حقّقت الشّاعرة الهولندية الشّابة رادنا فابياس (مواليد 1983) سبقًا نادرًا لن يتكرّر بعدها بسهولة، بعدما فازت عن مجموعتها الشّعرية الأولى "هابيتوس - Habitus" بجميع الجوائز الشّعرية الكبرى التي تُمنح للشّعر المكتوب باللغة الهولندية، وكان آخرها ما أُعلن في حفلة ختام مهرجان الشّعر العالمي في روتردام منتصف الشّهر الماضي، بحصول مجموعتها المحظوظة على جائزة "الشِّعر الكبرى" لعام 2019، وهو الاسم الجديد لجائزة VSB الشّعرية العريقة. وتعتبر هذه هي رابع جائزة تحصدها الشّاعرة عن مجموعتها الأولى، التي صدرت في مارس (اذار) 2018. وبهذا تكون رادنا فابياس أوّل هولندية تحصد جميع الجوائز الكبرى للشِّعر في هولندا عن المجموعة ذاتها ، حيث سبق لها الحصول على ثلاث جوائز هي على التوالي: "آفاتار"، "هرمان ده كونينج"، وجائزة "سي بودينغ"، وتعدّ قيمة الجائزة المالية الأخيرة هي الأعلى التي تُمنح لمجموعة شِعرية في نطاق اللغة الهولندية (هولندا والإقليم الفلمنكي البلجيكي) وتُقدَّر قيمتها بـ 25 ألف أورو.
في المجموعة الشِّعرية الأولى لها، والتي ظلّت صاحبتها تعمل عليها لعشر سنوات كاملة، تدخلنا رادنا فابياس إلى عالم سردي يحمل الكثير والكثير من السّيرة الذّاتية والثّقافية - إن جاز لنا التعبير - لصاحبتها، حتى أنّنا نشعر في لحظات عديدة بالغرق في عالم جزر الأنتيل الذي ترصده الشّاعرة بعين تشكيليّة لم تعرفها اللغة الهولنديّة من قبل. وليس من قبيل المصادفة أن يكون غلاف المجموعة الشِّعرية ذات الثّقل النّفسي أسود اللون مع وجود أربعة ثقوب متباينة الحجوم في الغلاف الأمامي للمجموعة، فالصّوت الغالب على القصائد هو صوت أسود لامرأة وحيدة ومهاجرة، صوت غاضب لامرأة تتّخذ في قصائدها من السّردية والتّداعي والغناء، وحتى التّجريدية والرّمزية أحيانًا، سبلًا، لتقدّم لنا سبيكة لُغوية عنيفة وصادمة في أحيان كثيرة، وهو ما يتجلّى مع أوّل قصائد المجموعة، والتي حملت عنوان "مشهد افتتاحي":
" أخلعُ حذائي في المطار
حزامي، ولو سُئلت
فبنطالي أيضاً
تركتُ نفسي للكلاب تتشمّم الأسلحة
التي ثبَّتُّها تحت أطراف أناملي
هناك أيضًا احتفظت بلسعة الفن المتسارعة
أبدو أنيقة وشَعري على ما يرام
ابتسمتُ كنعجة تنظر إلى أسفل
القناع معلَّق بمطَّاط
ومشدود خلف أُذنيّ"
هكذا، ومع أولى قصائد المجموعة التي وُصفت بأنّها "زلزال شعري" حظيت به اللغة الهولندية، تستعيد فابياس الكاريبيّة لحظات استقبال هولندا لها بلا رحمة. هي المولودة بجزيرة كوراساو إحدى جزر الأنتيل، والواقعة جنوب البحر الكاريبي مقابل فنزويلا، وتتبع سياسيًّا المملكة الهولنديّة، ثمّ انتقلت وهي في السّابعة عشرة من عمرها إلى مدينة أوتريخت الهولندية لدراسة الفنون. هي اللاتينيّة ابنة المناخ الكاريبي الذي لا يعترف بالحياة الماكينيّة المتطوّرة في مدينة كبرى مثل أوتريخت الهولنديّة. من هنا يأتي صدام الشَّاعرة المبكّر مع مدنيّة هولندا، البلد الذي احتلّ جزيرتها وامتلكها حتى يومنا هذا.
تتقاسم الجزيرة الكاريبيّة التي ولدت الشّاعرة فيها إذاً مناخات المجموعة الشِّعرية ومسرحها مع مدينة أوتريخت. حيث كلّ شيء يخضع لدى "رادنا فابياس" إلى المقارنة بين ما نشأتْ عليه "هناك" وبين ما تعلَّمته "هنا"، وهو ما سيرفع من مستوى القصائد في أحيان كثيرة إلى أن يصل إلى حدود السّخرية اللاذعة من رؤية الهولنديين للشّعوب الأخرى، والملوّنة تحديدًا، ومن ثمّ تنبني في مخيّلة قارئ المجموعة، وقصيدة بعد أخرى، هذه الحّدة السّياسيّة التي تتجلّى في قصائد فابياس:
" أغسل يديّ
- طويلًا وبلا كلل -
أُقشِّر بصمات أصابعي
- بانتباه، أنا منتبهة -
حلقتُ شعري لأنّني ضحيّة
صبغتُ شعري لأنّني محتالة
تركتُ شاربي ينمو لأُضيفه إلى أوراقي المزيّفة
- أنا هادئة، أنا هادئة –
تطير البوينغ وخلال لحظة الاضطراب الجويّ أستعيد بأثر رجعي
الرّجل الذي زرع نُطفتي دون قصد
آخذ شخصًا كرهينة، وأقدّمه إليه عند استقباله:
اسمع.. هذا الرجل يُشبهك، لا أريده
يجب أن نتحدّث، إنّه لأمر مأساوي
أن يكون عليّ ارتداؤه
وسوف أرتديه
كما لو كان جلد دبّ
سأرتديه كعباءة
تنبعث من جلده رائحة حِلْبة صحراويّة حارقة
وجروح مفتوحة"
صاحبة البشرة السمراء
للمرّة الثّانية تشير فابياس إلى أزمتها كصاحبة بَشرة مُلوّنة في المطارات الهولنديّة، فترصد تشكّك موظّفي الأمن "المحميّين ببياض بشرتهم" في الأجانب وذوي البشرة السّوداء مع كلّ عملية تفتيش في المطارات، هذا الاستعلاء الأمني الذي يجعل الشّاعرة تتعامل مع نفسها في القصيدة أعلاه على أنّها إرهابية مُحْتملة، ستلجأ إلى اتخاذ رجل كرهينة للتّمكّن من دخول هولندا، على الرّغم من أنّها أعدّت كلّ شيء، غسلت يديها وقشّرت بصمات أصابعها وحلقتُ شعرها لأنها ضحيّة .... وهنا لم يفد تكرار كلمة "أنا هادئة" هذه إلا تأكيد الرّعب الذي تشعر به الشّاعرة، ناهيك عن تأكيد شعور الدّونية الذي يشعر به كلّ هولندي في مثل هذه المواقف لمجرد أنّ لون بشرته مغاير.
تقول رادنا فابياس في حوار صحافي نشر بعد حصولها على جائزة الشّعر الكبرى الهولندية أخيراً، أنّها ظلّت تعمل عشر سنوات كاملة على مشروع مجموعتها هذه، كانت خلالها تجمع المعلومات وتجري الحوارات مع أمّها وأقاربها من نساء وعجائز جزيرتها الكاريبيّة، حول رؤيتهم لكلّ شيء؛ للحياة والحبّ والفقر والدّين والغربة، لذلك ربّما نجد منحى فلسفيًا آخر في قصائد المجموعة، التي تطغى عليها الهموم النّسوية ذات الصّوت العالي أحيانًا كثيرة:
"أنا امرأة
وهذا هو السّائل الغائم الذي ينزّ من بين شفتي ثمرة الخوخ الأسباني
ولسوء الحظّ صرت أنا السّائل وثمرة الخوخ
وكلّ ثمرة أخرى، ليّنة، حلوة، ناضجة في يديّ
لأنّني امرأة وهذا هو الإطار الخارجيّ
لنظّارة رجل متوسّط الذّكاء،
لكنّني امرأة ومُكتفية بنفسي
لا يوجد فراغ بداخلي
هناك صحيح مكان للاختباء وغرفة أماميّة وغرفة انتظار
ومساحة أستطيع فيها استقبال أحد ما:
رجل
بداية طفل
أصابع امرأة
وعلى رغم هذا أنا مُكتفية بنفسي".
في قصائد فابياسثمّة دائمًا صوت تأمّلي لكنّه عنيف، بحّة مجروحة راغبة في إحداث ألم ما. وعلى رغم هذه الحدّة في الكتابة، ترصد الشّاعرة التّفاصيل الحيّة والموجعة في المشهد الذي تكتبه بحسٍّ تخريبي ساخر، ويبدو لي أن هذا الحسّ السّاخر كان الوسيلة الأمثل التي اصطفتها الشّاعرة في مجموعتها الفارقة، لتستكشف من خلالها، وبشكل نقدي وجريء، قضايا أصيلة لديها كالبحث عن الهويَّة والجذور والاغتراب والوحدة والعلاقة بين الرّجل والمرأة، وما يدخل ضمن ثنايا هذه المفاهيم من سُلطات مجتمعيّة أو سياسيّة أو حتى أُسَرّية، مرورًا بقصائدها المقنَّعة في نهاية المجموعة والتي تصوّر من خلالها الشّاعرة المقاربة الهولنديّة العامّة للمهاجرين بطريقة لاذعة لكنّها موجعة، وصولًا إلى أبسط المشاهد اليومية التي نعبر بها.
شاء الحظّ أن يولد صوت رادنا فابياس الشِّعري في مجموعتها الأولى كبيراً، أو بالأحرى شاءت "الموهبة"! فأين هو الحظّ من شاعرة لم تنشر سوى قصائد معدودات قبل أن تكتسح السّاحتين الهولنديّة والبلجيكيّة بمجموعتها الشّعرية الأولى "هابيتوس" في مارس من العام الماضي؟ قبل ذلك لم يكن أحد قد سمع باسمها؛ لكن بمجموعتها التي توّجت بجميع جوائز الشِّعر الكبرى في اللغة الهولندية، وضعت "رادنا فابياس" اسمها عالياً في الشِّعر الهولندي الجديد، وللسّبب ذاته، صعَّبت على نفسها خطوتها الشِّعرية المقبلة!