في عام 1959 وقبل أعوام من نشر زوجته الأولى، الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنه آرندت كتابها "إيخمان في القدس"، الذي أوصل شهرتها إلى ذروتها، وفي الأقل حتى الظهور المدوي لرائعتها "جذور التوتاليتارية"، كما أوصل محاربة المفكرين اليهود الأقحاح لها معتبرينها "ابنة صهيون الضالة"، كان المفكر الألماني غونثر آندرس قد بدأ العمل على ذلك النص الذي لن ينجزه قبل سنوات عديدة تالية، مما دفع كثراً إلى الاعتقاد أنه إنما حاول في هذا النص أن يرد عليها، كما سنرى بعد سطور. غير أن من يقرأ النصين -نص آرندت ونص آندرس- سرعان ما يتبين له أنهما يتكاملان، إذ يسجلان معاً بداية زمن جديد يمكن اختصاره بالعنوان الذي جعله آندرس للفصل المركزي في نصه "هيروشيما حولنا في كل مكان"، علماً بأن عنوان "الأيديولوجيا والرعب" كان من ابتكار الناشر الألماني هارتمان، الذي رأى ضرورة الجمع بين النصين تحت ذلك العنوان الذي يعبر عن "الكآبة الفلسفية نفسها لمواجهة هذا العالم الذي بات من الصعب الهيام به". ويمكن اختصار ذينك الموقفين المتكاملين بالقول مع آرندت إن جوهر الأنظمة التوتاليتارية يكمن في الرعب الذي يقوم بدوره في إنكار حق الفرد في فرض وجوده محلاً بدلاً عنه قوى الطبيعة المنفصلة تماماً عن كل ما هو شخصي (النظام النازي) أو تاريخي (التشويه الستاليني للماركسية)، بالتالي بحسب آرندت، يأتي الرعب هنا ليجعل من البشر مجرد عجلات في تلك الآلة العملاقة لـ"يسحق الأفراد باسم النوع، ويضحي بالبشر لصالح الإنسانية جمعاء". ومن هذه الأفكار المشتركة في تكاملها، تخلص آرندت في مساهمتها إلى نسخ الأنماط السياسية على النموذج الصناعي لتستنتج أن التوتاليتارية تعمل على إخفاء الحيز الحقيقي للفعل البشري وهو جوهر الحرية نفسها، بالتالي فإن النظام التوتاليتاري يحول الناس جميعاً إلى شخص واحد جاعلاً إياهم متواطئين مع النظام في كل أفعاله مشاركين في كل ما يقترفه... ومن هنا يصبح القتل الجماعي وقد بات مجرد عملية آلية، يصبح نوعاً من محو مرعب لكل مفاهيمنا الأخلاقية وحقوقنا القانونية حتى "وإن لم يكن ثمة من يمكن تحميله أية مسؤولية جدية حول ما حدث" أي حول غرف الغاز النازية أو معسكرات الاعتقال السوفياتية.
مسؤولية غائبة
مهما يكن من أمر يمكننا هنا أن ننتقل إلى غونثر آندرس لنذكر مع الباحث الفرنسي ستيفان لوغران كيف التقته حنه آرندت بعد نحو ستين عاماً من انفصالهما وفي الأقل في هذا الكتاب المشترك لتجد فيه، وتحديداً في مجال مفهوم تحديد أو غياب المسؤولية، في الأقل معادلاً لأفكارها، في مقابل حديثها عن آدولف إيخمان الذي كانت قد تابعت محاكمته في إسرائيل مستنتجة "عادية الشر" متسائلة عن مسؤولية الموظف الصغير عن جرائم اقترفها مسؤولوه الكبار. وهكذا نرى غونثر آندرس يجد في هذه الصورة التي ترسمها زوجته السابقة لـ"عادية الشر" كما يمثلها إيخمان مجالاً لرسم صورة أخرى حول ذلك الشر العادي: هي هذه المرة صورة الميجور كلود إيذرلي، الطيار الحربي الأميركي في القوات الجوية لبلاده، والذي دخل التاريخ من "باب عريض" إذ كان هو من أعطى الإشارة التي انطلقت منها القنبلتان اللتان دمرتا مدينتي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين، ليعتبر بالتالي أكبر قاتل في تاريخ البشرية بكبستي زر! وكان آندرس قد شرع عام 1959 بتبادل الرسائل مع إيذرلي وهي الرسائل التي تشكل لب النص الذي كتبه آندرس بعنوان "هيروشيما في كل مكان حولنا".
كوابيس تتصاعد
ومن تلك المراسلات يستشف أن الطيار الأميركي وعلى رغم أنه يعيش في تكساس، كان ما إن عاد من الحرب حتى بدأ يرى كوابيس مليئة بجثامين شاحبة بيضاء مغطاة بالكلس لألوف القتلى ضحايا للقنبلتين. ونتيجة لذلك بدأ يتصاعد لديه نوع قوي من الشعور بالذنب، إذ راح يرى نفسه "أول متهم من دون شعور بالذنب في العصر الذري". ونتيجة لذلك الشعور الجديد والمتصاعد، حاول إيذرلي الانتحار مرتين أسفرتا عن نقله إلى المصحات النفسية مرات ومرات. وتفيدنا المراسلات هنا بأن آندرس انتهى به الأمر إلى أن يخاطب إيذرلي بوصفه رمزاً لنمط جديد من الشعور بالذنب. نوع يرى آندرس أنه سوف يغمرنا جميعاً ذات يوم: إذ نضحى جميعاً متهمين بما لن نكون مسؤولين عنه، أي أن نضحى "متهمين أبرياء". أما آلام إيذرلي ومشاعر الندم المتصاعدة في وقت كانت أميركا وسواها يحتفون به بوصفه "فتى الانتصار الذي أوقف الحرب"، فإن ذلك كله لم يكن من شأنه إلا أن يزيد من عمانا الذي لا يمكن تصديقه: فنحن ليس في وسعنا أن نصدق هذا حتى ولو كنا نعرف، نحن الذين نعي تمام الوعي إمكانية بل حتمية حدوث ما هو أسوأ، لكننا في الوقت نفسه وبحسب الباحث لوغران الذي ننقل عنه هنا إذ يقول مستطرداً "لكننا نبذل كل طاقتنا وقدرتنا على الابتكار لنسيان هذه المعرفة"، نحن الذين بتنا نعيش "زمن العجز عن الشعور حتى بالخوف" نحن الذين بتنا في وضع يمكننا من تدمير كوكبنا أربعين مرة من دون أن يهتز لنا جفن، ومع ذلك ها نحن أولاء نتابع جريمتنا وكأن كل شيء يمكنه أن يتواصل كما كان دائماً.
القيام بما هو مستحيل
وهنا يستنتج آندرس ما يعيدنا إلى حنه آرندت و"التكامل" بين إيخمان كما صورته، وإيذرلي كما رسم شخصيته، بأنه إذا كان الأول قد حاول كل جهده كي يتهرب من مسؤوليته تجاه آلة القتل التي لم يكن شخصياً سوى برغي في واحد من عجلاتها، فإن إيذرلي وصل "إلى حد الاعتراف بأن آلته هو كانت أعلى درجات الخطر المهيمن على الوعي والضمير" وسعى بالتالي إلى القيام بما هو مستحيل: أي تحميل نفسه المسؤولية عما لم يتهم به أي النتائج المدمرة الفظيعة لفعلته، بالتالي نراه وقد جهد للحفاظ على وعيه وضميره صاحيين في عصر الآلة، وهو بالتحديد العصر الذي كرس غونثر آندرس حياته وقدراته الفلسفية لمحاربته تحت مسمى "ميكنة البشرية" وذلك منذ اكتشف باكراً كتابات لوالتر بنجامين حول مصائر الإبداع الفني في زمن إعادة إنتاجه آلياً، بالتالي حين راحت تظهر عند نهايات سنوات الأربعين أولى علامات الهيمنة المقبلة للتلفزيون على حياة الفن وعلاقة الناس به فأصدر واحداً من أول الكتب المتحدثة عن ذلك الموضوع بعنوان "عالم التلفزيون الشبحي" وكان ذلك في عام 1950. ليلحقه بعد ستة أعوام بنصه الأساسي "سقوط النوع البشري" الذي لن يصدر جزؤه الثاني إلا بعده بما لا يقل عن ربع قرن. أما عن قضية إيخمان فقد أصدر لاحقاً كتاباً يضم سلسلة محاضرات ألقاها في النمسا وألمانيا تحت عنوان "كلنا أبناء إيخمان، رسالة إلى كلاوس إيخمان" وجهها إلى ابن النازي الشهير وإلى كثر كانوا يطرحون عليه دائماً سؤالاً أساسياً هو "كيف يمكننا أن نقطع مع جيل آبائنا؟" فيجيب "بالتبرؤ منهم فهم لا يستحقون أي حزن عليهم ولا أي ارتباط بهم". أما واحد من آخر كتبه فكان "الإنسان من دون عالم"، علماً بأنه كرس الكتاب الأخير الذي وضعه في عام 1990 للحديث عن "العالم بوصفه شبحاً وفيلم ماتريكس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صداقة وود بعد الطلاق
ولد غونثر آندرس في عام 1902 في بريسلاو في الإمبراطورية الألمانية (اليوم فروكلاف ببولندا) ابناً لمؤسسي سيكولوجية تطور الأطفال كلارا وويليام شتيرن، وكان الفيلسوف والتر بنجامين صديقه وابن عمته، وهو تزوج ثلاث مرات كانت أولاها بحنه آرندت التي عاش معها ثماني سنوات بين 1929 و1937. وهو كان قبل ذلك قد نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة متتلمذاً على الفيلسوف الألماني إدموند هاسرل ثم توجه إلى برلين ليعمل في صحافتها وليبدل اسمه من شتيرن إلى "آندرس" لمجرد أن شتيرن تنم عن يهوديته بينما تعني آندرس (الآخر). ولاحقاً تزوج من رفيقته على مقاعد الدراسة حنه آرندت من دون أن يعلم أنها تقيم علاقة مع أستاذهما المشترك مارتن هايدغر، وحين انفصلا عام 1937 كان انفصالهما ودياً وظلا صديقين يتبادلان الأفكار حتى النهاية.