Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

باية معجزة الفن الجزائري فتنت الحداثة الأوروبية

معرض باريسي استعادي لأعمالها يكشف مسيرتها الفطرية الفريدة وآثارها

لوحة من معرض الجزائرية بايا في باريس (خدمة المعرض)

منذ معرضها الأول في باريس، عام 1947، الذي وقّع أندريه بروتون نصّ كاتالوغه، ومنحها الانقشاع الذي تستحقّه، لم تعد تحصى المعارض التي خُصصت على جانبيّ حوض المتوسط للفنانة الجزائرية باية (1931 ــ 1998)، واسمها الحقيقي فاطمة حداد. لكنها المرة الأولى التي تحظى بمعرض استعادي ضخم في "عاصمة الأنوار" ينظمه حالياً لها "معهد العالم العربي"، ويشكّل فرصة فريدة لاكتشاف مختلف جوانب عبقرية هذه المرأة الأمية التي فتنت منذ رسومها ومنحوتاتها الأولى ليس فقط رائد الحركة السوريالية، بل أيضاً بيكاسو، جورج براك، ألبير كامو وفنانين وكتّاب كبار كثر غيرهم.

وفعلاً، يمكننا أن نتأمل في هذا المعرض عشرات الرسوم التي أنجزتها الرسامة باية في سن الثالثة عشرة، جميع الأعمال التي تندرج تحت عنوان "حكايات باية" (1947)، مختارات واسعة من اللوحات والمنحوتات التي توقّع كامل مسيرتها الفنية، إلى جانب وثائق تاريخية حولها تُعرَض للمرة الأولى. لكن أهمية المعرض لا تقتصر على ذلك، فهو يلقي أيضاً ضوءاً جديداً على "ظاهرة باية" من منظور دراسي لمرحلة ما بعد الاستعمار، ما يساعد على فهم كيف تمكنت فتاة يتيمة، كانت تعمل خادمة، من أن تصبح في نهاية مرحلة الاستعمار تلك الفنانة التي تتقن لغة الأشكال والألوان وتبتكر بأسلوب خاص بها عالماً ساحراً ومتناغماً يستحضر الفردوس بالنساء الفاتنات والسعيدات التي تقطنه، وبالطيور والفراشات وآلات موسيقية التي تحيط بهن.

يقترح المعرض إذاً تأملاً في عملية تحرّر فتاة داخل بلد مستعمَر بفضل شخصيتها وموهبتها الفنية، وأيضاً بفضل دعم مجموعة صغيرة من الأشخاص الإنسانيين الذين كرّسوا حياتهم لإظهار قيمة الثقافة الجزائرية وناضلوا من أجل إلغاء النظام الاستعماري. وفي هذا السياق، يبيّن كيف أن باية، من دون أن تستخدم مفردات سياسية أو نضالية، مارست فنها في بداية مسيرتها كوسيلة مقاومة لظروف بيئتها التقليدية القاهِرة وظروف الاستعمار القاسية، ثم تمكّنت، بعد مرحلة قطيعة فرضها زواجها عام 1953، ودامت عشر سنوات، من استئناف نشاطها الفني بموازاة اضطلاعها بدورها كزوجة وأم داخل عائلة تقليدية في مدينة بليدة.

شهرة مبكرة

وما ساعدها على إنجاز كل ذلك هو أنها، بخلاف فنانات كثر من زمنها، لم تعانِ من التهميش، بل بلغت ذروة الشهرة منذ سن السادسة عشرة، حين نظّم تاجر الفن الفرنسي الشهير إيمي ماغ معرضاً لها في الغاليري الباريسية التي تحمل اسمه، إثر اكتشافه بالصدفة موهبتها خلال رحلة له إلى الجزائر. معرض مكّن هذه الفتاة القادمة من بيئة جزائرية ريفية فقيرة من إبهار كبار الكتّاب والفنانين وهواة الفن في باريس، بدءاً ببروتون الذي، بعدما وصفها بـ "الإشراقة المتلألئة"" في النص الذي وضعه لكاتالوغ معرضها، كتب حولها: "لا يمكن إنكار أن، في أدوات عجائبها، تتنافس جرعات الحب والتعاويذ سرّاً مع خُلاصات عطور من ألف ليلة وليلة. ذلك أن الرغبة البشرية داخلها في حالة نقاء كلي، لا تتقبّل أي عقبة لإرضاء ذاتها (...)". من جهته، كتب مواطنها كامو بعد مشاهدته معرضها هذا: "أُعجِبتُ كثيراً بتلك المعجزة التي يشهد عليها كل واحد من رسومها. في باريس السوداء والخائفة هذه، إنها فرحة للعينين والقلب". وبعد ستة أشهر فقط من هذا المعرض، عبّر بيكاسو، الذي كان يعمل في محترفه القريب من محترف باية، في بلدة فالوريس الفرنسية، عن افتتانه بالمهارة التي كانت تقولب يدا هذه الفتاة الطين وتبتكران به منحوتات ذات تعبيرية عالية.

وفي وطنها، حظيت الفنانة انطلاقاً من عام 1950 بدعم الشاعر جان سيناك الذي أشركها في عدة معارض من تنظيمه ونشر رسومها داخل مجلته "أرصفة". ومباشرةً بعد حرب التحرير، حظيت أيضاً بدعم المهندس والرسام جان ميزونسول الذي كان مدير "المتحف الوطني للفنون الجميلة" في العاصمة الجزائرية، ووفّر لها الإمكانات المادية لمتابعة عملها، عبر شرائه لوحات كثيرة منها للمتحف وتنظيمه عدة معارض لها. وفي الفترة نفسها، وإثر انتمائها إلى مجموعة "أوشام" الفنية الجزائرية، شكّلت في طبيعة عملها خير تجسيد لما أكّده رفاقها في بيانهم عام 1967، أي الرغبة في الجمع بين الحداثة والثقافات الشعبية المتوارثة.

هكذا، وعلى رغم شخصيتها المتحفِّظة، شقّت باية طريقها الخاص، وشاركت في معارض جماعية مهمة وحظيت بمعارض فردية غزيرة داخل وطنها وخارجه، وهو ما دفع الكاتبة الجزائرية آسيا جبّار إلى اعتبارها "معجزة، امرأة رائدة على طريق تحرّر النساء، أكّدت حقّها في الإبداع"، فوضعت نصّين مهمين حولها كشفت فيهما الأهمية الرمزية لموضوعاتها النسائية في مواجهة البُعد البطريركي للمجتمع الجزائري التقليدي.

الفن الفطري المدهش

من جهتهم، يلاحظ منظّمو معرض باية الحالي أن الكلمات للتحدث عنها غالباً ما تكون مفخَّخة، لأنها تعلك فكرة المعجزة الأولية أو تصف فنّها بـ "الساذج"، فتعيق أي قراءة تأريخية صائبة لمسيرتها، أو تمنع من رؤية فرادة فنّها، ألقه، تطوراته وبعده الروحي. وهو ما يضرّ، في نظرهم، حتى بصورة الفنانة التي، على رغم حيائها وتحفّظها، عرفت كيف تتكئ على شبكة علاقات وتعثر على مكانها داخل المشهد التشكيلي في الجزائر، حيث كانت النساء نادرات، وكيف تواصل عرض عملها في أوروبا من دون السماح لنفسها بالتأثّر بالفن الغربي بهدف إثارة الإعجاب، بل حافظت على عالمها الخاص ولغتها التشكيلية الفريدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالتالي، تمسّنا أعمال باية نظراً إلى أشكالها وألوانها وشخصياتها المبتكَرة بقدر انتمائها إلى إرث ثقافي. فمع أنها لم تتلقّ أي تعليم دراسي، إلا أنها كانت في اتصال بمعارف أخرى، برصيد رمزي لم تنفصل عنه أبداً، بل استثمرته جيداً في إبداعها عبر استخدامه بحرّية. وفي هذا السياق، تتجلى في أعمالها ما شاهدته وسمعته خلال طفولتها في منطقة القبايل (Kabylie)، موطن أمها، حيث نشأت داخل عالم ثقافي تعلّمت فيه مهارات وأشياء جوهرية، سواء عن طريق مراقبتها النساء حولها أثناء صنعهن قطع السجاد والفخار التي ستحضر لاحقاً بألوانها ونماذجها داخل رسمها وتفسّر ميلها إلى الابتكار بمادة الطين، أو عن طريق إصغائها بشغف للحكايات المنقولة شفهياً داخل هذه البيئة، والتي ساهمت بقوة في تربيتها وتنمية مخيلتها.

في الوقت نفسه، لم يخطئ نقّاد غربيون في مدح حسّ باية الفطري في مزاوجة الألوان والأشكال، وفي مقارنتهم تارةً خطّها بخطّ ماتيس، وطوراً ألوانها بألوان شاغال، فمسعاها الفني حداثي مهما كان متجذّراً في إرثها الثقافي. من هنا رؤية بروتون فيها "ملكة عالمٍ جديد (...) تمسك بالغصن الذهبي وتحييه، (...) وتعيد شحن بالمعنى تلك الكلمتين الجميلتين اللتين تبعثان إلى الحنين: العربية السعيدة".

لكن حول فنّها تبقى الكلمة الأخيرة لباية نفسها التي صرّحت عام 1986: "أرسم ما أشعر به. أنزعج حين يسألونني عمّا أريد التعبير عنه من خلال رسمي. أمنحكم الحق في العثور داخله على ما ترغبون فيه (...). أنا أرسم. وما عليكم سوى الشعور".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة