بعد أسابيع قليلة سيعود أهل هوليوود الجادون في حرصهم على كرامة السينما بعد الانتصارات الكبرى التي حققتها تلك الكرامة خلال عقدين أو ثلاثة عقود على الأقل، لوضع أيديهم على قلوبهم وللأسباب نفسها التي دعتهم إلى ذلك قبل دزينة من السنوات، وتحديداً في العام 2010 حين تنفسوا الصعداء بعد فترة من التشويق عندما أعلن الفائزون بـ "أوسكارات" الأكاديمية، فما كانوا يخشونه لم يحصل ولم يكتسح "آفاتار" جيمس كاميرون تلك الجوائز كما كان كثر يتوقعون، ولم يحقق كاميرون ما كان حققه قبل ذلك بعقد ونيف حين ضرب الرقم القياسي التاريخي تقريباً في عدد الجوائز التي تمنح له خلال دورة "أوسكار" واحدة، وذلك حين حصل على 11 أوسكاراً عن فيلمه "تايتانيك" على رغم اعتراضات كثيرة، فدخل اسم جيمس كاميرون سجل الخالدين في تاريخ السينما الأميركية وصار في إمكانه أن يقول إنه، كما حال ستيفن سبيلبرغ وجورج لوكاس وفرانسيس فورد كوبولا وطبعاً مارتن سكورسيزي، بات واحداً من كبار هوليوود الذين يجمعون المجد من أطرافه الثلاثة، التجاري والـ "أوسكاري" والنقدي.
رجال ضد امرأة واحدة
والحقيقة أن مؤشرات عدة كانت تؤكد أنه هذه المرة سيفعلها أيضاً، خصوصاً أن منافسته الرئيسة امرأة، وهوليوود لا تعطي عادة أي اعتبار للجنس اللطيف إلا حين يكون جنساً لطيفاً، وأبداً لم تنظر هوليوود بعين الجدية إلى النساء اللواتي يتنطحن إلى التسلل إلى عالم الرجال، والإخراج في هوليوود رجالي بامتياز. وفي تاريخ هوليوود كلها لم يزد عدد المخرجات الأميركيات المعترف بهن عن عدد المخرجات الفلسطينيات العاملات حالياً، وأقل منهن طبعاً المخرجات اللواتي يهتممن حقاً بالقضية النسائية في أفلامهن. واليوم إذ تفوز كاترين بيغلو التي تعتبر الأشهر ومنذ زمن بعيد بين المخرجات الهوليوديات بـ "أوسكار" أفضل فيلم وأفضل اخراج، وثلاثة "أوسكارات" أخرى يصح التساؤل: هل معنى هذا أن أهل هوليوود حين رشحوا بيغلو ثم "أسكروها"، هل كسروا الحظر الذكوري على الفن السينمائي النسائي؟
الجواب بكل بساطة نعم، إنما جزئياً فقط.
المرأة غائبة في البحرية
ذلك لأن من الصعب القول إنه إذا كانت كاترين بيغلو امرأة فإن أفلامها أفلام نسوية، بل على العكس من هذا تماماً فهي في نهاية الأمر أفلام ذكورية في معظم الأحيان، وما فيلمها الأخير "خزانة الألم" سوى الدليل الساطع على هذا، فبالكاد ثمة في هذا الفيلم نساء، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى شريط يدور من حول رجال في البحرية الأميركية مهمتهم نزع الألغام في الأرض العراقية أيام الحرب القاسية التي شنها الأميركيون هناك، بدءاً من مسعاهم إلى إطاحة صدام حسين.
مثل هذا الموضوع لا يعطي أي دور لامرأة، لكن هذا ليس جديداً على كاترين بيلغو التي كانت أصلاً عرفت على نطاق واسع هوليودياً وعالمياً بواحد من أفلامها الأكثر نجاحاً "ك -19صانعة الأرامل"، الذي حققته بعد 20 سنة من جهود سينمائية دؤوبة متفاوتة الجودة ومتفاوتة النجاح.
أخت الرجال
مهما يكن من أمر فإن اختيار هوليوود لامرأة حتى وإن كانت من نوع يسمى في اللغة العربية "أخت الرجال"، يحسب هذا العام لهوليوود، إذ وكما بات معروفاً الآن فصاحبة "خزانة الألم" هي أول امرأة تفوز بأحسن فيلم وأحسن إخراج في تاريخ جوائز الأكاديمية، وهي المرة الرابعة التي ترشح فيها امرأة للجائزة، مما يضعنا مباشرة أمام هذا الوجه الجديد لعاصمة السينما العالمية، وجه بدأ يُظهر ما كان من غير الممكن ظهوره لسنوات قليلة، الاهتمام المتجدد لهوليوود بكل ما كان يعتبر في الماضي من الأقليات. فاليوم لم يعد استثنائياً أن يفوز فيلم هندي، وليس هندياً أحمر، مثل "المليونير الصعلوك" أو أفلام مناهضة كلياً للعنصرية أو أفلام حربية تسير عكس التيار الوطني المعتاد، ولم يعد غريباً فوز ممثل أسود أو ممثلة ملونة أخرى بأسمى الجوائز، بل إن أوسكارات هوليوود صارت كمن يعرف طريقه إلى الأفلام الصعبة والمغرقة في إنسانيتها خلال السنوات الأخيرة من دون لف أو دوران، ومن هنا يأتي هذا العام تتويج "خزانة الألم" خطوة على طريق أنسنة هوليوود، وهي في الأحوال كافة أنسنة متجددة لا جديدة.
بعد ثلاثة أرباع القرن
فخلال ثلاثة أرباع القرن وأكثر، ومنذ بدأ أهل هوليوود يوزعون جوائز أكاديميتهم السنوية، لم يفت هذه الجوائز أن تدهش وتفاجئ، لا سيما أولئك الذين يقتاتون على شتيمة هوليوود، معتبرينها مجرد وجه من وجوه المؤسسة والحلم الأميركيين. والحقيقة أنه إذ التصقت هذه الصورة المزدوجة بهوليوود لزمن طويل، فقد عرفت هذه الأخيرة كيف تنسفها بين الحين والآخر، فحين تعطي هوليود "أوسكاراتها" إلى مخرجين مثل وودي آلن وكلينت أيستوود، لا سيما عن أكثر أفلامه إنسانية مثل "طفلة المليون دولار" و"لا يسامح"، ومارتن سكورسيزي عن "المرحّلون"، وستيفن سبيلبرغ وآنغ لي وميلوش فورمان خصوصاً عن "أماديوس"، وأوليفر ستون أكثر من مرة واحدة، ولأفلام مثل "رجل لكل العصور" و"مارتي" و"المريض الإنجليزي" بعد "آخر امبراطور" و"لورانس العرب"، يصح أن نتساءل أين هذا من أولئك الذين يجدون كل سنة في توزيع جوائز الـ "أوسكار" مناسبة لشتيمة أصحابها، ثم يصمتون بعد أن توزع الجوائز؟
ماذا بعد التجارة؟
طبعاً يحدث لهوليوود في مرات كثيرة أن تخضع لمنطق تجاري ما، ويحدث لها في مرات عدة أن تبدو امتثالية ورجعية في اختياراتها السياسية، ولكن الذي يمكن قوله اليوم والفائز فيلم عن حرب العراق، حتى وإن كان في نهاية الأمر ملتبس الشكل والمضمون يهمه جنود البحرية الأميركية أكثر مما يهمه الشعب العراقي والفائزة مخرجة امرأة، هو أن هوليوود تواصل منذ نحو عقد ونصف العقد تكريم أفلام أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها لاهوليوودية، ولنتأمل اللائحة منذ العام 1999 على الأقل: "جمال أميركي" للإنجليزي سام مندس و"تهريب" لستيفن سودربرغ و"عازف البيانو" لرومان بولانسكي وهو المغضوب عليه أميركياً على أية حال، و"عودة الملك" من سلسلة "سيد الخواتم" و"جبل بروكباك" لأنغ لي، والذي ربما يكون الفيلم الأكثر جرأة في تاريخ السينا الهوليوودية، ثم "المرحلون" لسكورسيزي، كما "لا وطن للعجائز" للأخوين جويل وإيتان كون، وصولاً إلى حرب العراق من طريق كاترين بيغلو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصورة المتكاملة
الحال أن متأملاً لهذه الأفلام وأصحابها يجد أن هذا السرد يقول كثيراً، غير أن هذا لا يكفي لرسم الصورة المتكاملة، إذ علينا أيضاً أن نتبحر في أسماء الأفلام المنافسة، فحين يفوز فيلم متقشف مثل "خزانة الألم" و"آفاتار" فقد يكون في الأمر انتصاراً لفيلم جديّ مستقل على طاحونة مال وتكنولوجيا كبيرة هو النوع الفني أو السياسي الثقيل، ولكن ماذا حين تكون المعركة مثلاً بين "لا وطن للعجائز" و"ستكون هناك دماء" و"مايكل كليتون" و"جونو" و"رداء الغطس والفراشة" للأميركي - الفرنسي جوليان شنابل؟
إن هذه الأفلام التي تنافست عام 2007 كلها أفلام يمكنها أن تدخل تاريخ السينما الفنية من الباب العريض، فماذا يبقى إزاء هذا من التاريخ المثير للشتائم لهوليوود الهوليوودية؟ وكي لا يعتقد بعضهم أن العام 2007 كان استثنائياً، نذكر بأن العام الذي سبقه شهد منافسة حامية بين سكورسيزي وكل من إيستوود "رسائل من ومن إيوجيما" والخاندرو غونزاليس إيناريتو عن "بابل" وبول غرينغرس عن "يونايتد 93"، وكذلك "الملكة" لتيفن فرزر، وهذه كلها أفلام يفخر أي ناد نخبوي للسينما ببرمجتها، ويمكن لهذا السرد أن يطول سنة وراء سنة لنكتشف كيف أن العدد الأكبر من الأفلام التي تنافست منذ أكثر من عقد على الأقل هي أفلام كبيرة، ومعظمها يشاكس حتى على الأيديولوجيا والتاريخ الأميركيين.
خيبت التوقعات لا الآمال
إذاً هذه السنة أيضاً لم تخيب هوليوود الـ "أوسكارية" الآمال وإن خيبت التوقعات، ناهيك عن أمر لا بد من التوقف عنده هنا، وهو أن الـ "أوسكاريين" اختاروا هذه السنة أيضاً كي يعطوا جائزتهم لأفضل ممثلة ثانوية إلى النجمة السوداء مونيك التي حين جعلها هذا الفوز خامس امرأة أميركية من أصل أفريقي تحصل على الـ "أوسكار" على مدى 82 سنة، لم يفتها أن تشير في عبارات تحية وإكبار إلى الأولى بينهن وهي هاتي ماكدانييل التي كانت في العام 1939 أول سوداء تحصل على الجائزة في تاريخ هوليوود عن دورها كوصيفة في "ذهب مع الريح"، وهذه في حد ذاتها علامة.