لا أعرف إن كان شائعاً بين القراء ما قد يعد نقيصة شخصية عندي أو فضولاً معيباً أحتاج قدراً غير قليل من الشجاعة والرغبة في التطهر كي أعترف به، ذلك أنني في الأماكن التي يندر أن أجد فيها قارئاً، ومنها مقاهي المراكز التجارية أو أماكن الانتظار في بعض العيادات أو المصالح الحكومية، قد يحدث أن أصادف معجزة وجود شخص يقرأ.
لم يحدث ذلك مرة إلا واستبد بي الفضول إلى أن أعرف عنوان الكتاب الذي يطالعه، وكثيراً ما أظهر كتابي كما لو كنت أستعرضه أو أستعرض به، وأزيح أصابعي إلى أقصى أطراف الغلاف ليتمكن من قراءة العنوان، فيرد لي الجميل بمثله، ولا أعرف سبب التصاق تلك العادة بي على رغم عشرات المرات التي تبين فيها أن الكتاب لا يعدو أحد التوافه الرائجة.
وعلى رغم أن معرفة العنوان لا تفتح باباً لثرثرة تلهيني وإياه أو إياها عن كتابينا وعن ملل الانتظار، لكن يخطر لي وأنا أكتب هذه السطور أن ذلك الفضول يعني على الأرجح أنني أبحث عن زميل يعرف في قرارة نفسه أنه لا ينبغي أن يكون في "المول" أو في المصلحة الحكومية ويتشبث بكتابه مثلما يتشبث سجين بملعقة يحفر بها نفقاً للهرب.
غير أن القراء في زمان آخر كانوا أقرب إلى بعضهم بعضاً من غريبين ينتظران تجديد الهوية في مصلحة حكومية، والكتب نفسها لم تكن دائماً يسيرة الاصطحاب إلى المقهى أو قابلة للتخزين في هاتف ذكي بحجم الجيب.
هدية أنطونيو النفيسة
نشرت صحيفة "غارديان" قبل أيام قليلة مقالة عنوانها "كيف أقامت الكتب العالم؟"، فكان أول ما خطر لي إذ رأيت هذه الكلمات أن هذا لو صح فهو شهادة على أن الكتب إما عديمة النفع أو أن ضررها أكثر من نفعها، وعلى رغم ذلك مضيت مع المقالة مرحباً كالعادة بفرصة لتغيير رأيي.
وتخصص الكاتبة كاثرين هيوز مقالتها هذه التي نشرت في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2022، لاستعراض كتاب صدرت ترجمته حديثاً إلى اللغة الإنجليزية بعنوان "البردي: اختراع الكتب في العالم القديم" للكاتبة الإسبانية إيريني باييخو وترجمة شارلوت ويتل، وفي مقالتها تكتب هيوز أن المؤرخة وعالمة اللغة الإسبانية إيريني باييخو تقدم "في كتابها الهائل الكريم مسحاً بانورامياً يثبت أن الكتب لم تشكل العالم القديم وحده وإنما عالمنا الحديث أيضاً"، وتستهل المقالة المكتوبة عن أثر الكتب في تكوين العالم بحكاية عن أنطونيو وكليوباترا.
شأن أي رجل مسكين منا إذ يحار في هدية لحبيبة أو زوجة أو ابنة، حار أنطونيو في ما يمكن أن يقدمه هدية لحبيبته كليوباترا التي يمكن القول في حقها أيضاً إنها أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وكان ذلك قبل معركة "أكتيوم" سنة 31 قبل الميلاد، وقد علم أنطونيو أن الجواهر ليست الحل، فقد كانت ملكة مصر البطلمية قد ذوبت لتوها لؤلؤة عملاقة في خل وشربت المحلول فقط لأنها قادرة على ذلك، فما كان من أنطونيو في مساعيه إلى إثارة إعجاب المرأة التي هام بها حباً إلا أن حل عليها مصطحباً 200 ألف لفافة لم تكن كل منها تحوي هدية، وإنما كانت كل لفافة في ذاتها هي الهدية، فاللفائف في ذلك الزمان البعيد كانت المعادل للكتب في زماننا.
200 ألف كتاب إذاً هدية غرامية وضعها الملك بين يدي الملكة قربان غرام انتهي على أرفف مكتبة الإسكندرية، فهل أثار أنطونيو إعجاب كليوباترا حقاً بتلك الهدية؟ أم تراها أضمرت في نفسها ضغينة تجاه الرجل الذي رأى فيها "القارئة" التي لا شك ستمتن لتلك الهدية، أو رأى فيها "الملكة" التي لا شك أيضاً في أنها ستقدر هذه الثروة المضافة إلى أصول دولتها، ولكنه لم ير المرأة.
أي عزاء في التاريخ؟
تقول كاثرين هيوز إن كتاب "البردي" يقع عند تقاطع ثلاثة أنواع من الكتب، فهو أولاً كتاب تاريخ يؤرخ للكتاب، وهو ثانياً كتاب عن أثر الكلاسيكيات علينا وما تقدمه لنا، وذلك يوشك أن يمثل جنساً من أجناس الكتب الشائعة حالياً، وأخيراً هو سيرة كتبية لكاتبة مولعة بالكتب لدرجة تجعل حياتها نفسها سيرة لقراءة كتب الآخرين، وبهذا المزيج أثار "البردي" عاصفة عند نشره بالإسبانية عام 2019 إذ تحول إلى كتاب عظيم الرواج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول باييخو لجون سيلف في حوار مع "غارديان"، الخامس نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عن النجاح الكبير الذي حققه الكتاب في اللغة الإسبانية، إنه "كان مفاجأة هائلة، فليس مألوفاً في إسبانيا أن يتحقق النجاح لكتاب مقالتي، وقد ألفت هذا الكتاب في فترة مؤلمة على المستوى الشخصي، إذ ولد ابني بحال صحية خطرة للغاية واحتاج إلى علاج طويل، فكان تأليف الكتاب علاجاً لي على المستوى الشخصي، وولد الكتاب ليكون بمثابة ملاذ لي في فترة أليمة، فلم أكن على يقين من أنني قادرة على أن أنهيه، ولم أكن أعرف إن كان أحد سيهتم بنشره، فإذا به يحظى باستقبال غير متوقع ويحتضنه كثير من القراء وتتغير بسببه حياتي كلها، حدث ذلك كله في فترة الحظر، ولم يكن متوقعاً لكتاب في التاريخ وفي فقه اللغة الكلاسيكي أن يقدم عوناً في ذلك الوقت العصيب، لكن بطريقة ما كان للقراء عزاء في كتابي".
في البدء كان
تبدأ القصة على شاطئ النيل قبل آلاف من السنين في أولى ساعات الصباح حين كان الصناع المصريون يقتلعون أعواد القصب البري [ويسمى البوص أو الغاب في العامية المصرية ولعله نوع من البامبو] الذي ينمو على ضفاف النيل، ويحملون ملء أذرعهم منه ويمضون به إلى الورشة حيث يجري تقشيره وتقطيعه إلى شرائح توضع في شباك، ثم يقوم العمال بدمج الشرائح بالمطارق إلى أن تندمج في صحاف يبدأون صقل أسطحها بأنواع من الحجارة أو الأصداف إلى أن يتخلق بين أيديهم ورق البردي، وهكذا تبدأ قصة الكتاب في تاريخ الإنسانية، وهكذا أيضاً يبدأ أحد مشاهد كتاب إيريني باييخو.
يقول هنري إليوت في استعراضه للكتاب، "ديلي تلغراف" 30 نوفمبر، إن طريقة صنع البردي هذه تطابق نهج باييخو في تأليف كتابها، فعلى أحد المستويات يمثل كتاب "البردي" قصة اختراع الكتب من الألواح المسمارية في بلاد ما بين النهرين إلى لفائف مكتبة الإسكندرية ورقوق جلود الحيوانات في بيرغاموم باليونان القديم، وأولى مخطوطات روما الإمبراطورية، لكن الكتاب على مستويات أخرى "سيرة، وأغنية غرام واعتراف ومانيفستو وباييخو تدمج كل هذه الخيوط بسلاسة وتصقل السطح إلى أن يلمع".
ثمة مشهد آخر لبداية أخرى، وهو هذه المرة مشهد مثير لجماعات من الفرسان المسلحين يجوبون ريف اليونان، متسلقين الجبال أو خائضين في الأنهار مطاردين "فريسة من نوع خاص"، وهؤلاء "الفرسان" ليسوا سوى "أمناء" مكتبة الإسكندرية وقد بعثهم الملك بطليموس لمصادرة كل كتاب يمكنهم العثور عليه.
تكتب كاترين هيوز أن باييخو لا تبدأ بمكتبة الإسكندرية كتابها وحسب، ولكنها لا تكف عن الرجوع إليها في مواضع كثيرة من الكتاب، لأن طموح الكتاب العظيم لا يماثله إلا طموح مشروع المكتبة الغابرة العظيم الذي حلم به الإسكندر الأكبر منذ طفولته ثم لم تسعفه الحياة لكي يراه مكتملاً.
حياة الكتب العجيبة
في حوارها مع "غارديان" تقول باييخو عن عنوان الكتاب الأصلي [El infinito en un junco] أو "اللانهائية في قصبة" إنه "استعارة لوصف روعة الكتب لفكرة أن اللانهائي من المشاعر والتجارب والمخاوف والعواطف قابل للاحتواء في شيء شديد الصغر والبساطة، وكان في ذهني أن أوائل كتب التاريخ قد صنعت من لفائف البردي، أي من القصب، والعنوان أيضاً إشارة تكريم للفيلسوف الفرنسي باسكال الذي شبه البشر بالقصب في هشاشتهم وسهولة انقصامهم، وفي مقدرتهم أيضاً على التعلم والفهم".
لم يكن غريباً كل الغرابة في تقدير هنري إليوت أن يروج الكتاب "ويسهل أن نضع أيدينا على السبب، وهو أن باييخو روائية عندها ملكة الحكي التي تبث الروح في مواضيعها"، فـ "فصول الكتاب قصيرة متلاحقة تمتلئ هنا وهناك بشذرات مضيئة من عالم الكتب من قبيل أننا لا نصف الكتاب بالطول إلا لأن هذا كان هو الوصف الحرفي للفائف القديمة، أو أن بناء الإنترنت وتصميمه مقامان على أساس نظام التصنيف المكتبي".
ولعل من آثار الروائية على الباحثة أيضاً أن إيريني "كثيراً ما تقحم نفسها في السرد فتوقفه لتكشف بعضاً من طرائقها في العمل، كأن تقول مثلاً "إنني دائمة الخوف من كتابة السطور الأولى"، أو أن تقطع نقاشاً حول المنشدين الجوالين لتنقل إلينا خبراً مفاده أن بوب ديلان فاز للتو بجائزة "نوبل" معلقة على ذلك بقولها "جائزة نوبل لثقافة شفاهية. كم هو قادر المستقبل على أن يكون عتيقاً في بعض الأحيان". ومن ذلك أيضاً حكيها في فصل مركزي من فصول الكتاب عن تعرضها للتنمر العنيف في طفولتها، وخروجها من ذلك بأن "جذور الكتابة كثيراً ما تكون معتمة، وهذه هي عتمتي، العتمة التي يتغذى عليها هذا الكتاب، وربما يتغذى عليها كل ما أكتب".
غير أن كاثرين هيوز تطمئننا إلى أن هذه السمة في كتابة باييخو لا تؤثر سلباً في الكتاب وإنما تثريه، فـ"كتابة باييخو عن نفسها أحياناً في هذا الكتاب لا تهدد بتحويله إلى كتاب شخصي، فهي قد تحكي حكاية عنها وأبيها حين كانا في متجر لبيع الكتب المستعملة خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن مبرر وجود الحكاية في الكتاب هو أنهما عثرا على نسخة من ’دون كيخوتي‘ وقد طبعت بحيث ضمت ابتداء من الفصل الثاني كتاب ’رأس المال‘ لماركس، ويتبين أن ذلك الكتاب داخل كتاب أمر مألوف لدى أبيها من عصر حكم فرانكو الديكتاتوري، عندما كان التهرب من الرقابة على الكتب يقتضي مثل تلك الحيل".
من سيرة القراءة
على مدار الكتاب لا تكف باييخو عن تذكيرنا بمدى ما كانت عليه الكتب من ضعف في ما قبل عصر الطباعة، وكيف أن سرعة تعرضها للتلف أو الاحتراق كانت تفوق سرعة استنساخها، لكن كاترين هيوز تقول إن باييخو "في حين تبدي الاهتمام الواجب بالتكوين المادي للكتاب، أي بورقه وأغلفته وأحباره، فإنها تبدي اهتماماً مساوياً بما بين الغلافين، بل وأهم من ذلك تبدي اهتماماً بما يجري في نفس القارئ حينما يتناول كتاباً ويشرع في رقصة خيالية فكرية قد تنتهي إلى تغيير حياته، فبقدر ما يمثل البردي تاريخاً للكتب فهو يمثل أيضاً تاريخاً للقراءة".
ربما كان مشروع مكتبة الإسكندرية في جوهره مشروعاً إمبريالياً، فالإسكندر الأكبر ذلك الإمبراطور الشاب الذي أعلن قوله "إنني أعد الأرض كلها ملكاً لي"، كان يؤمن بأن "المعرفة كلها" يمكن أن تكون ملكاً له هي الأخرى إن أمكنه جمعها في مكان واحد، لكن الحياة كما نعلم لم تطل بالإسكندر لكي يكمل ما بدأه، فأكمله خلفاؤه من بعده على مدار القرن الثالث قبل الميلاد، إذ مضوا يحددون أماكن كل الكتب المؤلفة على وجه الأرض ويشترونها أو يسرقونها إذا ما أعيتهم السبل الأخرى، وكان على رأس قائمة الكتب المطلوبة كما تقول كاترين هيوز مؤلفات إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، فكأننا كما تقول باييخو بحق أمام حبكة عمل قصصي لبورخيس في أكثر حالاته توهجاً".
لكن "ما كادت المكتبة تقام وتعمل حتى تكونت لها شخصية مختلفة عن نرجسية الإسكندر، فبدلاً من حبسها المعرفة الإنسانية وتجميدها، تصورها باييخو ملتقى مبهجاً للعقول الحية، ففيها "كان عمال المعرفة يجلسون مترافقين جنباً إلى جنب غير متفقين طوال الوقت، لكنهم قادرون على الإنصات إلى آراء بعضهم بعضاً والنقاش فيها".
وفي معرض تأريخ باييخو للقراءة لا للكتاب وحده أو لمكتبته الكبرى في العصر القديم، فإنها تلفت إلى أن الإنصات وليس الصمت كان مهارة القراءة الأساس في ذلك العهد، لأن القراءة كانت أقرب إلى التلاوة، إذ تتم بصوت مرتفع أكثر مما تجري صامتة في الذهن، وكانت قاعات الدراسة أيامها كابوساً لأمين مكتبة حديث هو عملياً ضابط شرطة الصمت.
تقول باييخو إنه لما ظهرت القراءة الصامتة أخيراً بدت مريبة للغاية ومنطوية على حال من التكتم، ففي أواخر القرن الرابع ارتبك القديس أغسطينوس حينما لاحظ أن أمبروسو أسقف ميلانو يقرأ صامتاً فبدا "وكأنه هارب إلى عالم يخصه وليس بوسع أحد أن يتبعه إليه"، فهل يمكن أن يختلف قارئ على أن هذا خير وصف للقراءة؟
كتب بالقوة لا بالفعل
لا تتقدم باييخو في الكتاب محترمة الترتيب الكرونولوجي الطبيعي وراصدة انهيار المشروع السكندري العظيم، فهي قد تقفز 23 قرناً إلى الأمام لتضعنا أمام رجلين لعلهما أبرز من ورث حطام مكتبة الإسكندرية أو تاريخها الثقافي.
أول الرجلين هو قسطنطين كفافيس، الموظف بالنهار في وزارة الأشغال العامة المصرية التابعة للإدارة البريطانية في ظل الاحتلال، والشاعر بالليل الذي يتصعلك في شوارع الإسكندرية فتهمس له أشباح كتبها القديمة وأشباح رواد مكتبتها الغابرين، والذي يقيم حول نفسه عالماً كاملاً من شخصيات يستلها من بطون كتب التاريخ، إذ يجوب أيضاً شوارع طروادة وإيثاكا وأثينا وبيزنطة ليحيل أولئك الأشخاص إلى رواة لقصائده ورفاق لعزلته.
ثاني الاثنين هو لورنس داريل الكاتب الروائي حتمي الظهور في مثل هذا الكتاب بسبب روايته "رباعية الإسكندرية" التي تجد فيها فاليجو "نبض الحياة القديمة أيضاً، فلا تقتصر على المعرفة الجافة وإنما تمتد لتشمل الحس الإيروتيكي الذي يسري حيثما تكثر الثقافات وتتنوع الألسن وتتعدد الأديان في الدرس واللهو، لافتة إلى أن ثمة حياة بالطبع في ما حول المكتبة".
هكذا هي منهجية باييخو إذن، تتحرك ذهاباً وإياباً بين العالمين العتيق والحديث، فتنتقل من صعود الإمبراطورية الرومانية إلى إغلاق قناة السويس إلى لحظات قد تكون هامشية، ومن الفئة الأخيرة ثمة حكايات تصفها هيوز بـ "المريعة" عن ناجين من الجولاج السوفياتي أو معسكرات الاعتقال النازية وكان عليهم أن يؤلفوا كتباً كاملة في رؤوسهم، محولين أنفسهم عملياً إلى كتب في طور الإعداد انتظاراً للحظة التي تتاح لهم فيها أدوات الكتابة لحكاية قصصهم.
لكن إذا وصفت هذه الحكايات بالمريعة فبماذا توصف حكايات أخرى لن نعرفها أبداً عن آخرين لم ينجوا من تلك المعتقلات وبقية معتقلات العالم، واختزنت أجسامهم الحكايات أو الكتب إلى أن تحولت إلى جثث فرفات؟ وأي وصف يليق بهذه الحكايات التي لن نقرأها لكننا موقنون من وجودها بقدر يقيننا من الوحشية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان؟
في حوارها مع "غارديان" سئلت باييخو عن سر مركزية مكتبة الإسكندرية في كتاب يؤرخ للكتاب، فقالت إن "الإسكندر الأكبر ربما كان أول شخص ينظر إلى العالم نظرة عالمية، وكانت فكرته هي أن يقيم مكتبة عامة شاملة تكون مفتوحة أمام الجميع حتى العبيد وأبناء العائلات البسيطة، فتميزت المكتبة واختلفت عن سواها بتبنيها ديمقراطية المعرفة، ولقد أريد لها أن تجمع كل الكتب من كل الثقافات وتتيحها لكل الناس، فكأن مكتبة الإسكندرية كانت الخطوة الأولى إلى الإنترنت".
ربما بهذا المعنى تكون الكتب هي التي أقامت العالم، وربما لم تكن رحلة الإسكندر الأكبر الذي لم ينم ليلة إلا متوسداً نسخة من "الإلياذة" لتوسيع ملكه وحسب، ربما كان هدفه منها شبيهاً بهدف أحدنا في رحلة إلى معرض للكتاب أو جولة في سوق للكتب القديمة، أن يمتلك المعرفة أو ربما نقول إنه أراد أن يمتلك الكتاب الذي تؤلفه الطبيعة بنفسها، مثلما أراد أن يمتلك الكتب التي يؤلفها أبناء تلك الطبيعة، وربما يكون العالم الذي أقامته الكتب أكثر تجسداً في الإنترنت منه في أي شيء آخر، فهي بطريقة أو بأخرى كتاب هائل الصفحات لا تتوقف قراءته ولا كتابته، فالكل فيه قرّاء والكل فيه مؤلفون.
وترى باييخو في ما يكتب هنري إليوت أن أعظم اختراعات أمناء مكتبة الإسكندرية هو بصيرتهم وحفظهم الكتب لأجيال لم تولد بعد، وهي كتب من شأنها أن تلهم ثورات قادمة وأن تذكرنا بحقائق أليمة وتكشف عن أظلم البقاع في أنفسنا، إنها تمد خطاً بطول 6 آلاف عام منذ ألواح بلاد ما بين النهرين الصلصالية إلى ألواح القراءة الإلكترونية، وتترك قراءها وقد بثت فيهم إلهاماً ونشاطاً وامتنانا مخلصاً لاختراع الكتاب.
العنوان: Papyrus: The Invention of Books in the Ancient World
تأليف: Irene Vallejo
ترجمة: Charlotte Whittle
الناشر: Hodder & Stoughton