والعشرين (1881-1963) الشهيرة والمعروفة باسم Pacem in terries أو "السلام على الأرض"، تلك التي صدرت في أبريل (نيسان) من عام 1963، بعد أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، تلك التي كادت تشعل حرباً عالمية نووية، ما بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق.
الأسوأ النووي
هل التاريخ يعيد نفسه، ولهذا يأتي كتاب فرنسيس منذراً ومحذراً من الأسوأ النووي الذي لم يأت بعد؟
بحسب كارل ماركس، نعم التاريخ لا يعيد نفسه، لكن في غالب الأمر، تتشابه أحداثه، وهذا ما يجعل المخاوف اليوم تضرب بشدة جراء الأزمة الأوكرانية، والهلع من اندلاع مواجهة نووية، سواء كانت مقصودة أو بسبب تداعيات الأحداث وسخونة الرؤوس.
في مؤلفه الجديد، يشدد فرنسيس على أنه ما من مكان للحرب، ويمكن بالتبعية تبريرها، واعتبارها حلاً، وبدلاً من ذلك يدعو خليفة بطرس كبير الحواريين، إلى الانخراط "في الحوار والمفاوضات والإصغاء والدبلوماسية الإبداعية والسياسات بعيدة النظر، التي يمكن من خلالها أن نبني نظاماً عالمياً، يعتمد على قوة السلاح أو الردع".
عطفاً على ذلك، يقطع بابا الفاتيكان بأن "السلام يجب أن يكون دائماً هدف السياسة الخيرة، كما يجب على المسيحيين الصالحين أن يسعوا دائماً للحوار مع الآخرين".
"باسم الله أطلب إنهاء جنون الحرب القاسي"، هذه هي صيحة فرنسيس في عمله الجديد، وكأنه يستهل عامه الحادي عشر من بابويته، في ظل أوضاعه الصحية المثيرة للقلق، بالدعوة إلى سلام عاجل وعادل يقي البشرية من "الفشل الحقيقي للسياسة"، فالحرب في أوكرانيا على حد تعبيره، "وضعت ضمائر الملايين من الناس في الغرب في مواجهة واقع قاس لمأساة إنسانية كانت موجودة بالفعل منذ بعض الوقت" و"أظهرت لنا شر رعب الحرب".
لا تتوقف دعوات فرنسيس في كتابه وصلواته العشر عند حدود وقف الحرب الأوكرانية الروسية، أو أي حرب دائرة جائرة على سطح الكرة الأرضية في هذا التوقيت فحسب، بل إنه يسعى في طريق استئصال شر الحروب من خلال التخلص من أسلحة الدمار الشامل، تلك التي تهدد البشرية بالزوال المميت والمخيف، كما يطالب السلطات السياسية بأن تتوقف عن التلاعب بالمعلومات ولا تخدع شعوبها بأهداف واهية لجرها إلى حروب مهلكة.
يخصص البابا فرنسيس من الكتاب عينه جزءاً واضحاً لإدانة إنفاق العالم على التسليح، ويعتبر الأمر من أخطر الفضائح الأخلاقية في العصر الحالي.
كلمات فرنسيس تظهر وعن حق حالة التضاد الأخلاقي القائمة في الذات الأممية شرقاً وغرباً، ففي حين يتحدث البعض عن السلام، يعملون على الترويج لتجارة السلاح أو السماح بها.
ينبه فرنسيس إلى خطر الإزدواجية الأخلاقية التي تمارس شرقاً وغرباً، لا سيما من قبل الدول التي تبرع في تجارة وبيع أسلحة الموت، وفي الوقت عينه تغلق حدودها أمام اللاجئين والمهجرين، وضحايا الحروب التي أشعلوها بأسلحتهم، الأمر الذي يعد على حد قوله، "خيانة لروح الآباء المؤسسين"، وهي عبارة خفية يقصد بها قطعاً الولايات المتحدة الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النسيان والإنذار
هل الإنسانية مصابة بداء النسيان؟
هذا ما يقطع به فرنسيس، إذ يؤكد على أن "سباق التسلح هو دليل على النسيان، الذي يمكن أن يغزونا"، أو الأسوأ من ذلك، ففي عام 2021 وفي خضم الوباء، وصل الإنفاق العسكري العالمي، أرقاماً غير مسبوقة من قبل، والعهدة على بيانات مركز أبحاث السلام في ستوكهولم.
هل يجيء كتاب فرنسيس ليحمل إنذاراً لعالمنا المعاصر؟
أغلب الظن أن الأمر على هذا النحو، وعنده أن الجائحة والحرب والمناخ والأزمة السياسية والاجتماعية جعلت من زمننا الحاضر أرضاً هشة نسير عليها، وبات معها المستقبل مجهولاً مخيفاً.
وفي مثل هذه الأجواء المخيفة والخانقة، يصبح الحفاظ على نور الأمل مشعاً مهمة صعبة بشكل متزايد، ومع ذلك فإن هذا الضوء بحسب فرنسيس، ومهما كان خافتاً، يستمر في السطوع.
جوهر كتاب فرنسيس الجديد، يتمحور حول لجوئه إلى الجميع، مؤمنين وغير مؤمنين، للصلاة من أجل منزل مشترك مسالم متحرر من الفقر، محروس لأجيال قادمة بأبواب مفتوحة للآخرين من أجل إنسانية ترفض جميع أنواع الإساءة، وتقر بكرامة كل شخص وتكافؤ الفرص بين النساء والرجال.
يرفض فرنسيس أن يستخدم اسم الله لتبرير الحروب أو إثارتها لأنه "إذا كان صحيحاً أن العالم يظهر لنا اليوم كمكان قاتم وغير مضياف، فإن الطريق للخروج من الظلام موجود، ويتتبعه كل أولئك الذين بفضل الله وبفضل الحب، جعلوا أنفسهم "حجاج رجاء"، الشعار الذي اختاره الأب الأقدس ليوبيل 2025، أي السنة المقدسة التي يحتفل بها في روما عاصمة الكثلكة مرة كل ربع قرن".
مثير أمر ساكن القصر الرسولي، الذي بدا أخيراً مقعداً على كرسي متحرك تارة، ومستنداً أو متوكئاً على عصاه تارة أخرى، ذلك أنه في حين يتساءل البعض، هل سيقدم فرنسيس استقالته من مهمات البابوية عما قريب، بل إن بعضهم كاد يجزم بأن الحدث قريب، وتحولت أداة الاستفهام إلى متى وليس هل؟ ... نجد فرنسيس مهموم ومحموم بأمور كوسمولوجية أخرى وبواقع حال العالم، لا يسمح لظلمة الليل أن تقطع الأمل في فجر جديد للخليقة، وبتواصل إيماني بين البشر من أقصى الأرض إلى أدناها، ولهذا لا يتوقف عن العطاء غير مبال بقادم مستقبله الشخصي.