لعل ما يميز معرض جدة للكتاب هو ابتعاده عن المواصفات الجاهزة التي تتسم بها معظم المعارض العربية أو تسبغها على نفسها. هذا معرض للكتاب العربي، بحسب ما أطلقته عليه أصلاً هيئة الأدب والنشر والترجمة التي تقيمه وتشرف عليه. لكن الصفة العربية تكتسب هنا أجمل تجلياتها وأرقاها، فالمعرض يقدم صورة بانورامية شاملة عن النشر العربي وفي طريقة طبيعية وأليفة. فمعظم دور النشر العربية المهمة أو الأساسية موجودة هنا، وجوداً مباشراً أو تمثيلياً، وكذلك معظم الإصدارات العربية الجديدة، مما يتيح للزائرين أن يطلعوا على أحدث العناوين في عالم الأدب والعلوم الإنسانية والعلم والسياسة... وأكد الروائي الدكتور محمد حسن علوان الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة في وزارة الثقافة أن معرض جدة عربي ومتفرد في دوره هذا، بينما معرض الرياض معرض عربي دولي يتولى مهمة استقبال ضيف الشرف الذي يختلف سنة تلو أخرى.
زائر معرض جدة للمرة الأولى يكتشف معرضاً لا يشبه إلا نفسه، سواء بجماليته الخارجية التي تمثلها القبة الزرقاء الكبيرة والتي تسمى "سوبر دوم" وتطل على الكورنيش الممتد في منطقة أبجر الجنوبية، أو في هندسته الداخلية وتوزيع الأجنحة توزيعاً دائرياً يساعد الزائر على إيجاد الدور التي يقصدها، أو في الأجنحة المنفردة المشيدة داخل المعرض نفسه التي تتعدد أشكالها وأحجامها، علاوة على المقاهي وزوايا القراءة والتوقيع... يشعر الزائر بمقدار من الدهشة مصحوبة بالألفة، فلا بذخ مجانياً ولا مبالغة في الديكورات، بل إن الجو العام للمعرض يشعر هذا الزائر بأنه في مدينة صغيرة للكتب والفن والمسرح والندوات واللقاءات الشعرية. وبدت فكرة وضع شاشة كبيرة في إحدى زوايا المعرض، بعيداً من الأجنحة وقاعات المحاضرات والندوات، تبث مباريات كرة القدم، فريدة بذاتها، وهي مفتوحة أمام الزوار الذين يودون متابعة هذه المباريات بهدوء وبلا ضجيج.
الكتاب العربي
معروف أن معرض جدة انطلق عام 2015 وتوقف في سنوات انتشار وباء كورونا، مثله مثل معارض الكتب العربية. لكنه خلال هذه الأعوام غير الطويلة نسبياً، تمكن من فرض نفسه عربياً، مثله مثل معرض الرياض، وبات يجذب الناشرين العرب الذين يعدونه الثاني بعد الرياض من ناحية الإقبال على الشراء أو المبيع. لكن معرض الرياض في دورته الأخيرة، وفق ما يقول ناشرون في معرض جدة، حقق تقدماً باهراً، عربياً وعالمياً، حتى ليمكن وصفه بأنه الأول بين المعارض العربية.
أما برنامج الندوات واللقاءات والأمسيات الشعرية والأدبية، فشاءت إدارة المعرض أن يكون متنوعاً، سعودياً وعربياً وأجنبياً، ودعت بعض المستشرقين من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، ليشاركوا ويتحدثوا عن قضايا عدة من وجهة نظرهم. واختيرت عناوين الندوات والجلسات اختياراً مدروساً، فالقضايا التي تمثلها العناوين مرتبطة بحقائق تاريخية وأسئلة معاصرة وبهموم الثقافة الحديثة والواقع الراهن. وأولت الإدارة اهتماماً واضحاً بالفن التشكيلي والمسرح والسينما وفن "المانغا" والشرائط المرسومة وسواها. وأحيت محترفات وورشاً فنية وكتابية ومسرحية تتوزع خلال أيام المعرض. ومن العناوين التي اختارتها الإدارة للندوات واللقاءات، "فيلولوجيا اللغة العربية"، "السرد والذاكرة الثقافية"، "التبصر القرائي في العصر الرقمي"، "القصة القصيرة"، "اللغة والهوية"، "الترجمة الشعرية"، آداب الأقليات"، "أدب اليافعين والأطفال"، "البيئة في الأدب"، "الثنائية اللغوية"، "السيرة الذاتية"، "المسرح وشباك التذاكر"، "الفنون الرقمية"، "فن العمارة"، "المجلات الثقافية" و"الرحلة الفرنسية إلى جدة".... أما الندوة اللافتة فهي ندوة تكريم الشاعر السعودي الرائد محمد علي. ويشارك في الندوة مساء الجمعة المقبل، الشاعر محمد الحزر، الكاتب البحريني حسن مدن، الناقد أحمد الهلالي، الناقد حسين بافقيه، وتدير الندوة الكابة ريم الفواز.
المقالة الصحافية
من الندوات اللافتة التي شهدها معرض الكتاب ندوة بعنوان "ما لم تقله المقالة: تجارب وشهادات"، أدارها الأكاديمي السعودي محمد الخازم وتحدث فيها الكاتبان اللبنانيان سمير عطا الله وحازم صاغية.
رأى الكاتب سمير عطا الله أن الصحافة الخليجية، والسعودية تحديداً، تقدمت نحو المراتب الأولى بعدما قدمت للعاملين فيها شروط العيش الكريم والاستقرار والكرامة والشهرة في العالم العربي. وأشار إلى أن الصحافة الورقية ما زالت باقية ويجب عدم التخلي عنها، فإليها يرجع الفضل في تحسن الوضع الاجتماعي، إضافة إلى فضلها على اللغة، مؤكداً استمرار المقالة القصيرة وأن الوسائط الحديثة مثل "تويتر" و"فيسبوك" لن تؤثر فيها سلباً.
أما الكاتب حازم صاغية، فربط تطور الصحافة باستقرار البلد الذي تصدر فيه لأن المهن في نظره لا تنمو في عالم غير مستقر. وأكد أن كاتب المقالة يعجز أحياناً عن استشراف المستقبل لغياب العقلانية، وقال إن "المقالة الصحافية لن تندثر، ولكن يجب أن تتغير لتبقى". وطالب بالتركيز على التحليل أكثر من استشراف المستقبل، معترفاً بتراجع الصحافة الورقية وأن زوالها مرحلة انتقالية تتعايش فيها أجناس مختلفة.
الترجمة الشعرية
وعقدت ندوة بعنوان "شعر العالم عبر وسيط: الغاوي الأمين"، قدمها المترجم والشاعر حسن الصلهبي وشارك فيها الشعراء، السوري نوري الجراح واللبناني عباس بيضون والتونسي آدم فتحي.
بيّن الشاعر حسن الصلهبي في تقديمه أن الحديث عن الترجمة الشعرية يأتي بوصفها مؤثراً مهماً في خلق التواصل بين الثقافات وهي تسهم في التعرف إلى رؤى متعددة وأفكار جديدة. واعتبر الترجمة عنصراً أساساً في تشكيل ثقافتنا وشعرنا ومشهدنا الثقافي.
الشاعر عباس بيضون اعتبر ترجمة أدونيس لشعر الفرنسي سان جون بيرس فتحاً في الشعر العربي، وقال إن الانتقادات التي طاولت الترجمة في وقتها خدمت هذه الترجمة. وأشار إلى أن كثيراً من الترجمات العربية لم تكن في المستوى المأمول، إلا أنها طورت لغة الشعر وتوجهاته وغذت الصور الشعرية في القصائد الحديثة، مؤكداً أن الترجمة هي تواصل بين اللغات، كما أنها مواجهة بينها. ورأى أن الأعمال المترجمة تنبع من الأصل وأن الترجمة هي قراءة ثانية للنص واستحضار له في لغة مقابلة.
في حين عرض الشاعر آدم فتحي لمباراة المغرب الأخيرة في كأس العالم أمام بلجيكا، بوصفها نصاً إبداعياً، وقال إن الترجمة هي أكبر رافد يمد لغتنا الأم بالطاقة والروح ويحرك فيها الثابت. وطالب المترجم بأن يترصد النصوص الملهمة التي تكون محملة باللقاح وأن عليه البحث عن نص يفجر الإبداع في لغته الأم ليجددها في حياة جديدة، معتبراً أن النص وليمة والترجمة التهام للنصوص.
وأكد الشاعر نوري الجراح دور الترجمة العربية في حفظ تاريخ الثقافات الإغريقية والفلسفية، قائلاً إن هناك تاريخاً كبيراً للترجمة في الثقافة العربية. ونوه بالمراحل المتعددة التي مرت بها حركة الترجمة، بحيث أعيدت ترجمة نصوص كثيرة تكاد تكون مختلفة تماماً عن ترجماتها السابقة.
النشر الرقمي
ونظمت هيئة الأدب والنشر والترجمة مؤتمراً مهماً حول النشر الرقمي، تناول خلاله عدد من المتخصصين والكتاب والناشرين، جملة من المواضيع المتعلقة بالنشر الرقمي ودوره في تسهيل التعلم والقراءة، لا سيما لدى فئة ذوي الإعاقة، إضافة إلى خلق الفرص ومواجهة تحديات التعلم من خلال هذا النشر وقضايا النشر عموماً، والذكاء الاصطناعي وكيفية توظيفه في مجال الطباعة والنشر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأقميت ندوة في هذا السياق بعنوان "النشر الرقمي يسهل التعلم والقراءة"، أدارها رئيس مجلس إدارة جمعية الترجمة الدكتور محمد البركاتي بمشاركة الدكتور مايكل جونسون نائب رئيس "بنتش"، ولورا برادي المتخصصة في علم الوسائط المتعددة، ونورة الجبالي مستشارة هيئة الأشخاص ذوي الإعاقة، والدكتور مهنا المهنا مستشار في شؤون وكلاء الجامعة بوزارة التعليم، والدكتور محمود مسرورة مستشار خدمات مكتبة نسيج وإدارة المعرفة. وأكد المتحدثون أهمية النشر الرقمي والقنوات الرقمية في وصول الكتب إلى كل عناصر المجتمع على اختلاف تطلعاتهم وثقافاتهم وميولهم، خصوصاً فئة الأشخاص ذوي الإعاقة وكيفية خدمتهم، في العصر الذي تتسارع فيه صناعة المحتوى وتقنية المعلومات.
وفي بادرة مهمة سلط معرض جدة للكتاب 2022 الضوء على فن القصص المصورة ("أنمي") وفن "المانغا" للرسوم اليابانية عبر تخصيص أجنحة تضم أنشطة عدة، ومنها محاورة مؤلفي كتب رسوم "المانغا" والقصص المصورة. وشهد المعرض إقامة أول مؤتمر للخيال العلمي في المملكة الذي استضاف كتاباً ومؤلفين من ذوي الخبرة في الكتابة الإبداعية، متيحاً الفرصة لهواة الكتابة لعرض ومناقشة مسودات من أعمالهم في عالم الخيال العلمي وتبادل الآراء والاستفادة من خبراتهم لإنتاج أعمالهم، عطفاً على تجارب تفاعلية في مختلف المسارات، إلى جانب تخصيص جلسات لنوادي القراءة لمناقشة كتب الخيال العلمي.