في اللحظة التي تلقى فيها فريق الإطفاء اتصالاً للإبلاغ عن استهداف وسط باخموت بقصف مدفعي روسي مركز، شطر صاروخ السماء، ووقع على بعد أقل من متر من مركز الإطفائية، فحاصر الأشخاص الوحيدين الذين يمكنهم مساعدة المدينة الأوكرانية الواقعة على الجبهة.
فيما كانت النار تستعر في الخارج، والبوابات المهشمة والمنصهرة ببعضها موصدة، اضطر فريق الإغاثة الأولية إلى أن يستخدم سيارات الإطفاء ليحطم البوابات المعدنية ويخرج من المركز.
ويقول الرائد يوري غاليش، رئيس قسم الإطفاء البالغ من العمر 37 سنة، فيما تقاطع أصوات القصف كلامه بين الفينة والأخرى: "كان اختراق النيران بالسيارة الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحريق الآخر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"يتدهور الوضع يومياً. الأسبوع الماضي، وردتنا 10 اتصالات مختلفة في شأن 10 حرائق متفرقة تشتعل في الوقت نفسه لكننا كنا عاجزين عندها أيضاً عن الخروج من المركز. ولو غادرنا ذلك اليوم، مثل أيام أخرى كثيرة، كنا لنقتل على الفور".
يعد مركز الإطفاء في مدينة باخموت الشرقية- الذي تناقصت أعداد أفراده وأعداد شاحنات الإطفاء التابعة له- أحد الأجهزة القليلة المتبقية لحماية السكان.
لا تنتهي مهمة رجال الإطفاء عند إخماد الحرائق، بل لديهم سيارة إسعاف ويقدمون إسعافات أولية لإنقاذ الأرواح، كما يقومون بإجلاء المواطنين وينقلون الحالات الطبية إلى المدن الرئيسة المجاورة، فيما يتعرضون أنفسهم لقصف عنيف ومكثف. في الوقت الحالي، يؤدون عملهم بمساعدة سيارتي إسعاف تعملان بشكل كامل، مقابل ثمان قبل الحرب.
والسبب هو أن باخموت، المدينة التي كانت تضم سابقاً 80 ألف نسمة وأصبحت لا تضم سوى 10 آلاف حالياً، قد أصبحت، إضافة إلى بلدة سوليدار القريبة، مركز الغزو الروسي الدموي لأوكرانيا.
المدينة التي أشاد بها الرئيس
فيما يتقهقر فلاديمير بوتين في الشمال والجنوب، أصبح الشرق محط تركيز لغضب موسكو، زيادة على أن المنطقة تشكل مخرجاً قيماً يفضي إلى ما تبقى من منطقة دونباس الاستراتيجية. لو تمكنت روسيا من السيطرة على باخموت وسوليدار، سوف يصبح لموسكو عندئذ نقطة انطلاق تتقدم منها على مدينتين من المدن الأكبر، أي كراماتورسك وسلوفيانسك، فتحرم أوكرانيا بالتالي من تقاطع مهم جداً لخطوط إمداد السكك الحديدية والطرق البرية.
ولذلك، تدك روسيا هذه المنطقة الحيوية منذ خمسة أشهر، وتنتشر في المكان آثار القصف والشظايا. غالبية المركبات التي تسير على امتداد الطريق الرمادي المؤدي إلى باخموت، هي دبابات وسيارات عسكرية، فيما تحمل مباني المدينة آثار القصف المستمر منذ أشهر طويلة. على الضفة الثانية للنهر الذي يقسم باخموت نصفين، بدأ القناصة الروس يطلقون الرصاص على المدنيين.
وفي هذه الظروف، يعبر السكان الذين يركبون دراجاتهم الهوائية بين الأنقاض بحثاً عن المؤن. يكادون لا يجفلون حتى عندما تسقط القذائف على مقربة شديدة منهم، فترتفع أعمدة الدخان وسط الضباب والرماد والغبرة.
تحولت المعركة على باخموت، البلدة التي تقاوم منذ مايو (أيار)، إلى معركة رمزية، تمثل صراع أوكرانيا للبقاء. وبلغ الموضوع درجة دفعت فولوديمير زيلينسكي إلى ذكر المدينة- التي سماها "حصن معنوياتنا"- خلال خطاب أدلى به في العاصمة واشنطن يوم الأربعاء في أول رحلة له خارج أوكرانيا منذ اجتياح موسكو البلاد في فبراير (شباط).
وجاء ذلك بعد زيارته الأخيرة إلى باخموت حيث قال إن مقاومة باخموت هي السبب الوحيد لصمود الشرق.
وكتب في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي: "تدور هنا معارك ضارية تسقط فيها أرواح كثيرة، دفاعاً عن حريتنا جميعاً".
استمرت هذه المعارك الشرسة خلال عطلة نهاية الأسبوع هذه، فيما عملت القوات الروسية مدعومة بفرق المرتزقة مثل فاغنر، على دك المواقع الأوكرانية في محاولة للتقدم.
قال بيترو كوزيك، قائد كتيبة "الحرية" الأوكرانية التي تساعد في الدفاع عن المدينة إن القتال هذا الأسبوع اشتد لدرجة أن الروس كانوا يشنون يومياً: "بين سبع وعشر محاولات لاقتحام مواقعنا".
في مركز الإطفاء، يعلم الرائد غاليتش الذي يشغل هذا المنصب منذ 15 عاماً، بأن ذلك سيؤدي إلى مهام أكثر خطورة بالنسبة إلى فرقه. فقدوا بالفعل أحد رجال الإطفاء، وهو شاب يدعى إيليا قتل في الخريف بعد عدة أسابيع فقط من انضمامه للجهاز. كان بصدد التحقق من وضع أحد المباني التي تعرضت للقصف قبلها بوقت قصير، عندما عادت القذائف تنهمر من جديد.
يطرق غاليش قليلاً ويضيف "حاولنا مرات كثيرة أن نصل إليه لكننا عجزنا عن ذلك بسبب شدة القصف".
"كان ينازع ونحن عاجزون بكل بساطة عن إنقاذه. كانت تلك ربما أسوأ لحظة في الحرب".
سباق مع الوقت
إن العمل هنا أشبه بالدورة المستمرة، كما تقول المسعفة المتطوعة كروها، بنبرة تعبة، في اللحظة التي تقترب فيها سيارة إسعاف. فجأة، تدب فورة من النشاط المحموم في الجميع. تترجل مجموعة من المسعفين من السيارة ذات اللون الكاكي وهي تمسك بحمالة تملأها الدماء. يظهر مزيد من الأطباء فجأة ليلاقوهم عند المدخل.
أحد الجنود الذين يجلبهم المسعفون أصيب إصابات بليغة في الجوار. تبدأ الفرق بعلاجه فيما يصرخ، وهي متسلحة بذلك الصمت الذي يأتي من الخبرة.
هذا مستشفى ميداني يقع على مقربة من باخموت وسوليدار. طلب من صحيفة "اندبندنت" عدم كشف موقعه بالتحديد خوفاً من استهدافه.
استهدفت القذائف الروسية المستشفيات والمراكز الطبية مرات عدة خلال الحرب. يخشى فريق هذه العيادة المؤلف من 14 شخصاً أن يكون الهدف التالي.
تتابع كروها بصوت متجهم، فيما تنتصب وراءها ثلاث حمالات مدماة: آثار تدفق الإصابات هذا الصباح "يمكن لأذنيك أن تخبرانك متى ستنهمك لأن ذلك يحصل بعد دوي الانفجارات الكبرى".
وتضيف "أهم نقطة هي إجلاء الشباب في الوقت المناسب، لكن أحياناً، لا يكون من الممكن فعل ذلك حتى".
تبدأ السيدة البالغة من العمر 46 سنة، التي تحمل ربطة شعرها ألوان العلم الأوكراني، بالعمل على الجندي الذي وصل حديثاً.
أصيب الجندي بشظية في صدره، ويبدو أنها اخترقت رئته وهو ينزف بغزارة. يخشى الفريق أن تنهار رئته.
يصرخ الرجل متألماً، فينحني أحد المسعفين فوق رأسه ويحاول أن يهدئ من روعه. تمسك كروها بيده، التي تنتفض لا إرادياً. يعلم الفريق أنه عليه جعل حالته تستقر بسرعة قبل أن ينقله إلى مستشفى أكثر أماناً وأفضل تجهيزاً عبر طرقات ملأتها الصواريخ بالحفر ولا تزال عرضة للقصف المتقطع. الوقت ينفد: أخذت الدماء تملأ ببطء الدلو الموضوع أرضاً.
وتتابع كروها فتقول "رأيت كل أنواع الإصابات الممكنة، رجال تخرج أحشاءهم من مكانها، جماجم مفتوحة، نزيف داخلي، أشخاص فقدوا أرجلهم وأيديهم".
وتقول إنه قبل وصولنا بساعات قليلة، أجلوا شخصاً كان من الضروري بتر ذراعه لأن عظامه سحقت كلياً. وتضيف بهدوء "استطعنا أن ننقذ رجله في الأقل".
لا وقت للحداد
كروها- وهو تصغير يعني "طفلة" أو "فتات" في الروسية- ليس اسمها الحقيقي، بل هو اسم رمزي ودعابة بين عناصر الفريق لأن طولها لا يتعدى الخمس أقدام، ما يجعلها الأصغر حجماً بين أعضاء فريقها الذي يتألف بالكامل من جنود أو عناصر في قوات الدفاع الميداني. يفضل المسعفون هنا أن يخفوا هوياتهم. مثل آلاف العناصر في فرق الإغاثة الأولية حول البلاد، هم الذين يبقون الجنود والمدنيين على قيد الحياة. وبسبب عملهم هذا، يخشون أن تكون أسماؤهم مدرجة على قوائم المطلوبين في موسكو.
قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا في عام 2014 كانت كروها تعمل مساعدة لكاتب عدل في مكتب محاماة.
لكنها شعرت بأنها لن تتمكن من ملازمة منزلها ببساطة فيما تمتلئ شاشتها بصور النزاع الذي اندلع بين الجيش الأوكراني من جهة، والمقاتلين المدعومين من روسيا من جهة أخرى.
وهكذا تدربت على مهنة جديدة وألحقت بمختلف الكتائب المتنقلة بين ساحات المعارك. بعد مرور ثماني سنوات، وضعت على أكثر الجبهات دموية. ووفقاً لكروها، فإن عدد الإصابات غير مسبوق.
وتقول "بين العامين 2014 و2018، نقلت نحو 1200 شخص، لكن هنا، أنا أنقل كل شهر نحو ألف مصاب بالمعدل".
"قد نعالج أشخاصاً يصل عددهم إلى مئة خلال يوم واحد. جنود ومدنيون والجميع، بدءاً بالأطفال ووصولاً إلى كبار السن".
ومن ناحية أخرى، ازدادت الإصابات شدة كذلك. في عام 2014. تقول إن إصابة من كل عشر كانت خطيرة. أما الآن، مع تحول النزاع إلى معركة مدفعية دموية. تقول كروها إن ثمانية أشخاص من كل عشرة يتوفون قبل أن تتمكن فرق الإغاثة الأولى من الوصول إليهم. أما الباقون، فيكونون في حال حرجة.
وتضيف "يزداد إجلاء الجنود صعوبة. أحياناً نضطر إلى ترك المصابين لمدة قد تصل إلى يوم كامل بسبب شدة القصف".
يتردد الكلام نفسه في باخموت.
هناك. يقول نيكيتا، 30 سنة، أحد عناصر فريق الإطفاء والأب لطفل صغير، إن الفرق تعجز غالباً عن فعل أي شيء سوى الانتظار حتى تهدأ وتيرة القصف، بما أن القذائف تسقط كل عشر دقائق.
ويضيف بصوت منهك "يقع منزلي في المنطقة الرمادية من الجبهة الأمامية لذلك، أسكن وأعمل هنا في مركز الإطفاء في الوقت الحالي".
مروا بأصعب التجارب في أغسطس (آب). عندها، قصفت روسيا برجاً كاملاً وقتلت 48 شخصاً كما يقول نيكيتا. ظلوا ينقبون في الركام لمدة ثلاثة أيام وتمكنوا بأعجوبة من العثور على 12 شخصاً أحياء.
ويتابع نيكيتا "بسبب إجلاء عدد كبير من طواقم العاملين والأجهزة، تمكنا من تشكيل فريق صغير فعال يعمل بعدد صغير من سيارات الإطفاء".
"ما الذي يدفعني إلى الاستمرار بالعمل؟ ابني يمدني بالقوة".
في طريقها إلى كراماتورسك برفقة المريض المصاب بجروح خطيرة، تتلقى كروها اتصالاً يطلب منها العودة أدراجها إلى العيادة بسبب وصول مزيد من الجرحى.
تضطر إلى نقل الرجل الذي بدأت بشرته بالشحوب إلى سيارة إسعاف أخرى على جانب الطريق، كي يواصل طريقه.
لكن حالته تتردى بسرعة. علمت صحيفة "اندبندنت" لاحقاً أنه لم يتمكن من النجاة، وتوفي على الطريق.
هذا هو الشكل الحقيقي لهذا العمل الذي يفطر القلب، كما تقول كروها. إنما لا وقت للحداد حتى، لأن الجرحى يستمرون بالتدفق.
وتضيف بهدوء فيما تسارع إلى تنظيف الحمالة من الدماء قبل العودة إلى القاعدة "هذه هي وتيرة عملنا الآن. علينا الاستمرار بتأدية مهامنا ببساطة".
بالنسبة إلى جهاز الإطفاء في باخموت، من المهم إبقاء معنويات الرجال مرتفعة كي يتمكنوا هم أيضاً من مواصلة العمل. لهذا السبب. يقول غاليش إنه يرفض العودة إلى المنزل أو الانتقال إلى مكان آخر، ويفضل بدلاً من ذلك أن يعيش داخل مركز الإطفاء "كي يقوي عزيمة الرجال".
وهو يعتبر هذا الواقع الجديد مطهراً موقتاً. ويرفض أن يقيس الوقت الذي انقضى في هذه الحرب الدموية.
ويقول فيما يدوي القصف وراءه "على مكتبي تقويم لا يزال عالقاً عند تاريخ 23 فبراير. سوف أتركه هكذا إلى أن تنقضي الحرب".
"بالنسبة إليَّ، ما زلنا في 23 فبراير. اليوم السابق ليوم اندلاع الحرب. أريد أن أبقيه هكذا إلى أن ينتهي هذا الكابوس ويتسنى لنا أن نستيقظ منه".
© The Independent