تصاعد التوتر والشد والجذب جراء تسليم حكومة عبد الحميد الدبيبة، المنتهية ولايتها، ضابط الاستخبارات السابق أبوعجيلة مسعود أحد المتهمين الرئيسين في قضية "لوكربي" إلى الحكومة الأميركية لتثير بهذا ضجة وانقساماً داخلياً لمشهد لا يحتاج إلى مزيد من الانقسام، بخاصة من حكومة أسقطها مجلس النواب الليبي لكنها ترفض المغادرة وتواصل عملها وتثير كثيراً من العواصف الداخلية بشكل مستمر.
أبعاد المشهد
من دون شك تتضمن المسألة بعض الحجج المتضادة، فمجلس النواب المعارض للدبيبة وجدها اعتداء على سيادة البلاد، وتتناقض مع الترتيبات والاتفاقيات التي عقدتها الدولة الليبية في عهد معمر القذافي ودفعت بمقتضاها تعويضات قرابة 2.7 مليار دولار لضحايا الطائرة التي سقطت في اسكتلندا، وتم بمقتضاها تسليم المتهم الرئيس عبدالباسط المقراحي الذي أفرج عنه بعد إطاحة القذافي. أضاف كثير من التعليقات الليبية اعتراضاً آخر، مفاده بأن تسليم أبوعجيلة سيلحقه تسليم مدير استخبارات القذافي عبدالله السنوسي، وهو عندهم أمر يهدد الأمن القومي الليبي والعربي، وهي حجة على قدر من الغرابة في ظل حال سيولة الدولة، وصعوبة تخيل أنه لم يتم تسريب واستباحة معظم أوراق الدولة إلى غالبية استخبارات الدول المعنية، وعموماً ليست هذه مسألة أساسية للتوقف عندها.
من ناحية أخرى، ذكرنا الكاتب الليبي جبريل العبيدي بالمفاوضات والترتيبات التي قام بها نظام القذافي لعقد الصفقة سابقة الذكر، ومن بينها أن تعقد محاكمة المقراحي في هولندا كبلد محايد، وعموماً ركزت غالبية الاعتراضات على أن كل ما يهم الدبيبة هو ضمان رضا واشنطن عنه حتى لو تسبب هذا في مزيد من الانقسامات والخلافات في البلاد.
ولكن الدبيبة لم يكتف بإعلان مسؤوليته عن هذا التسليم، بل صرح كذلك أن هدفه هو نفي أي صلة لبلاده بالإرهاب، وأن هذا التسليم يغلق هذه التهمة، بل أفاض في وصف هول الجريمة وكيف أنها تسببت بفقد أكثر من 270 ضحية من الأبرياء.
ورداً على هذه المجادلات، أوضحت السفارة الأميركية في ليبيا أن عملية التسليم تمت وفقاً لمذكرة من الإنتربول، وأن واشنطن لا تنوي مراجعة شق التعويضات، فقد التزمت اتفاقاً بهذا المعنى، ولكن الأمر يتعلق بالشق الجنائي وضرورة معاقبة كل من اقترف جريمة.
وفي الحقيقة أن هناك حيثيات لكل من وجهتي النظر سابقتي الذكر، فمن ناحية يفترض أن ليبيا قد دفعت الثمن باهظاً في عقوبات لسنوات طويلة وكذلك في اتفاق مباشر مكلف وتم تنفيذه، ومن ناحية أخرى، فإن هول الجريمة يجعل من العدالة معاقبة كل من اشترك فيها.
لكن المفارقة هنا أن المتهم الأول في هذه القضية هو الرئيس السابق معمر القذافي، وأي حديث عن عدالة حقيقية يعني توجيه الاتهام إلى هذا الرجل وليس منفذين تلقوا أوامرهم من رئيسهم، الذي لديه سجل حافل في انتهاكات داخلية وخارجية، ولكن الرجل قد قتل من دون محاكمة، ومن ثم، الدعوة قد انقضت مرتين، مرة بالاتفاق سابق الذكر، وأخرى بوفاة المتهم الفعلي، بالتالي يبدو الإصرار الأميركي على تسلم هذا المتهم محل تساؤلات، بخاصة أن واشنطن لم تكن تحت ضغوط لقبول تسوية من قبل قوة عظمى، بل على العكس كان الطرف الليبي هو الواقع تحت تأثير الضغوط والعقوبات، وأن ليبيا دفعت ثمناً كافياً ومناسباً لجريمة حكومتها ورئيسها، وهنا يقال وفقاً لأحكام وأعراف القانون الدولي إن الدول يمكن أن تتراجع عن اتفاقياتها الدولية إذا تغيرت الظروف أو كانت تحت تأثير ضغوط، ولكن ما يحدث هو العكس، بخاصة أن واشنطن لم تعلن عند توقيع الاتفاق أنها ستواصل ملاحقة الجناة.
ملابسات أكثر تعقيداً
ولا تضيف الملابسات الخاصة بالتسليم إلى سجل الدبيبة، فقد استعان بميليشيات مسلحة يحيط بها كثير من الشبهات، وقد نشرت مواقع إعلامية ليبية كثيراً من التفاصيل بهذا الصدد، من بينها أدوار لوسطاء من هذه الميليشيات وأخرى نفذت الاعتقال، وأنه استعان بإحدى الفصائل المتشددة لتنفيذ عملية الاعتقال ثم أخرى للتسليم إلى الحكومة الأميركية في ترتيبات لا تمارسها الدول عادة.
والمشكلة أن المسألة تفجر ردود فعل واسعة داخلية لا يمكن الاستهانة بها مع شيوع مخاوف بأن خطوة الدبيبة التالية تسليم عبدالله السنوسي مدير استخبارات القذافي وضباط آخرين من أهمهم عبدالله منصور وأحمد إبراهيم، وجميعهم محتجزون في سجن مصراتة مسقط رأس ومحل نفوذ الدبيبة. ومن هنا جاءت تصريحات المتحدث باسم قبيلة المقارحة التي ينتمي إليها السنوسي بأنه إذا أقدم الدبيبة على هذه الخطوة فسوف تكون هناك ردود فعل حادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قبائل الجنوب سبق لها أن أغلقت حقول النفط وكذلك وقف ضخ مياه النهر الصناعي نحو العاصمة طرابلس، للضغط على السلطات الليبية للإفراج عن السنوسي لتدهور حالته الصحية، كما يستحق الذكر أيضاً أن هناك حكماً لمحكمة استئناف ليبية بالإفراج عن السنوسي لتدهور حالته الصحية منذ ديسمبر (كانون الأول) 2019، ولم ينفذ هذا الحكم حتى الآن على رغم عدم إمكانية الاستئناف عليه، ووفقاً لمصادر ليبية، يرجع الإصرار على استمرار حبسه إلى وجود أدلة لديه على تورط عائلة الدبيبة في قضايا فساد ومخالفات جنائية.
ودخل المجلس الرئاسي الذي يتولاه السيد محمد المنفي على قائمة المتحفظين، وخاطب مكتب المدعي العام الليبي حول قانونية إجراءات تسليم أبوعجيلة، وذكرت مصادر المجلس أن هذا القرار تم بمعزل عن المجلس.
كما اعترض أيضاً على هذا القرار فتحي باشاغا رئيس الوزراء المكلف من مجلس النواب، الذي لم يتمكن من ممارسة عمله بسبب رفض الدبيبة والقوات الموالية له ومنعه من دخول العاصمة.
تحركات أممية
من ناحية أخرى، قدم المبعوث الأممي عبدالله باتيلي تقريراً إلى مجلس الأمن اعتبر فيه أن محور المشكلة هو الخلاف بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة خالد المشري حول الجوانب الدستورية بما يعرقل إجراء الانتخابات، ومع كون هذا جزءاً مهماً من المعضلة الليبية كون هذا الخلاف يدور حول من له حق الترشح، ويختزل أزمة المتنافسين الرئيسين، وعلى رأسهم خليفة حفتر، إلا أنه كان يجب على المبعوث الأممي أن يعطي تركيزاً كافياً في شأن أهم محاور المعضلة الليبية، ولا سيما مشكلة السلاح خارج سلطة الدولة وانتشار الميليشيات وسيطرتها الكاملة على العاصمة، بل اعتماد الدبيبة عليها ليس فقط لحمايته وضمان بقائه، ولكن لتنفيذ خططه وسياساته وآخرها مسألة تسليم أبوعقيلة، فبسبب الميليشيات سيستمر غياب أي ضمانات حقيقية لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة ثم احترام نتائجها وعدم تكرار ما حدث سابقاً منذ بدء المشكلة، في غياب هذا سيصبح أي اتفاق بين صالح والمشري، إذا حدث، بلا جدوى.
وقد أصدر مجلس الأمن بياناً أكد فيه دعم جهود باتيلي. ودعا الأطراف الليبية إلى الحوار بجدية وإلى ضرورة خروج الميليشيات والمرتزقة والمقاتلين الأجانب، لكن مرة أخرى من دون آلية أو قرارات ملزمة لتحقيق هذا.
وأخيراً، فقد جاء إعلان الحكومة المصرية ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا، وهو القرار الذي اعترضت عليه بعض الأطراف الليبية وليس كلها، في ظل غياب أي اعتراض دولي ليعكس مرة أخرى حالة العزلة التي تعانيها حكومة الدبيبة وتآكل الموقف حولها، وحتى الدعم التركي والتفاهمات الأميركية التي تبدت، في حالة تسليم أبوعقيلة لا تبدو كافية لإعطاء زخم دولي، ومن هنا يظهر الموقف في ليبيا باتجاه مزيد من التعقيدات وليس في طور الانفراج بعد.