الروائية المصرية ريم بسيوني واحدة من الكاتبات والكتّاب الذين سلكوا التاريخ، وأضاؤوا مسالكه، فقد استطاعت عبر مشروعها الأدبي أن تبلغ الكثير من الحقب المفصلية في تاريخ مصر، مثل الحكم العباسي والحقبة المملوكية، والحكم العثماني وحقبة الأسرة العلوية. ونقلت تلك الحقب إلى فضاءاتها السردية، مازجة بين الحقيقة والتخييل، كما في روايات "أولاد الناس"، "سبيل الغارق"، و"الحلواني"، وكذلك رواية "القطائع- ثلاثية ابن طولون" (نهضة مصر) والتي تضمنتها القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، في دورتها السابعة عشر لعامي 2022-2023.
تحيل عتبة النص الأولى إلى الفضاء المكاني للأحداث وتشي بالدور المحوري الذي يلعبه في السرد، إذ اختارت الكاتبة "القطائع" عنواناً للرواية، وهو اسم المدينة التي بناها أحمد بن طولون، لتكون عاصمة حكمه لمصر، بعد أن استقل بها عن الخلافة العباسية.
نسجت الكاتبة في ثلاثيتها، ثلاث حكايات تتصل على رغم انفصالها، وهي "ميسون، حلم أحمد، العهد". ورصدت خلالها بداية تأسيس الدولة الطولونية، حتى سقوطها على يد محمد بن سليمان الكاتب، وعودتها مرة أخرى لأحضان الخلافة العباسية.
غايات الصراع
استهلت الكاتبة رحلتها السردية بحكاية تمهيدية تربط بين الروايات الثلاث، واختارت مطلع القرن العشرين، ليكون فضاءها الزمني. ثم وظفتها كتوطئة وبوابة عبور إلى ماضٍ أبعد، دارت خلاله أحداث الثلاثية. كان بطل تلك الحكاية "عادل" الموظف الذي كان يشرف على تجهيز جامع أحمد بن طولون، وهدم البيوت المجاورة له، استجابة لرغبة الملك فؤاد. وعثر أثناء عملية الهدم، على أوراق تعود إلى ما قبل ألف عام من عصره، حوت سطورها أحداثاً دارت في حقبة تاريخية، اتسمت بصراع ملتهب على السلطة. هذا الصراع استثمرته الكاتبة، ونقلته من الفضاء الواقعي إلى فضاء السرد، فهيمن على كل مفاصله، وكانت أطرافه أحمد بن طولون، ابن المدبر والي الخراج، العباس بن طولون، جيش أحمد، محمد بن سليمان الكاتب، عيسى النوشري.
غير أن أهداف الصراع تغيرت من حكاية إلى أخرى، ففي حكاية ميسون لم تكن السلطة وحدها غاية لذلك الصراع، وإنما كان الانتقام من والي الخراج، الذي نكَّل بالمصريين، وأرهقهم بالضرائب، وأذاقهم الذل. فدفع بشيخ الصيادين "المصري" للانتحار، ودفع بابن الصياد "أنس" للثأر. وقد أذكت "ميسون" جذوة هذا الصراع، بسبب تنافس طرفيه "أنس، وابن المدبر" من أجل الفوز بها. وفضلاً عن الصراع الخارجي، استدعت الكاتبة ألواناً من الصراع الداخلي، كوسيلة لسبر أغوار النفس الإنسانية، وتعرية ضعفها، تناقضاتها، ونوازعها الرديئة. فاشتعل صراع داخل ميسون بين الحب والكبرياء. وتمزَّق "أنس" بين رغبة في الانتقام، ورغبة أخرى في تجاوز الظلم ونسيان الماضي. كذلك انقسمت نفس القاضي المصري يحيى، بين كراهية ابن المدبر، والخوف من بطشة، وأيضاً بين الإشفاق على ابنته، والقسوة عليها. واستمر الصراع الداخلي وانقسام الذات سمة للشخوص على طول خط السرد في كل الحكايات، لا سيما الشخصية الرئيسة "أحمد بن طولون"، إذ جسدت الكاتبة تناقضاته التي وثقها التاريخ، حتى قال عنه الرافعي في كتابه "وحي القلم": "كان له يد مع الملائكة ضارعة، ويد مع الشياطين ضاربة".
بين المعمار والسرد
استخدمت الكاتبة أسلوب الراوي الكلي العلم في الحكايتين الأولى والثالثة، أما الحكاية الثانية فاختارت لها أن تكون رواية بوليفونية، يتدفق خلالها السرد عبر أصوات متعددة؛ مما أتاح للشخوص مساحة حرة كي تعبر عن نفسها بموضوعية أكبر، بعيداً من هيمنة الراوي ورؤيته. واستطاعت أن تقبض على العلاقة الخفية بين الأدب والمعمار، وأن تمزج بين سحر كل منهما، مما أتاح لها أن تنتج نصاً روائياً مغايراً، لا يظهر فيه المعمار- عبر تقنيات الوصف- كظلٍ يتجلى في خلفية الحكايات، وإنما بدا مكوناً أصيلاً من مكونات السرد، لا يكتمل البناء الروائي من دونه. وجاء التمثيل المعماري في النص، عبر أبنية وقصور مدينة القطائع، وكذا عبر جامع أحمد بن طولون، الذي كان محركاً رئيساً للأحداث، لا سيما في الحكاية الثالثة "العهد". وقد عززت ريم بسيوني حضور هذا المعمار باستخدام تقنيات بصرية ولغة مشهدية، نقلت عبرها أيضاً صورة حية للحرب والقتال، البناء والهدم، الحرق والخراب. وأجادت كذلك النفاذ إلى دواخل شخوصها، وتجسيد ما يعتمل فيها، فجعلت للحزن ملمساً، وللسعادة مذاقاً، وللغضب مظهراً، وللخوف رائحة، فتمكنت من السيطرة على حواس القارئ، وعززت لديه حالة من التماهي مع النص، ما زاد من جاذبية السرد.
ما يفعله الحب
الرومانسية عند ريم بسيوني ليست مجرد غلالة تغلف النسيج السردي، وإنما هي عمود رئيس من أعمدة السرد، تزيد من عذوبته ومتعته، وتحقق له في الوقت نفسه، مزيداً من الصدقية والواقعية، فلطالما كان الحب في تاريخ الأرض، دافعاً للحروب، وملاذاً منها، ودائماً ما حمل في راحتيه الشقاء والنجاة معاً، وهذا ما رصدته الكاتبة في حكاياتها الثلاث، غير أنها جعلت منه نافذة، تطل على أغوار النفس الإنسانية الموسومة بالتعقيد والتناقض، تلك التي تنتقم في ذروة الحب، وتنأى عند منتهى الشوق، وتقسو حينما تنبغي الرحمة، وتنأى متى يتسنى الوصال. وقد ضربت على هذا التعقيد أمثلة عدة؛ منها حقد ميسون على حبيبها أنس، وعزوف أحمد عن زوجته المصرية أسماء، ونأي العربي عبد الرحمن عن زوجته الأميرة، وإحجام "بحنس" ساحرة الهرم عن "سعيد الفرغاني"، وقسوة القاضي على ابنته.
وإلى جانب النزوع الرومانسي، تخللت النسيج ظلال صوفية، تجلت في الخطاب الروائي لفظاً ومعنى، عبر استخدام مفردات مثل الدوائر والدوران، واستدعاء أقوال رابعة العدوية، وكذا في معاني الزهد والتخلي والاستسلام، التي حظيت بحضور كثيف داخل النص، وأضفت عليه طابعاً حكمياً، برز عبر استدعاء المأثور ومقولات بعض الفلاسفة اليونانيين، مثل أرسطو وأفلاطون. وبرز كذلك في الحوار المسرحي، الذي حضر بكثافة داخل النسيج، ليؤدي دوره في الإبطاء بالسرد، كي يتسنى الإدراك والتأمل، وهما غايتان تتسقان مع حضور الحكمة، والرغبة الضمنية للكاتبة في استخلاص العبر. كما عزز هذا الديالوغ حالة الإيهام بآنية الحدوث، فمحى الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر، ومنح زمناً انقضى بداية أخرى، فعاد يحدث من جديد.
خطاب معرفي
تستدعي الرواية التاريخية بالضرورة، خطاباً معرفياً، يضيء حقبة زمنية، وقد تمكنت الكاتبة من الدفع بحمولات معرفية كثيفة إلى نسيجها، انسابت في سلاسة، ورصدت عبرها حالة الضعف والتردي التي أصابت الخلافة العباسية، وما قام به الولاة العباسيون في الولايات التابعة للخلافة من بطش وقسوة، لا سيما في مصر، التي تجرع شعبها ظلم وتنكيل ابن المدبر؛ والي الخِراج. كذلك مررت بسيوني معارف أخرى عن معمار الدولة الطولونية، وعن حكم أحمد بن طولون وأبنائه لمصر، ثم القضاء على هذه الدولة بيد محمد بن سليمان الكاتب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتسق ما استهلت به الكاتبة فصول حكايتها الثانية من صيغ استهلالية تراثية، مع الطبيعة التاريخية للنص، والحقبة التي دارت خلالها الأحداث. كذلك عزز استدعاء أبيات من الشعر العباسي والجاهلي، في مستهل كل باب هذه الروح التراثية. وحقق المزج بين أكثر من جنس أدبي مزيداً من جاذبية النسيج، بينما زاد من جماليته اعتمادها التناص بصورتيه المباشرة وغير المباشرة، مع الموروث الديني والفلسفي اليوناني.
ودفعت بجرعات من التشويق، عبر ما اعتمدته من حيلٍ استباقية، قامت من خلالها بالإشارة إلى حدث، وأرجأت تفسيره لمرحلة لاحقة من السرد، مثل قتل صالح بيد عبد الرحمن، حلم أحمد الذي قاده إلى مُلك مصر، وكذا اللقاء الأول بين ميسون وابن المدبر، الذي أحاطته – لبعض الوقت- بهالة من الغموض. وعبر هذه الاستباقات، تمكنت من القبض على القارئ، ودفعته طوعاً لتتبع الأحداث، التي كشفت عن إسقاطات ضمنية، تحيل إلى معاناة المصريين طوال عهودهم. وقد أبرزت الكاتبة صوراً عديدة من التقابل بين الثنائيات المتناقضة، كالحب والحقد، الخير والشر، الوفاء والخيانة، الزهد والطمع. كما مررت صوراً من التماثل بين الحياة والجبر، وكذلك بين بعض الشخوص التي تقاطعت مصائرها، فقد حصد كل من أحمد وساحرة الهرم خيانة مماثلة، وألماً يفوق كل ألم، بعد خذلان مَن كانوا قطعة من القلب! ولم تكن شخصية "بحنس" مجرد نافذة تسللت منها الفانتازيا إلى النص، وإنما أذكى حضورها حضور القدماء الذين سبقوا بالبناء، والحضارة، والتاريخ.
توظيف الحلم
استفادت ريم بسيوني من ثراء شخصية أحمد بن طولون، واستدعت ما تردد عبر تاريخه من أحلامه، التي كانت بمثابة نبوءات؛ تحقق بعضها في حياته، وبعضها بعد موته، ثم أعادت توظيف هذه الأحلام بما تحيل إليه من دلالات غيبية ورمزية؛ داخل السرد، لتؤدي وظيفة تمهيدية للاحِقِ من الأحداث، فكان حلمه بمحمد بن سليمان الكاتب يكنس أثره؛ تفسيراً لسلوكه تجاه ابن سليمان وتمهيداً للحملة العسكرية ضد الدولة الطولونية. أما حلمه بتجلي الله لكل ما قام ببنائه ما عدا مسجده، فكان تمهيداً للدور الذي سيلعبه المسجد في الصراع، وبقاءه وحده من أثر ابن طولون، وزوال كل ما دونه. بينما كان حلم طفولته، دافعاً لكل ما قام به، من أجل الاستحواذ على ملك مصر، والانفصال بها عن الدولة العباسية. وكما لعبت هذه الأحلام وظيفة تأثيرية وتمهيدية، اتخذتها الكاتبة جسراً عبرت فوقه إلى لا وعي الشخصية المحورية ودواخلها، فكشفت عن تناقضات أحمد بن طولون، وصراع خاضه بين الإقبال على الدنيا والإحجام عنها، وافتتانه بالملك وخوفه من زواله، ورغبته في البناء كي يمتد أثره عبر التاريخ.