شغلت سلسلة من عمليات القصف والضربات الصاروخية الإيرانية حيزاً كبيراً من الأحداث التي حفل بها إقليم كردستان العراق خلال عام 2022، ملقية عبئاً إضافياً على كاهل الكيان الكردي المثقل منذ سنوات بأزماته الداخلية وخلافاته العصية على الحل مع الحكومة الاتحادية في بغداد.
وعلى رغم أن أكراد العراق يحظون منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بحكم شبه مستقل عن بغداد، وعرفت منطقتهم بأنها "الأكثر استقراراً" بالمقارنة مع بقية المناطق العراقية، لكن خطواتهم للمضي قدماً نحو تعزيز سلطتهم أملاً في تحقيق طموحهم للاستقلال تعترضها جملة من التحديات، أهمها مخاوف دول الجوار المتمثلة بإيران إلى جانب تركيا، من تداعيات ذلك على "التوازن الإقليمي"، مما جعل الإقليم الكردي ساحة للصراع على النفوذ بين الدولتين اللتين غالباً ما تتخذان نشاط المجاميع الكردية المعارضة للدولتين على الحدود داخل الإقليم مبرراً لشن عمليات عسكرية متكررة.
نشاط إسرائيلي
وسبق للإيرانيين أن أطلقوا تهديدات ضد الإقليم في الأعوام القليلة الماضية بدعوى وجود أنشطة استخبارية لدول أجنبية ولوحوا "باستهداف أية نقطة يمكن أن تشكل خطراً على الأمن القومي الإيراني"، ونفذوا أولى تلك التهديدات عندما أطلق "الحرس الثوري الإيراني" رشقات صاروخية من نوع باليستي في 12 من مارس (آذار)، مستهدفاً منزل رئيس شركة "كار" النفطية الكردية ويترأسها رجل الأعمال الشيخ باز البرزنجي من دون وقوع خسائر بشرية، إذ قال الإيرانيون إنه "يمثل مركزاً استراتيجياً للمؤامرات الصهيونية في أربيل"، وهو ما نفته حكومة الإقليم التي كانت أعلنت حينها نيتها إنشاء مشروع لتصدير الغاز إلى تركيا.
تهديد باجتياح بري
وكان شهر مايو (أيار) مدخلاً لهجمات صاروخية محلية متكررة طاولت منشآت نفطية في أربيل التي اتهمت "ميليشيات خارجة عن القانون" في إشارة إلى فصائل منضوية في قوات "الحشد الشعبي" الشيعي والمقربة من إيران بالوقوف وراءها، تلتها عمليات قصف مدفعي "للحرس الثوري الإيراني" على مواقع للمجاميع الكردية المعارضة لطهران داخل الحدود العراقية من جهة الإقليم، ممهدة لإطلاق عملية عسكرية باسم "القصف والحريق" بعد اتهام هذه المجاميع بإذكاء الاحتجاجات في المدن الإيرانية بخاصة الكردية، على وقع وفاة الشابة "مهسا أميني" خلال احتجازها من قبل "شرطة الأخلاق" لخرقها قواعد "لباس المرأة الصارمة في إيران" في 16 من سبتمبر (أيلول).
حاول النظام الإيراني تصوير طبيعة الاحتجاجات بكونها حركة كردية انفصالية يغلب عليها الطابع العسكري، على رغم أنها اجتاحت أغلب مدن البلاد ولم تقتصر على المدن الكردية.
ثم صعدت طهران من وتيرة هجماتها الصاروخية مستهدفة مكاتب للقوى الكردية في عمق مدن الإقليم، في الفترة الممتدة بين أواخر سبتمبر إلى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) أوقعت عشرات القتلى والجرحى، وبلغ التوتر إلى حد هدد فيه قائد "فيلق القدس" الإيراني إسماعيل قآاني المسؤولين العراقيين في زيارة غير معلنة إلى بغداد باجتياح الحدود مع الإقليم، وطالبهم بنشر قوات عسكرية وإبعاد المجاميع الكردية المعارضة، مما دفع بحكومتي أربيل وبغداد أخيراً إلى الاتفاق لتشكيل ألوية جديدة ونشرها على الحدود.
دوافع غير معلنة
الدوافع الإيرانية وفق السيناريوهات المطروحة قد لا تقف عند مخاوفها المعلنة من وجود نشاط للمعارضة الكردية أو للموساد الإسرائيلي، أو في أن تكون محاولة لتصدير أزمة الاحتجاجات، بل لها أبعاد تتعلق بطموحاتها في ترسيخ هيمنتها على الساحة العراقية، عبر تقويض أربيل التي ترى طهران أنها تمادت في تقسيم القوى الشيعية خلال مشاورات تشكيل الحكومة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أن للحكومة الكردية الذي يقودها الحزب "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني بالشراكة مع حزب "الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني طموحات لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر تركيا كدعم جزئي للتعويض عن الإمدادات الروسية، لكن المشروع تعثر بسبب رفض حزب طالباني بحجة افتقاره إلى "الشفافية"، ولا بد من الإشارة إلى أن الأخير يرتبط بعلاقات تاريخية مع نظام طهران التي تعارض هذا التوجه خشية من تحجيم نفوذها في المنطقة، وفق بعض المراقبين.
أما في شأن وجود مكاتب ومقار للقوى الكردية المعارضة في الإقليم. تقول حكومة أربيل إن هذا الوجود مشروط وفق قوانين دولية ويتعلق بالجانب الإنساني، ويسمح لها بممارسة أنشطة مدنية وسياسية من دون القيام بأي نشاط مسلح ضد إيران انطلاقاً من داخل الإقليم.
معادلة تفرض التهدئة
ويبدو أن أربيل تمكنت دبلوماسياً من امتصاص غضب الإيرانيين وإن كان بشكل موقت من خلال إرسال وزير داخليتها ريبر أحمد برفقة وفد أمني رفيع من حكومة بغداد للوقوف على مطالبهم، مدفوعة بمسايرة واقع معقد يفرضه ميزان القوى والمصالح، إذ إن طهران تحظى بولاء أغلب القوى الشيعية المتحكمة بالقرار في بغداد، فضلاً عن تمتعها بعلاقة وطيدة مع حزب طالباني، إلى جانب المصالح الاقتصادية المشتركة، إذ بلغت قيمة التبادل التجاري بين الإقليم وإيران خلال العام الماضي نحو ستة مليارات دولار.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد إحسان الشمري يرى في مبررات الهجمات الإيرانية المدفوعة بتهم وجود "للموساد الإسرائيلي" و"معارضة كردية مسلحة" بأنها "غير واقعية"، قائلاً إن "أربيل أثبتت بالأدلة عبر سماحها لوسائل الإعلام واللجان التحقيقية بتفقد المواقع، وهذا يظهر أن لطهران دوافع عدة، ربما تحاول تصدير أزمة الاحتجاجات وفي الوقت نفسه تقويض نشاط المعارضين، وكذلك فرض سياسة الأمر الواقع على أربيل، وفي النهاية إحراج بغداد". ويضيف أن "الهجمات كانت أيضاً جزءاً من الضغوط القصوى التي مورست على الإقليم خلال فترة مفاوضات تشكيل حكومة الأغلبية التي كان يسعى لها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والتحالف السني بزعامة محمد الحلبوسي".
ويعتقد الشمري أن "فرض الهيمنة هو مسعى إيراني بالتأكيد، لذا وجدنا ذهاب أكثر من وفد عراقي إلى طهران لطمأنتها على أن كردستان لا تشكل خطراً على الأمن القومي الإيراني والاستجابة لطلب نشر قوات على الحدود"، لكنه لفت إلى أن "إيران قد لا تكتفي بمسألة نشر قوات عراقية على الحدود، وقد تكون هدنة محدودة تجنباً لإحراج حكومة بغداد التي شكلها حلفاؤها، وهذا لا يعني استبعاد أن يوجه الإيرانيون ضربات جديدة في أية لحظة يرونها مناسبة"، واعتبر اقتصار الموقف الأميركي على إصدار بيانات الإدانة بأنه "نابع من رغبة واشنطن في التماس حلول عراقية، لذلك نجد أنها تتجنب ممارسة الوصاية على حلفائها الكرد".
قطع رابط الصلة
ويتفق المحلل السياسي الكردي شاهو قرداغي مع الشمري على "عدم واقعية مبررات القصف الإيراني"، قائلاً إن "طهران أخفقت في تقديم أدلة واضحة سواء في شأن وجود أنشطة إسرائيلية أو حتى للمعارضة الكردية، فهي تحاول تقويض الإقليم الذي يتمتع بهامش من الاستقلالية، وتنظر له بعين الخطر على مشروعها التوسعي". وأضاف أن "عمليات القصف بمجملها تمثل رسائل سياسية مدروسة لإخضاع الإقليم للهيمنة الإيرانية، حتى إن المطلب الإيراني بنشر قوات عراقية اتحادية على الحدود يندرج في هذا الإطار، فهي من جانب تحاول تعزيز سلطة حلفائها من القوى الشيعية في بغداد على الإقليم، وقطع الترابط والصلة القائمة بين الأخير والمدن الكردية الإيرانية".
أما عن تقييمه لموقف الإدارة الأميركية يقول شاهو إنه "لا يرقى إلى مستوى توفير الحماية لحليف موثوق مثل الإقليم ضد المخاطر الإيرانية، وهذا الموقف له ما يبرره، فالرغبة الأميركية وفق المعطيات على الأرض تحتم عليها عدم الدخول في صدام مع طهران، تجنباً لإحراج الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني ومنحها فرصة للنجاح، بخاصة أنها تشكلت بعد مضي عام كامل من إجراء الانتخابات نتيجة انقسام بين القوى المتنافسة كاد يطيح بالعملية السياسية في البلاد".