Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 آلان دو بوتون يضفي طابعاً فلسفياً على أدب الرحلة

 انطباعات مدونة عن المدن والطبيعة والذات والكتب واللوحات

السفر عبر البحر في لوحة للرسام جاك كارتيه (صفحة الرسام - فيسبوك)

حين يجمع الكتاب الواحد بين العمق والبساطة والصدق والطرافة والإثارة والمتعة، ويجاور بين الرحلة والنقد الأدبي والفني وتاريخ الأدب والفن، ويتوغّل في أقاليم المدن والطبيعة والذات والكتب واللوحات، تغدو قراءته نوعاً من السفر يعود على قارئه بالكثير من المتعة والفائدة. وهذا ما ينطبق على كتاب "فن السفر" للكاتب والفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون، الصادر عن دار التنوير المصرية، بترجمة الحارث النبهان. فإلى أين يريد بوتون أن يسافر بنا؟ وما هي الغنيمة التي نعود منها بهذا السفر؟

لا بدّ من الإشارة، قبل الخوض في الإجابة عن هذين السؤالين، إلى أن بوتون أحد أبرز الأصوات في الفلسفة الحديثة، وصاحب العديد من المؤلفات، الروائية والفلسفية، كان أوّلها رواية "مقالات في الحب" 1993 وآخرها رواية "دورة الحب" 2016. وبين الروايتين اثنا عشر كتاباً تطرح أسئلة السعادة والجمال والفن والعمل والسفر والدين وسواها من أسئلة الحياة المعاصرة، وتُرجمت ستة من هذه الكتب إلى اللغة العربية، كان آخرها "فن السفر" موضوع هذه القراءة.

 مشاهدات وانطباعات

في "فن السفر" يدوّن دوبوتون مشاهداته وانطباعاته، خلال مجموعة أسفار قام بها إلى مناطق مختلفة من العالم، فيصف ما تقع عليه العين من المرئيات في المدينة والريف والصحراء، من جهة. ويرصد ما تثيره في النفس من اعتمالات، من جهة ثانية، ويعرض ما أثارته الأسفار نفسها في كتّاب وشعراء وفنانين آخرين، من جهة ثالثة. وبذلك، تتحرك نصوص الكتاب بين: وصف المرئي، وسبر النفسي ، وعرض المكتوب والمرسوم والمصوّر، ما يقدّم مادة نصية متنوّعة، تتناغم فيها الأحياز الثلاثة، وتزخر بالملاحظات والانطباعات والخلاصات الناجمة عن التفاعل مع المناطق المَزورة. ويمنح القارئ تذكرة سفر إليها دون أن يغادر أريكته المريحة أو سريره الهانئ، ويعود منها بغنائم كثيرة.

 

 في هذا السياق، ثمة مجموعة من الثنائيات يتحرّك بينها مكّوك الكتابة، واستطراداً القراءة، بوتائر مختلفة، ويتمخّض هذا التحرّك عن النسيج النصي؛ ومنها: الخارج / الداخل، الوصف / السرد، المدينة / الريف، آلان دوبوتون / الآخرون، التوقعات / الوقائع، الواقع / الكتب، المعيش / المرئي، الحاضر / الماضي، وغيرها. على أن الحيّز النصي المتاح للطرف الواحد  لا يستوي بالضرورة مع ذاك المتاح للطرف الآخر ضمن الثنائية الواحدة. والأمر نفسه ينسحب على الحيّز المتاح لكل ثنائية مقارنة بالثنائيات الأخرى. ولا بد لهذه الملاحظة الشكلية من أن تترك أثرها على المضمون النصي، فيسهب الكاتب في الكلام على موضوع معين بينما يوجز في الكلام على آخر، غير أن التناوب بين الموضوعين من شأنه أن يردم هذه الفجوة الشكلية.

  تنوّع واختلاف

إلى وحدة المنهج الذي يعتمده دوبوتون في كتابه، فإن دافع السفر ووجهته  والدليل الذي خاض التجربة قبله وكتب عنها أو رسمها تختلف من نص إلى آخر؛ فاطّلاعه على صور برّاقة في منشور دعائي، بعنوان "شمس الشتاء"، لجزيرة باربيدوس في البحر الكاريبي، يدفعه إلى اتخاذ قرار السفر إليها. ويذكّره ببطل رواية "استرداد المال" لـ ج. ك. هيسماس، دوق أسينت الأرستقراطي مبغض البشر، الذي تثير فيه قراءة كتاب لتشارلز ديكنز رغبة السفر إلى لندن حتى إذا ما ارتاد حانة أكثر روّادها من الانكليز وتناول الطعام في مطعم انكليزي في باريس، خلال قيامه بتنفيذ رغبته، يتراجع عمّا أقدم عليه ويعود من حيث أتى. وتشغل المقارنة بين مشاهدات دوبوتون في الجزيرة ومقروءاته عن الدوق المذكور حيّزاً كبيراً في النص. وبذلك، يقوم  برحلة في الجزيرة يصف فيها الكاتب مشاهداته ورحلة موازية في الرواية يستعيد فيها ذكرياته، ويجرّد من الرحلتين خلاصات واستنتاجات تتعلّق بآداب السفر ودروسه.

وتشكّل استراحته في محطة خدمة متواضعة، خلال سفره بالقطار بين لندن ومانشتستر، فرصة للكلام على التأثير الإيجابي الذي تحدثه الأماكن الانتقالية في حياة الإنسان (محطة خدمة، غرفة فندق، طائرة، مطار، سفينة، قطار، مطار)، بحيث تنتشله من يومياته ومشاغله، وتضعه وجهاً لوجه مع نفسه. ويشير إلى تجربته الخاصة في الذهاب إلى مطار هيثرو كلّما ألمّ به الحزن والراحة التي يجدها في مراقبة مشهد هبوط الطائرات وإقلاعها. ويرفد انطباعاته بمقاطع من شعر شارل بودلير وبجوانب من سيرته الذاتية، حيث كان "يرى جاذبية شديدة في الموانئ والأرصفة والقطارات ومحطاتها والسفن وغرف الفنادق، وكانت أماكن الإقامة العابرة أكثر راحة له من بيته"، ما جعل ت. س. إليوت ينسب إليه ابتكاره ما يسمّيه بشاعرية الرحيل وشاعرية غرف الانتظار (ص 39، 40). كما يرفدها بقراءة في لوحات إدوارد هوبر التي يرسم فيها الأماكن الانتقالية ممّا يسمّيه بـ "شاعرية فنادق المسافرين وشاعرية المطاعم الصغيرة إلى جانب الطرقات" (ص 54). وبذلك، يتجاور في هذا النص أدب الرحلة وتاريخ الأدب والفن والنقد الأدبي والفني، ما يشكّل قيمة مضافة له.

  حنين تاريخي

في نص آخر، تشكّل رؤيته لوحة متدلية من سقف صالة الوصول في مطار شيبول في أمستردام وما تثيره في نفسه من حنين تاريخي فرصة للكلام على رحلة غوستاف فلوبير إلى الاسكندرية ولوحات دو لاكروا المغربية؛ فالأول يهرب من النظام الصارم في مدينة روان الفرنسية بحثاً عمّا ينقصه، ويستمتع بإكزوتيكية الفوضى، وروث الحمير، والجِمال في الاسكندرية. والثاني يرسم "نساء جزائريات في جناحهن"، ويثير فضول الناظر في سبر خباياهن، ويعثر على إكزوتيكية تنقصه وفّرها له انتقاله إلى مكان جديد، ويغذي رغبة الناس في زيارة ذلك المكان. وفي نص آخر، تشكّل زيارة الكاتب إلى مدريد بدافع سياحي فرصة لاستعادة رحلة الإسباني ألكسندر فون هامبولت إلى أميركا الجنوبية بدافع علمي ويفرد لهذه الرحلة ونتائجها الحيّز الأكبر من النص، ويوشّحه بمقتبسات من منشورات سياحية وصور فوتوغرافية ومقاطع شعرية تكسر نمطيّته وتمنحه الحيوية والتنوع. ويستخلص من الرحلتين خلاصات في هدفيّة السفر (ص 119)، ومخاطره (ص 122)، وتشوّهاته (ص 123).   

 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النصف الثاني من الكتاب يعالج فيه الكاتب، من خلال أسفاره، الريف والجليل والفن والجمال والعادات، ويفرد لكل من هذه العناوين نصّه الخاص به؛ فيتناول الريف الانكليزي، من خلال زيارة يقوم بها إلى مقاطعة ليك ديستركت الشمالية، وتدفعه الزيارة إلى استحضار وليام ووردزوورث الذي وُلد فيها وعاش شطراً من حياته، وتغنّى بطبيعتها وشَهَرَها في وجه المدينة وتحوّلاتها. وفي هذا النص، يوازن الكاتب بين ما يشاهد وما قرأ، ويتفاعل مع المشاهَد والمقروء، ويتقاطع مع ووردزوورث ويتماهى معه. ويبرز دوبوتون تنوّع الحياة الريفية، واهتمام الشاعر بالأنواع الأخرى، وأهمية الطبيعة في تعديل المزاج البشري المعتكر بفعل المدينة ونمط العيش فيها. ويوشّح نصه بمقاطع شعرية ولوحات فنية.

ويتناول في نص آخر رحلة قام بها إلى صحراء سيناء تضعه وجهاً لوجه أمام الجليل الذي يثير الرهبة والخشوع في النفس. ويخلص بنتيجة هذه المواجهة إلى ضعف الإنسان وهشاشته في هذا العالم، فـ" الكون أقوى منّا، فنحن ضعفاء زائلون لا مناص لنا من قبول أنّ لإرادتنا حدوداً وأنّ علينا أن ننحني أمام ضرورات أكبر منّا" (ص 162). وفي رحلة إلى منطقة بروفانس الفرنسية بدافع البحث عن المتعة والجمال، يتناول الفن والجمال في لوحات فنسنت فان غوخ التي رسمها للمنطقة المَزورة، وبالتحديد مدينة أرييس، التي حلّ فيها في فبراير (شباط) 1888، وبقي فيها حتى أيار 1889، وأنتج "قرابة مئتي لوحة ومئة رسم تخطيطي وكتب مئتي رسالة" (ص 177). ويخلص بنتيجة ذلك إلى قدرة الفن على التأثير في خيارات الناس، ومساعدتهم على رؤية الطبيعة، وفتح أعينهم على الجمال. وفي السياق نفسه، يتناول دوبوتون آلية امتلاك الجمال متّكئاً على مساهمة جون روسكين الذي انصبّ اهتمامه الأول على تعليم الناس كيف يرسمون. ويخلص بنتيجة هذا الاتكاء إلى أن استيعاب الجمال وملاحظة عناصره وفهم بنيتها شرط ٌ لا بدّ منه لامتلاكه.    

يأخذ آلان دو بوتون في "فن السفر" بيدنا في رحلة مركّبة، متعدّدة الدلائل والأماكن والمشاهد والانطباعات، من دون أن نتجشّم مشاق السفر، ويعيدنا إلى حيث كنّا، وقد تجدّدنا وحظينا بكثير من المتعة والفائدة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة