مع إعلان الولايات المتحدة أنها تحتاج إلى شركاء أقوياء في مواجهة تحديات هذا القرن من تغير المناخ والهجرات البشرية والأوبئة، إلى تهديدات الديمقراطية، لا يبدو أن إعادة التوازن إلى العلاقة بينها وقارة أفريقيا وتقاسم الأعباء بشكل متساو سيكون عادلاً. فهذه التحديات منها ما هو دولي لا يكاد إسهام أفريقيا فيها يذكر مثل تغير المناخ، ومنها الخاص بالقارة الغنية بثرواتها الطبيعية والمنكوبة بالحروب والفقر والجهل.
تتوقع الإدارة الأميركية أن شريكها الجديد الحيوي (أفريقيا) يجب أن يكون "فاعلاً جيوستراتيجياً وصاعداً". ومن هنا جاءت القمة الأميركية- الأفريقية متفائلة، بدا ذلك خلال جلساتها في واشنطن من 13 إلى 15 ديسمبر (كانون الأول) الحالي بحضور قادة 49 دولة أفريقية، ولم ينتقص من هذا التفاؤل استثناء أربع دول معلقة عضويتها من قبل الاتحاد الأفريقي لحدوث انقلابات عسكرية فيها، مع أن القمة شملت دولاً دانتها الولايات المتحدة من قبل بانتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية.
جاء جدول أعمال القمة وهي الثانية بعد قمة أوباما التي عقدت عام 2014 بخمسة تحديات رئيسة، هي مكافحة الإرهاب والتعافي من كورونا والحفاظ على المناخ والانتقال العادل للطاقة. ومع أنه لم يشتمل على الصراع الأميركي- الصيني في أفريقيا، لكن الرئيس جو بايدن وإدارته سبق وحذرا صراحة من تعاون بعض دول القارة مع الصين.
إذاً التحذير من الصين والتنافس بينها والولايات المتحدة على أفريقيا حاضران في ثنايا القمة، ربما يكشف عنهما تسليط الضوء الكثيف على كيفية تعزيز الولايات المتحدة والدول الأفريقية شراكاتها وتطوير أولوياتها المشتركة وعكس الاستراتيجية الأميركية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والتركيز على التجارة والاستثمار في أفريقيا.
باختيار قارة أفريقيا كشريك، يعني أن استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة تضع تطور أفريقيا كمحدد رئيس للمستقبل العالمي لهذا القرن، بالنظر إلى تصنيف أفريقيا كقارة شابة غالبية سكانها وقوتها العاملة من الشباب، من مجموع سكانها البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة بما يمثل 17.8 في المئة من سكان العالم الذي بلغ عددهم 8 مليارات نسمة في نوفمبر (تشرين الثاني) من هذا العام.
اللحظة الحرجة
على رغم تأكيد مسؤولي إدارة بايدن أن المخاوف في شأن الصين وروسيا لن تكون مركزية في المحادثات، إلا أن القمة لم تتجاهل، بل لفتت من طرف خفي إلى أن وجود قوى أخرى مثل الصين وروسيا ستعوق بناء شراكة اقتصادية وسياسية وديمقراطية جديدة مع أفريقيا. وقبل انعقاد القمة كشفت إدارة بايدن عن رغبتها في تقريب الدول الأفريقية من الولايات المتحدة، مرفقة بما أوضحته من أنها تعتقد بأن النشاط الصيني والروسي في أفريقيا يمثل مصدر قلق كبيراً للمصالح الأميركية والأفريقية. وحذرت في استراتيجيتها لأفريقيا جنوب الصحراء التي كشف عنها في أغسطس (آب) الماضي من أن الصين التي ضخت مليارات الدولارات للاستثمار في الطاقة والبنية التحتية الأفريقية، تعد المنطقة ساحة يمكن لبكين فيها "تحدي النظام الدولي القائم على القواعد وتعزيز مصالحها التجارية والجيوسياسية الضيقة مما يقوض الشفافية والانفتاح".
لم تشأ إدارة بايدن التركيز أكثر عبر التصريحات المعهودة القديمة لإظهار ضيقها بالنفوذ الصيني في أفريقيا في هذا الوقت لسببين، الأول هو تأجيل المعركة مع الصين في أفريقيا والاحتفاظ بها، وبدلاً من الدخول فيها، استخدام التحذير بالقدر الذي يلبي شروطها للشراكة مع أفريقيا. وللتخفيف، انطوى تحذيرها على المنافسة أكثر منه على الخلاف، كما ضم التحذير من الصين دولاً أخرى مثل روسيا وتركيا.
أما السبب الثاني، فهو أنه في هذه اللحظة الحرجة يتزامن حدثان مهمان هما القمة الأميركية- الأفريقية في واشنطن، ثم زيارة وفد أميركي رفيع المستوى إلى بكين لمتابعة المحادثات التي أجراها بايدن مع نظيره الصيني شي جينبينغ وتعهدهما بإصلاح العلاقات أثناء وجودهما في قمة بالي بإندونيسيا في نوفمبر ولمناقشة سبل تحسين العلاقات الثنائية وقضية تايوان مع مسؤولين صينيين وللتحضير لزيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى بكين أوائل العام المقبل.
من أجل ذلك لم تذهب واشنطن بعيداً في إظهار كمية التنافر بينها وبين بكين على أفريقيا، حتى لا يطغى على الرسالة التي ألقتها إدارة بايدن في روع القادة الأفارقة، بأن "الشراكة بين الولايات المتحدة وأفريقيا ضرورية لمعالجة القضايا العابرة للحدود والمصلحة الأساسية المشتركة بتحسين النمو والأمن".
من يرجح الكفة؟
ربما لن يكون سهلاً على الولايات المتحدة وهي تضع الشروط الديمقراطية وحقوق الإنسان في مقدمة أولوياتها متقدمة على إزالة الفقر والجهل والجوع، أن تنافس الصين في هذا المجال، فالتجربة الصينية أثبتت أن الأمر سهل بالنسبة إلى بكين، مدفوعة بنهمها إلى النفط المحرك الرئيس لنموها الاقتصادي. وسهولة الأمر ليست من ناحية إجرائية أو من ناحية التنفيذ وإنما يتعلق الأمر بما يريده القادة الأفارقة بطرق يمكن أن تجعلها كما وصفت "شريكاً مثالياً" لأفريقيا، تطبق أبرز بندين من مبادئ "مؤتمر باندونغ" الخمسة في القمة الأفرو-آسيوية بإندونيسيا في أبريل (نيسان) 1955 وهي "التعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن في الوقت ذاته، تطمع الولايات المتحدة في أن ترجح كفة شراكة أفريقيا معها لأنها تضع الاستثمار والتجارة في مقدمة محركات هذه الشراكة، وربما يلزمها ذلك التغاضي عن وضعها إحدى الوسائل لتحقيق الديمقراطية في أفريقيا. كما ستحتاج إلى سلسلة طويلة ومعقدة من التنسيق بينها والمؤسسات الإقليمية الأفريقية مثل الاتحاد الأفريقي و"إيكواس" و"إيغاد" وغيرها. وما يجدر ذكره هنا أن هذه المؤسسات لم يحدث أن حصلت على إجماع كامل من كل الدول الأفريقية، فضلاً عن أن اعتماد الولايات المتحدة على قرارات هذه الهيئات والمبنية على تفضيلاتها الخاصة، واتهامها بعدم الحياد ربما يضر بعلاقات واشنطن مع بعض الدول. فمثلاً في توقيت انعقاد القمة، كان مجلس السيادة الانتقالي السوداني وقع على "الاتفاق الإطاري" الذي يقضي بتسليم السلطة إلى المدنيين. وكان هذا أحد شروط إدارة بايدن للإفراج عن المساعدات التي وعدت بتقديمها إلى السودان، لكن مع إعلان أنها ستلتزم تقديم 55 مليار دولار للدول الأفريقية على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة كدليل على انفتاحها، استثنت السودان مع ثلاث دول أخرى هي بوركينا فاسو وغينيا ومالي.
مقارنة بين القوتين
ستختبر القمة الأميركية- الأفريقية مدى استعداد الولايات المتحدة لتنفيذ وعود الشراكة مع أفريقيا، وغالباً ما تتسم بالبطء في التنفيذ مقارنة بالصين التي تنتقل من الرؤية إلى العمل الملموس مباشرة، والمتحقق في تطور البنية التحتية وانتعاش الاستثمار واتساع التجارة، إذ تمثل أفريقيا أكبر الأسواق الصينية خارج البر الصيني.
تعقد المقارنة بين الصين والولايات المتحدة بناء على عوامل عدة، أولاً اللقاءات المشتركة بحيث تعقد الصين منتدى التعاون الصيني الأفريقي كل ثلاث سنوات منذ عام 2000 الذي ينظر إليه على أنه وسيلة مهمة لتعزيز المصالح الدبلوماسية والتجارية الصينية، بينما عقدت الولايات المتحدة قمتين فقط، الأولى عام 2014. وتستند العلاقات الصينية- الأفريقية إلى العامل الاقتصادي بشكل أساسي بحيث تنظر الصين إلى أفريقيا على أنها مصدر لتغذية قاعدتها الصناعية المحلية التي تحتاج إلى كميات ضخمة من المواد الخام للمحافظة على معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة، بخاصة النفط والحديد الخام.
ثانياً، تنظر الصين إلى أفريقيا نظرة استراتيجية اقتصادية وتقدم نفسها للجميع على أنها دولة نامية لتضمن التقرب من الشعوب الأفريقية بعدما أدركت أهمية البعد الأفريقي كمصدر للمواد الخام، وكأكبر الأسواق المستهلكة للبضائع الصينية، إذ تمت زيادة عدد السلع المعفاة من الرسوم الجمركية بين الصين وعدد من دول أفريقيا، كما تقدم الصين معونات وقروضاً بنسبة فائدة متدنية وتسهيلات في الدفع. ربما كان على أميركا كسب ثقة الأفارقة بتبني خطة المساعدة الذاتية الأفريقية كفرصة منفردة للولايات المتحدة لتحويل دورها في أفريقيا، مثلما تعهد بلينكن أخيراً بتحويل الشراكة بين بلاده وأفريقيا من نموذج غير فاعل منذ فترة طويلة "للمساعدة الإنمائية" إلى نموذج متساو وشراكة فاعلة.
ثالثاً، زادت الصين بشكل منهجي من مشاركتها في أفريقيا لأكثر من 30 عاماً حتى الآن، وعلى رغم جذور علاقاتها التجارية الممتدة إلى آلاف السنين مع القارة الأفريقية منذ طريق الحرير القديم، إلا أن أنشطتها الاستثمارية بدأت بعد انفتاحها على العالم لمواكبة التنمية وبدءاً من تسعينيات القرن الماضي تكثفت استثماراتها النفطية، ثم تم إحياء "مبادرة الحزام والطريق". الأمر المهم الآخر هو أن دخولها إلى الاستثمار النفطي كان في أعقاب خروج الشركات الأميركية، وكان خروج شركة شيفرون من السودان من دون تحقيق إنجازات واستكشاف نفطي حدثاً بارزاً، في وقت دمجت بكين نشاطها بدخول كبرى شركاتها للاستثمار في استخراج الموارد من قبل شركات التعدين والطاقة الصينية في معظم البلدان الأفريقية مثل السودان وإثيوبيا وأنغولا وزامبيا وغيرها.
إجراءات استراتيجية
على رغم النشاط الصيني الكثيف في أفريقيا وهو الذي يصور أن الصين تركت أثراً أكبر مما تركته الولايات المتحدة منذ استقلال دول القارة، إلا أن الأفارقة يأملون في أن مشروعهم الضخم المتمثل في أجندة 2063 لن يكتمل إلا بإجراءات استراتيجية تعتمد على المساعدات من جهات عدة ودخول منظمات دولية ذات إسهامات فاعلة، أي إنها خطة دولية تتجاوز المصلحة المتبادلة بين شريكين ثنائيين مثل الصين وأفريقيا، ويحدوهم أمل في أن تجند الولايات المتحدة المؤسسات الدولية لتنفيذها.
بدأت أجندة 2063 عام 2013 لمدة 50 عاماً، وهي "خطة القارة للاستثمارات الضخمة مثل خطوط السكك الحديدية عالية السرعة وشبكات النطاق العريض والصناعات عالية التقنية والتجارة الحرة والتعليم الأوسع نطاقاً والعدالة ومبادرات السلام والأمن وتعزيز الأمن الغذائي ومرونة النظم الغذائية". كما تشمل "أفريقيا للحكم الرشيد والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون"، و"أفريقيا مزدهرة على أساس النمو الشامل والتنمية المستدامة"، وشراكات متعددة الأطراف مع أفريقيا لمواجهة التحديات العالمية.
ناقشت القمة الأميركية- الأفريقية هذه البنود وشملت أيضاً اجتماع وزراء التجارة بموجب قانون النمو والفرص في أفريقيا (أغوا) ومنتدى الفضاء الأميركي الأفريقي ومنتدى السلام والأمن والحكم والشراكة من أجل تعاون صحي مستدام والحفاظ والتكيف مع المناخ والانتقال العادل للطاقة.
التعاون لا العون
وفي السياق ذاته وضعت الصين خطة للشراكة مع أفريقيا لأكثر من 60 عاماً اعتمدت على فكرة المنفعة المتبادلة في التعاون في ما بين بلدان الجنوب، مما أشعل تأثيرها الاقتصادي والتجاري، الاهتمام العالمي. ناقش مدير مركز الدراسات الأفريقية وأستاذ التعليم الدولي والمقارن في جامعة إدنبرة كينيث كينغ ذلك في كتابه "المساعدات الصينية والقوة الناعمة في أفريقيا" مشيراً إلى أن "الصين تمتنع عن استخدام مفردة "العون" وتركز بشكل كبير على "التعاون" بعد أن كانت "العون" تمثل تطلعاتها في ستينيات القرن الماضي.
يقول كينغ "لما لم تظهر قوة أو دولة موازية لما انتهجته من مبادئ حولت المفردة في تسعينيات القرن الماضي بشكل دراماتيكي إلى كلمة ’التعاون‘، وذلك لأن كلمة ’العون‘ تدحض سياستها بتعاون دول الجنوب مع الجنوب". وركز كينغ على المنح في مجال التعليم والتدريب ولكن بعض منظمات المجتمع المدني انتقدت المشاريع الصينية لأن الشركات تجلب عمالتها معها، مما يحرم الأفارقة من فرص العمل والحصول على التدريب وتنمية الموارد البشرية.
يرى كثيرون أنه على رغم أن الدبلوماسية الصينية تجاه دول أفريقيا جاءت متوافقة كعلاقات دول الجنوب مع الجنوب، وارتقت نتيجة لنشوء حسابات المصالح الاقتصادية والسياسية، وكذلك لتحسين الاستراتيجية والعلاقات الاقتصادية مع الدول الغربية، إلا أن هذا النهج يقتصر بطبيعته على أمر واحد، فهو لا يعكس تغييراً أساسياً في القيم ولكنه تصور جديد لمصالحها الوطنية بحيث لا تزال الدوافع هي أمن الطاقة والنمو الاقتصادي، ثم يسرت الصين هجرة مئات آلاف الصينيين في كل من المناطق الحضرية والمجتمعات الريفية في عدد من البلدان الأفريقية منذ منتصف التسعينيات، وبعدما كانت الهجرة مقتصرة على رجال الأعمال والعمال وتجار التجزئة، توافد عدد كبير من المزارعين بعد إعلان وزارة الزراعة الصينية اقتراحاً لتشجيع الشركات على شراء أراض في أفريقيا بدعم من بنك التصدير والاستيراد الصيني.
دبلوماسية حل النزاعات
تصنف الصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، بأنها أكبر شريك تجاري ثنائي الاتجاه لأفريقيا، وتشير التقارير إلى أن تجارتها بلغت قيمتها 254 مليار دولار عام 2021، متجاوزة بذلك أربعة أضعاف التجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا، واستثمارها يفوق الاستثمار الأجنبي المباشر للولايات المتحدة مع أفريقيا، إضافة إلى أنها أكبر مقرض للدول الأفريقية.
لدى الصين نشاط كثيف في ما يخص التعاون العسكري في أفريقيا، لكن دورها في حل النزاعات لا يزال غير واضح، على رغم أنها عينت مبعوثاً خاصاً إلى القرن الأفريقي. وفي المقابل تنشط الولايات المتحدة في دبلوماسية حل النزاعات في أفريقيا، مع تعيين عدد من المبعوثين في كل مناطق النزاعات تقريباً، هذا التباين في الأدوار جعل القادة الأفارقة يتمسكون باستمرار علاقات بلادهم الجيدة مع الصين، مع تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة في الوقت ذاته، وتجنب تأثير تداعيات التنافس بين القوى الكبرى في خططها.