ليس للغة الإنسان أي مقام بمعزل عن كرامته الكيانية الأصلية. اللغة مرآة الروح الإنسانية المتجلية في رقي المسلك الإنساني الفردي والجماعي. ومن ثم، إذا أردنا أن نكرم اللغة العربية، كان علينا أن نكرم الإنسان في المجتمعات العربية. قد تتنوع سبل إكرام الإنسان العربي، غير أن إكرام اللغة العربية يخضع لشروط بنيوية يجدر بنا أن نستذكرها في يوم اللغة العربية العالمي.
يجمع علماء الفكر واللغة على أن اللغة ليست أداة للتعبير عن الفكر فحسب، بل اللغة هي القالب ومضمونها هو الفكر. اللغة والفكر أمر واحد، لا بل اللغة موطن الوجود ومنبت الفكر، أو قل "منزل الكينونة"، على حد تعبير الفيلسوف الألماني هايدغر (1889-1976). فالفكر الذي لا يتحول إلى كلام يظل كالسديم المتناثر الذي لا قوام له، والكلام الذي لا يدل على شيء إنما هو كلام الخواء واللغو والهذيان، وملتقى أصوات لا رجع لها ولا صدى. اللغة فلسفة بحد ذاتها، أو قل مقاربة مستقلة في فهم وقائع الوجود.
اللغة مرآة أحوال الناس
من أراد أن يستبطن معاني الارتباط الوثيق هذا، وجب عليه أن يعاين اقتران اللغة بحال الناس والمجتمعات. إذا صح أن الفكر القويم يسقط بسقوط اللغة التامة الصحيحة، اضطر الناس إلى التدقيق في صحة لغتهم وفي قابليتها للنمو والتطور. فاللغة متصلة بأحوال الناس ترتقي بارتقائهم وتنحط بانحطاطهم. ينبغي إذاً للغة أن تشايع المعاني المنبعثة من الاختبارات الإنسانية المتجددة، فتسايرها في نشوئها التدرجي وتمكنها وتثبتها. فإن قصرت عن مجاراة المعاني الحياتية في تطورها، كان ذلك من أدلة هرم اللغة، فلا تلبث بعد ذلك حتى تلحق باللغات الميتة.
البذخ المعجمي العربي
لا يخفى على أحد أن اللغة العربية غنية بمفرداتها، إذ فيها على سبيل المثل خمسمئة اسم للأسد، وأربعمئة اسم للداهية، ونحو مئتي اسم للناقة، وما يعادلها للحية، ومئة اسم للسيف. غير أن غنى اللغة لا يقاس بعدد الألفاظ التي في معجمها كيفما كانت، بل بمقدار وفاء ألفاظها بأغراض الناطقين بها على اختلافها. يقتضي مثل هذا التوازن في الثروة اللغوية ألا تتراكم الألفاظ في جهة، وتقل أو تفقد في جهة أخرى. لشدة ما تكاثرت الألفاظ الأجنبية في العلوم الإنسانية وفي العلوم الوضعية المعاصرة شعرت المجتمعات العربية ببعض من قصور اللغة العربية عن تناول مقتضيات الفكر الإنساني الحديث والمعاصر. لا أدل على هذا العجز من ترصد كلمات الاصطلاح في العربية. فإنك واجد فيها كثيراً من المفردات الأعجمية النشأة. قد ينسب بعض المفكرين العرب أسباب هذا التقهقر إلى جمود اللفظ العربي في معناه حتى لا تجده على شيء من المرونة كما يجب أن يكون، بل تشعر بأنه ينقبض على نفسه وينكمش في طبيعته. لا بد، والحال هذه، من النظر المتفحص في طبيعة اللسان العربي الذي يستند إليه العقل العربي في نشاطه.
عبقرية اللغة العربية في وصف المحسوسات
في هذا السياق يرى بعض الباحثين أن "العقل العربي عقل غرضي، إذ لا يبلغ غايته القصوى إلا إذا قاد صاحبه إلى ما ينفعه، لذا يبان كل ما يتحقق بالفعل هو الحق" (جيرار جهامي، "الإشكالية اللغوية في الفلسفة العربية"، ص 178). تفصح هذه الغرضية عن شيء من الحسية تغشى اللسان العربي، لذلك ذهب الفارابي، في "كتاب الحروف"، إلى أن "الحروف والألفاظ الأول علامات لمحسوسات يمكن أن يشار إليها ولمعقولات تستند إلى محسوسات يمكن أن يشار إليها. فإن كل معقول كلي له أشخاص غير أشخاص المعقول الآخر" (الفارابي، "كتاب الحروف"، ص 137). بحسب الفارابي تتجلى اللغة العربية لغة الحس الذي يصف ظاهر الواقع في مختلف وجوهه وألوانه. إنها لغة لا تطيق التجريد في نشأتها الأولى، على غرار سائر اللغات السامية. فمستندها الوحيد في مداناتها الكليات والتصورات المعنوية مكتسبات الحواس في المشاهدة والاختبار.
من نظر في أسماء المعاني رأى أنها كانت أفعالاً أو من أسماء الذوات والمحسوسات وانتقلت إلى المعاني والعقليات، كالفصاحة من أفصح اللبن إذا ذهبت رغوته فبان، والبلاغة من بلغ أي وصل، والجزالة في الرأي من الجزل للحطب الغليظ، والمجد من مجدت الدابة إذا وقعت في مرعى كثير، والشرف في النسب وغيره من الشرف للمكان العالي، والرأي من رأى بعينه، والعقل من عقل البعير أي ربطه، والحكمة من حكمة اللجام، ووعاه جعله في وعاء أي حفظه، والذكاء من ذكاء النار، والإدراك من أدرك أي لحق، والرجل المهذب من هذب الشجرة.
التفاعل بين اليونانية والعربية
لا ريب في أن مشكلة اللغة العربية ناجمة عن ارتباط نشأتها بحياة الصحراء، على ما كان يبينه المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشر (1900-1973) في قوله إن "حياة الصحراء تساعد على نمو الموهبة الخطابية" ("تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي"، ص 48). إذا كانت اللغة العربية قد استصعبت نقل المعارف اليونانية، فلأنها عاينت ذاتها في مقابل ضمة من المعاني التجريدية التي تخالف في مضمونها وصوغها أصول الاختبار اللغوي العربي القديم. ولما كانت اللغة العربية لغة خبرية وصفية تصديقية تقوم على أصل الحكم الصادق، بحسب رأي الفيلسوف اللبناني الأب فريد جبر (1921-1993)، فإن نقل مضامين الفكر اليوناني في زمن الاحتكاك الأول أنشأ للعقل العربي جماً من المشكلات المستعصية. عند مقارنة اللغة العربية باللغة اليونانية، ربط الفارابي هذه المشكلات بحقيقة الاختلاف القائم "بين اللغتين العربية واليونانية في طبيعة تراكيبهما ومدلولاتهما وأبعاد ألفاظهما" ("كتاب الحروف"، ص 20). ومن ثم، ليس المطلوب إخضاع العربية وسوقها على منوال اليونانية، بل المطلوب استثمار طاقات العربية وتمكينها من إغناء قدرات التعبير في الثقافة العربية المعاصرة.
خصائص اللغة العربية
لنتذكر هنا ما قاله الجاحظ (775-868) في امتداح اللغة العربية "ليس في الأرض كلام هو أقنع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذ في الأسماع ولا أشد اتصالاً بالعقول السليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء" ("البيان والتبيين"، 1، ص 145)، مما يسوغ هذا القول أن اللغة العربية اختصت بمزايا لا تجاريها فيها لغات كثيرة، وهي مكانة تبرز لها مقامها الفريد وتسعفها في استيضاح مقاصدها وأغراضها. من هذه المزايا مشتقات الفعل كالمصدر والفاعل والمفعول واسم المكان واسم الآلة، إلى غير ذلك من المعاني كالطلب والاستدعاء بالسين والتاء نحو استوهب واستعلم، أو بمعنى التكلف نحو استعظم واستكبر، أو بمعنى فعل نحو استقر، أو ما دل على تكلف الشيء نحو تشجع وتعقل، أو ما كان على وزن تفاعل إظهاراً لغير ما هو عليه نحو تغافل وتجاهل وتمارض وتناوم، أو ما يكون من اثنين نحو تخاصما، ومنها الصيغ الدالة على المطاوعة والتكرار، وتغيير معنى الفعل بما يلحق به من الحروف نحو رغب في ورغب عن ورغب إلى. ودعا له بالخير ودعا عليه بالشر. وأشار إليه باليد وأشار عليه بالرأي، وشفقت منه خفت وشفقت عليه عطفت.
من مزايا اللغة العربية أيضاً المترادفات والتفضيل والتقسيم والأسماء المشتركة (كالعين تطلق على العين الباصرة وعلى موضع انفجار الماء وعلى المطر)، والتضاد (كالظن يدل على اليقين والحسبان، وأسر الشيء أخفاه وأعلنه)، والاشتقاق والنحت والتجوز والاستعارة (انشقت عصاهم)، ومزدوج الكلام والإتباع والتكرار والكناية والتصريف والأوزان. لا يجوز، والحال هذه، أن يسوغ الناس التقاعس والخمول في تجديد اللغة العربية بالاستناد إلى ما أنزله التقليد الأدبي أو الديني من صيغ الإنشاء والتعبير.
الدخيل الغريب في اللغة العربية
لا ريب في أن اللغة العربية أتى عليها حين من الدهر عراها فيه جمود، فقصرت وانقطعت عن مسايرة الحركة العلمية والفنية، لكن لا بد من مجاراة سير الحضارة واتباع ناموس النمو والارتقاء باقتباس الأسماء الأعجمية الدالة على التسميات الحديثة. فاللغة العربية ما اكتفت بما جاء في النص القرآني، بل انثالت على العرب بعد الفتح والاستقرار، ألوان من الأجناس وفنون من الحياة والعادات وأنواع من العلوم والمؤلفات لم يألفوا لها شبيهاً في حياتهم الأولى. وكان على اللغة أن تعبر عن كل ذلك أو أن تموت، أو أن تقتصر على حياة بدائية في ما تبقى من القبائل، وعلى أبنائها والناطقين بها أن يقرروا مصيرها في أسرع ما يمكن من الزمن. إذا استطاعت اللغة العربية في أعقاب الفتوحات أن تصون نفسها وتغني موادها، فلأنها لغة قادرة على الإبداع. واللغة المبدعة، بحسب الفارابي، هي "التي جديدها مستل من جذورها، من دون أن تعيق هذه الجذور من نموها وإمكانية تطويرها، أي أن تكون لغة قادرة على التحديث الذاتي من أجل إبراز مقدرة الألفاظ على التعبير المتجدد" ("كتاب الحروف"، ص 21). فلم يمض زمن يسير حتى سمقت الغرسة العربية الجديدة ومدت أغصانها. فلم يأت اقتحام العلوم الدخيلة لغة العرب اقتحاماً بطيئاً في زحفه، وإنما كان هجوماً صاعقاً، فما تمكنت من هضم تعابيرها هضماً وئيداً، بل كان عليها التكيف والتعدل والتحول السريع في قرن وبعض قرن إلى لغة فقه وسياسة وعلم وفلسفة وفن، وكان عليها أن تفتح صدرها للمفردات الدخيلة لتحلها مكاناً لائقاً إلى جانب الأصيلة، وتكثر من استعمال أدوات الصلة بين فقرات العبارة، ثم بين العبارات نفسها لتتآلف والفكرة، وتؤديها بأقصى ما يمكن من الدقة.
قابليات التطور الذاتي
هذا كله يدل على أن اللغة العربية، ولئن كانت فقيرة في أصل موادها ومحتوياتها، ما برحت قادرة على ابتكار كثير من المفردات والاصطلاحات والأوضاع، لذلك قيل فيها إنها فقيرة بالاصطلاحات، غنية بالقابليات، ذلك بأن الغنى لا يأتي من تراكم المفردات في القواميس، بل يتصل اتصالاً فاعلاً بحيوية اللغة الذاتية وبقدرتها على تجديد أوضاعها وتراكيبها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذا ثبت أن اللغة العربية غنية في قابلياتها، أي في إمكاناتها الذاتية الدفينة، فلم التقهقر في توليد اصطلاحات العلوم الإنسانية والوضعية الأجنبية الحديثة والمعاصرة، وخصوصاً اصطلاحات العلوم الفلسفية التي تهدي الفكر وتنير الوجود الإنساني برمته؟ الحقيقة أن الأسباب تتنوع بتنوع رؤى المبايعات الفكرية والتصورات الناظمة. في جميع الأحوال، ليست اللغة العربية بعاجزة عن التطور واستثمار قابليات التجديد التي تنطوي عليها. المشكلة في موضع آخر مقترن بمقام الإنسان العربي.
صحيح أننا نعاني ضروباً شتى من التنازع في ضبط أصول النقل والاقتباس، والفوضى والرداءة في حركة الترجمة، والاختلاف في تعيين الاصطلاحات وتحديدها، والافتقار إلى المراجع العلمية الخليقة بتدريس المعارف الإنسانية المعاصرة باللغة العربية، ومزاحمة اللغات الإقليمية. غير أن مثل هذه الأسباب ينبغي ألا تصد الباحث عن البحث والصائغ عن الصوغ، إذ إن اللغة كائن حي ينمو ويتطور ويغتني. لا شك في أن مثل هذه الاضطرابات برهان العافية والصحة في مسار اللغة العربية التي تروم أن تجاري أحوال الزمن الحاضر، وتضع لاختبارات الإنسان المعاصر اصطلاحات الإدراك الصائب.
مواكبة حركة الحياة
من الواضح، مع ذلك، أن الاكتفاء بمواد المعاجم القديمة لا يجدي نفعاً، إذ إن اللغة العربية ينبغي أن تساير حركة التطور في التعبير الإنساني. وليس أدل على مقصد التجديد من مخالطة الناس ومخاطبتهم واستجلاء مضامين اختباراتهم الوجودية في بحثهم عن مواطن تحرياتهم ومعاني التزاماتهم ومرامي تطلعاتهم. الحياة الإنسانية في المجتمعات العربية مصنع الكلمات، ومنبت المفردات، ومنجم الاصطلاحات، ومولد الأوضاع اللغوية الخليقة بالإفصاح عن اختباراتنا الوجودية الأعمق. من الضروري، والحال هذه، أن نتحرر من ذهنية التقليد وأن ننفض الغبار عن كنوز اللغة العربية الفصحى، فنبقي على ما يفيدنا، ونعرض عما يمنعنا من تطور وجداننا التعبيري.
خلاصة القول إن اللغة العربية، من حيث إنها ملكة صناعية، على حد تعبير ابن خلدون (1332-1406)، تحمل في ذاتها قدرة خارقة على الإفصاح المناسب عن الاكتشافات العلمية والاستقصاءات العملية والاختبارات الإنسانية. لكي يأتي اللفظ في العربية صحيح الطبع، بليغاً، منزهاً عن الاختلال، مصوناً من التكلف، ينبغي أن يناسب المعنى أيما مناسبة، إذ إن في هذه الملاءمة التعبيرية حد اللغة. ليس المقصود أن يعتصم الفكر العربي المعاصر بما ذكره العرب الأقدمون من ألفاظ وحشية حوشية متروكة قد تبلغ نحو ثلث مفردات اللغة، بل أن ينظروا في كيفيات توليد الألفاظ التي تعينهم على التعبير الفكري والعلمي الصحيح. لا عجب من أن يكون العرب قد نقلوا ألفاظاً لم يعرفوا لها معنى، ولا استطاعوا تفسيرها كلفظ حجلنجع، وهو اللفظ الذي أورده صاحب "القاموس" ثم قال فيه "ذكروه ولم يفسروه". في صدد هذا التوليد قال ابن سينا (980-1037)، وقوله أصل ثابت من أصول التجديد اللغوي، "إن اتفق أن لا يوجد للمعنى لفظ مناسب معتاد، فليخترع له لفظ من أشد الألفاظ مناسبة، وليدل على ما أريد به، ثم يستعمل فيه" ("الإشارات والتنبيهات"، ص 259).
بيد أن مصير اللغة العربية لا يقتصر على إتقان الابتكار اللغوي الذي أوصى به ابن سينا، بل يتجاوز المستوى النحوي ليقترن بأوضاع الإنسان الوجودية في المجتمعات العربية المعاصرة. ليست اللغة صاحبة القول الفصل في نهضة الشعوب والمجتمعات، بل رقي الوعي الإنساني الفردي والجماعي، وانتظام المعية الإنسانية في قانون التفاعل الحر المسؤول المبدع الذي ترعاه شرعة حقوق الإنسان الكونية، وتغنيه اختبارات الوجدان المنتعش المزدهر في ثقافات المسكونة، على تنوع اختباراتها وتذوقاتها وأحاسيسها وإيقاعاتها ونبراتها. اقتدار اللغة من رقي الإنسان الذي يخاطب العالم بذاته الحرة، ووعيه المتقد، ووجدانه المبدع، وفكره المستنير، والتزامه التضامني الصادق. ومن ثم، إذا أردنا أن ننهض باللغة العربية وجب علينا أن ننهض بالإنسان العربي حتى يختبر مثل القيم الحضارية السامية هذه، ذلك بأن اللغة لا تفرض فرضاً على الوعي الفردي، ما دامت لا تواكب حركة التاريخ المتوثبة ولا تنطق بإحساسات الحياة المعاصرة.