تتجه الأنظار هذه الفترة في تونس صوب الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد)، تأسست في خمسينيات القرن الماضي، لها شرعية تاريخية، وقاعدة عمالية متينة، وهي تضم حوالى مليون منخرط في القطاعين العام والخاص، وخريطة نقابية تتجاوز عشرة آلاف نقابة، وتعمل هذه المنظمة على إحداث التوازن بين السلطة والمعارضة، كما تعمل على ترتيب الحوارات من أجل مساحة مشتركة بين الأفرقاء السياسيين، كلما أحكمت الأزمة السياسية قبضتها على البلاد.
ويعول التونسيون اليوم على هذه المنظمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في بلد أنهكته الأزمات المزدوجة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، لاسيما وأنه سبق للاتحاد أن اضطلع بدور مهم في الحوار الوطني عام 2013، وساهم في تجنيب تونس أزمة خطرة إثر الاغتيالات السياسية وانتشار العمليات الإرهابية في البلاد.
مبادرة اقتصادية واجتماعية
واليوم تجلى حجم الهوة بين التونسيين والطبقة السياسية، من خلال العزوف الكبير عن المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وحال الانقسام الذي يمزق أوصال النسيج الحزبي بين معارضة (منقسمة) لمسار رئيس الجمهورية، وأحزاب مساندة وأخرى داعمة لكن غير متفقة تماماً مع مسار قيس سعيد.
وفي ظل هذا التشتت الحزبي، هل يتمكن الاتحاد من تقريب وجهات النظر، ويطرح مبادرة لإنقاذ تونس؟ أم سيصعد في خطابه ويضغط باللجوء إلى الشارع؟
يلوم بعض المتابعين للمشهد السياسي في تونس على الاتحاد، كونه منخرطاً في الفعل السياسي، والحال أنه منظمة نقابية عليها أن تنأى بنفسها عن المناكفات السياسية.
ويؤكد صلاح الداودي أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية، أن "الاتحاد يملك القدرة على تقديم المبادرات التي لها علاقة بالملفات الاقتصادية والاجتماعية لا بالملف السياسي، على غرار برامج الحكومة، ومخطط التنمية، وملف الإصلاحات الكبرى، والموازنة المقبلة، والمفاوضات الاجتماعية، علاوة على ضرورة تعزيز موقف الاتحاد من خلال فتح قنوات الحوار مع رئيس الجمهورية قيس سعيد، لدفع الملف الاقتصادي بالعامل السياسي".
ويستبعد الداودي أن "ينخرط الاتحاد مع جهة سياسية بعينها لمعالجة الوضع السياسي في البلاد"، داعياً منظمة الشغل إلى "التفاوض من أجل إصلاحات اقتصادية واجتماعية مدفوعة بالاستقرار السياسي".
ويشدد الداودي على أن "الحوار اليوم في تونس غير ممكن، لأن الانتخابات الثانية ستكون في موعدها وسيتم العمل على تحسين شروط إنجاز الاستحقاق من ناحية الإقبال، والعمل على توعية الناخبين بأهمية المشاركة السياسية"، لافتاً إلى أن "الحكومة ستتغير وستعمل تلك الجديدة على تحسين ظروف التونسيين".
وخلص إلى القول "إن البرلمان المقبل سيعمل على تعزيز الحوار مع المنظمات الوطنية من أجل مصلحة التونسيين جميعاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المنظمات الوطنية عاجزة وضعيفة
في المقابل لا يرى الإعلامي خالد كرونة أن "الاتحاد قادر بمؤازرة المنظمات الوطنية على تقديم مبادرة أو قيادة حوار وطني، بالنظر إلى أن هذه المنظمات تعاني صعوبات داخلية، علاوةً على تعقيدات اللحظة السياسية الراهنة في تونس"، مذكراً بأن "الأحزاب السياسية فقدت بريقها في الساحة السياسية، ولم يعد لها دور بعد أن فقدت صدقيتها وأوغلت في الصراعات السياسية الضيقة خلال عشرية ما قبل 25 يوليو (تموز)".
ويرى كرونة أن "الاتحاد يستبق الاحتقان الاجتماعي المنتظر، بتجديد إعلان موقفه الرافض لمسار رئيس الجمهورية"، واصفاً خطاب الاتحاد بأنه موجه "للاستهلاك الإعلامي لا غير".
ولفت إلى أن "عديد الأحزاب تريد توظيف الاتحاد من أجل فرض رؤيتها، وتوريطه في مبادرة سياسية قد تفهم على أنها اصطفاف من الاتحاد وراء جهة سياسية على حساب أخرى".
استقلالية الموقف النقابي
ورفض الاتحاد في بيان له، ما وصفها بـ"المحاولات اليائسة لبعض الأطراف فرض مواقفهم على الاتحاد والتدخل في قراراته ودفعه إلى الاصطفاف وراء أجنداتهم"، مشدداً على استقلالية الموقف النقابي وإدانة "حملات الشيطنة ودعوات التحريض والتهديد التي يطلقها بعضهم ضد النقابات والنقابيين". وأضاف الاتحاد العام التونسي للشغل في بيانه، أن "تدني نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية يؤكد بوضوح موقفاً شعبياً رافضاً للخيارات الجديدة، وعزوفاً واعياً عن مسار متخبط لم يجلب للبلاد سوى مزيد من المآسي والمآزق".
وذكر المكتب التنفيذي الموسع للاتحاد بتحذيراته من الانزلاقات والانحرافات التي سقط فيها مسار التصحيح، بدءاً بــ"التغيير القسري للدستور في اتجاه نظام حكم رئاسوي منغلق، يشكل تربة صالحة للاستبداد وحكم الفرد، ومروراً بقانون انتخابي مسقط كرس الإقصاء والعروشية، وصولاً إلى انتخابات بلا لون لها ولا طعم، ستزيد من تعميق الأزمة التي غرقت فيها البلاد".
وتعيش تونس أزمة مركبة تتمثل فيما يعتبره بعضهم "مساراً انفرادياً يقوده رئيس الجمهورية قيس سعيد، يقابله رفض شعبي تجلى من خلال نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية الأخيرة"، ويتزامن ذلك مع تشتت حزبي وتدن غير مسبوق للمقدرة الشرائية للتونسيين، أمام عجز الحكومة عن التحكم في الأسعار أو تحقيق نتائج اقتصادية واجتماعية ملموسة.
وضع سياسي واقتصادي واجتماعي معقد سيضع الاتحاد أمام مسؤولية تاريخية لإنقاذ البلاد من الأزمة المتعاظمة، من خلال الضغط والإضرابات أو الاعتصامات والاحتجاجات الميدانية، باتجاه إجراءات اقتصادية واجتماعية، وفتح قنوات التواصل بين رئاسة الجمهورية وبقية المكونات السياسية التي تتبنى مشروعاً مشتركاً للإنقاذ.