لا يزال مصطلح "الركود التضخمي" (أو التضخم الذي يرافقه ركود اقتصادي) Stagflation، ذا طابع نظري غريب، فالجميع في المملكة المتحدة يتحدثون عن أزمة ارتفاع كلف المعيشة ونقص العمالة وإضرابات وأزمة طاقة وتضخم وارتفاع أسعار الفائدة وبنوك طعام وركود وشيك، وما يترتب عن كل ما تقدم من تراجع شعبية الحكومة البريطانية، ومع ذلك فإن هذه الظواهر المتباينة فيما يبدو ليست في الواقع سوى جوانب مختلفة لمصطلح مختصر هو "الركود التضخمي" الذي بات فعلاً طاغياً علينا.
إن الواقع المتمثل في أن المملكة المتحدة يسيطر عليها مزيج فتاك من النمو المعدوم والتضخم المرتفع منذ أمد طويل، هو أكثر ما أكدته آخر أرقام النمو الصادرة عن "المكتب الوطني للإحصاء" في بريطانيا Office for National Statistics، فقد انكمش الاقتصاد خلال الربع الثالث من السنة بنسبة أسوأ من تلك التي كانت متوقعة وهي 0.3 في المئة، أي بانخفاض سنوي مقداره 1.2 في المئة في مقابل رقم نمو "عادي" هو أقرب إلى 2.0 في المئة، ومتوسطات تاريخية تفاوتت ما بين 2.0 في المئة و3.0 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد لا يبدو هذا الرقم عالياً، لكن يتعين الأخذ في الاعتبار أن واحداً في المئة من النمو السنوي يعادل نحو 25 مليار جنيه استرليني (30.25 مليار دولار أميركي) من السلع والخدمات المرتبطة بالاستهلاك أو الاستثمار، ومن هنا فإن التراجع عن المنحى يعد نوعاً من الخسارة الدائمة الافتراضية في مقابل 100 مليار جنيه استرليني (121 مليار دولار) من الدخل القومي، وهذا هو السبب في مواصلة السياسيين الحديث عن تحقيق النمو، ويجب أن نشعر جميعاً بقلق من المشكلة التي تبدو مستعصية على الحل، والمتمثلة في تراجع نمو الإنتاجية الذي تفاقم بسبب "بريكست".
وعادة ما يكون معدل التضخم في الاقتصاد الذي يعاني الركود منخفضاً على الأقل، لكن الركود التضخمي يعني أن النمو السلبي يتعايش مع تضخم مرتفع، وهو عند عتبة 10.7 في المئة في السنة بحسب آخر قراءة.
هذا المعدل جاء أقل بقليل من المتوقع مما قد يعني أن التضخم بلغ ذروته، وأن أسعار الفائدة وفواتير الرهن العقاري لن تحتاج إلى الارتفاع بالسرعة نفسها، لكن هذا يعد بصيص أمل ضئيل.
لا شك في أن واقعيْ النقص في العمالة والحرب في أوكرانيا تسببا في ارتفاع كلفة الإنتاج في بريطانيا بشكل حاد، مما يعني أن هناك أموالاً أقل يمكنها تحقيق دورتها الاقتصادية، وفي مثل هذه الظروف فإن المصالح المختلفة مثل الإنفاق العام في مقابل الاستهلاك الخاص والنقابات العمالية والشركات، ستتخلى عن حصتها من الكعكة الاقتصادية، وبما أن هذه الكعكة آخذة في التقلص فإن الكفاح من أجل حماية الأرباح والإيجارات والأجور يأخذ منعطفاً أكثر شراسة، ومن هنا جاءت الإضرابات والضغط على الخدمات العامة ومستويات المعيشة الخاصة.
لا يحتاج الأمر إلى القول أيضاً إن الركود التضخمي يمثل مشكلة لأي طرف غير محظوظ بما يكفي يتولى إدارته، فمن أجل السيطرة على التضخم الناجم عن ضغوط دفع الكلفة والحؤول دون استمرار دوامة الأجور في التقهقر، يتعين وأدُ الفجوة الاقتصادية بسلسلة من الإجراءات أبرزها رفع الضرائب وخفض الإنفاق العام وتخفيف الارتفاعات الحادة في أسعار الفائدة، وهذا يكلف حتماً خسارة الحزب الحاكم أصواتاً انتخابية، فعندما كان الركود التضخمي يشكل سمة من سمات الحياة في بريطانيا خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، تسبب أيضاً في عدم استقرار سياسي وصراع مدني وأرسى شعوراً بأن إدارة البلاد باتت خارجة عن السيطرة.
يبقى القول إن الحكومة التي يمكنها أن تقدم سردية عقلانية تستطيع من خلالها أن تبرر للناس الدوافع الكامنة وراء السياسات التي تتبناها وإقناع الناخبين بأنها تحرز تقدماً، لن تكون عرضة للانتقاد والعقاب بالقسوة نفسها التي يمكن أن تلقاها حكومة تسير على غير هدى وسط تخبطها بالأزمات، وفي هذه الأثناء تبدو إدارة رئيس الوزراء ريشي سوناك وسط هذه الأوضاع وكأنها عاجزة عن الإمساك بزمام الأمور، وأن الوقت ينفد لقلب مسار الأحداث وتحقيق تغيير هيكلي.
© The Independent