في عام 1916، كتب جندي بريطاني شاب في شمال فرنسا رسالة إلى والديه في الوطن موضحاً قراره بإنهاء حياته. روبرت أندرو بورفيس، الناجي من الأيام الأولى لمعركة السوم التي تعتبر إحدى أكثر المعارك وحشية خلال الحرب العالمية الأولى، اعتذر لأسرته قبل أن يوجه التحية إلى رؤسائه الضباط ويقدم ما تبقى من ممتلكاته لرفاقه. رسالة انتحار بورفيس المحفوظة تظل إحدى الوثائق الفريدة من نوعها من الحرب العالمية الأولى.
أظهرت دراستنا الانتحار خلال هذه الحرب أنه لم يكن أمراً غير شائع - إلا أن الإبلاغ عنه كان نادراً. لم يكن يسيراً على القوات المسلحة الإقرار بهذه الحالات. ومنذ 1923، حال ميثاق قائمة الشرف الإسكتلندي للذين قضوا في الحرب، وبشكل صريح، دون إدراج حالات الانتحار على القائمة، ما يعني أن الحالات المبلغ عنها من الحرب العالمية الثانية تم حذفها أيضاً من قائمة الشرف في المتحف الحربي الوطني الإسكتلندي في قلعة إدنبرة.
في مطلع القرن العشرين، كان يُنظر إلى الانتحار في كثير من الأحيان على أنه عارض من عوارض الأمراض العقلية. كان يشار إلى حالات الانتحار دائماً، إذا تم تسجيلها في الأساس، على أنها حال "جنون مؤقت". وكانت بريطانيا رائدة في تقديم علاج للأمراض العقلية والنفسية المرتبطة بالنزاعات، وذاعت شهرة مستشفى كرايغلوكهارت الحربي في إدنبرة، وعُرف بمعالجة الجنود المصابين بالصدمة.
تم تطوير المستشفى لتعزيز الفهم الجديد للذُهان المرتبط بالنزاع، وتخصصَ في تقنيات الشفاء العملية بما في ذلك الرياضة وصنع النماذج والكتابة والتصوير الفوتوغرافي و "العلاج بالكلام" الذي طوره عالم النفس ويليام ريفرز، ورفع لواءه.
من المعروف عن مستشفى كريغلوكهارت أنه عالج مرضى مشهورين، بمن فيهم شعراء الحرب سيغفريد ساسون وويلفريد أوين. لا يزال ساسون شاعر الحرب الوحيد المعروف الذي نشر قصائد حول موضوع انتحار الجنود المثير للجدل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بسبب وصمة العار والجدلية والطبيعة الملتهبة للموضوع، كانت المناقشات حول الصحة العقلية والانتحار في الجيش البريطاني محدودة طوال شطر راجح من القرن العشرين. في مقابلة أُجريت عام 2015، روى فيكتور غريغ، وهو كان جندياً في الحرب العالمية الثانية، كيف أن الرعاية النفسية للجنود المُسرّحين في عام 1945 كانت غير موجودة، قائلاً بغصة: "لقد كان ذهني ممتلئاً بصور المعاناة التي طاردتني طوال الأربعين عاماً التالية... الهدية الأخيرة التي تلقيتها عربون امتنان من الديار كانت بدلة مدنية وتذكرة قطار إلى الوطن وتعويض خدمة قدره 100 جنيه إسترليني تقريباً".
بعد مرور 64 عاماً، تغير الكثير لحسن الحظ. في مطلع القرن الحادي والعشرين، اعترف الجيش والحكومات في المملكة المتحدة بمسألة الانتحار المرتبطة بالجيش.
ولكن على الرغم من الزيادة في حملات التوعية ودعم الصحة العقلية لكل من الجنود الحاليين والمحاربين القدامى على مدار العقدين الماضيين، إلا أن المخاوف بشأن الوفيات لا تزال مستمرة. تنفق وزارة الدفاع 22 مليون جنيه إسترليني سنوياً على الرعاية الصحية النفسية - العقلية للمحاربين القدامى، و6 ملايين إضافية كل عام لتمويل الحصول على الدعم داخل هيئة خدمات الصحة الوطنية. لكن المؤسسات الخيرية العسكرية تقول إن هذا لا يكفي - بخاصة أن التوثيق والتحليل الإحصائي المركز لحالات انتحار المحاربين القدامى لم يبدأ بشكل جدي إلا بعد عام 2001.
في مارس (آذار) من عام 2019، انتحر ضابط الصف الإسكتلندي روبرت مكافوي، وهو محارب قديم أمضى 20 سنة في الخدمة. في الشهر التالي أنهى هايلاندر أليستير ماكليش البالغ من العمر 18 سنة حياته في منطقة كاتريك غاريسون في يورك. هذه المآسي ليست فريدة من نوعها بأي شكل من الأشكال.
في عام 2018، أظهر بحث أجرته إحدى الصحف الإسكتلندية أن عضواً سابقاً في القوات المسلحة يُقدم على الانتحار في إسكتلندا كل ستة أيام. وحمل هذا الأمر وزيرة الصحة النفسية- العقلية الإسكتلندية، كلير هوغي، على التعهد علناً بتوفير مزيد من الاهتمام والرعاية الصحية العقلية للجنود الإسكتلنديين وقدامى المحاربين.
على وقع المخاوف الناجمة عن انتحار 71 من المحاربين القدامى البريطانيين والجنود في عام 2018، قال وزير الدفاع البريطاني، توبياس إلوود، لأخبار قناة ITV "أنا آسف حقاً. أنا آسف لأنهم شعروا أن القوات المسلحة وهيئة الخدمات الصحية الوطنية والحكومة قد خذلتهم".
لم يكن هذا اعترافاً بالمسؤولية عن الإخفاق في التزام الرعاية وتوفيرها. وكان طريقة غير موفقة للاعتذار الذي قلل من فداحة القضية ودور المؤسسة فيها من خلال التلميح إلى أن "قلة الدعم المقدم" كانت مسألة مناطة بالفهم. ومع ذلك، اعترف إلوود بالمسألة وقال "يجب تحسين الأداء".
يعد الانتحار حالياً أكبر مسبب لوفاة الرجال الذين تقل أعمارهم عن 45 سنة في العالم الغربي - ولا تقتصر مخاوف الانتحار المتعلقة بالخدمة على بريطانيا فقط.
في الولايات المتحدة، أقدم ستة آلاف من المحاربين القدامى على الانتحار في عام 2018، إضافة إلى انتحار275 شخصاً على رأس عملهم. يُنظر في وسائل الإعلام الأميركية والرأي العام الأميركي، إلى الانتحار في الخدمة العسكرية وبين المحاربين القدامى على أنها قضية متعاظمة التفاقم في ظل عدم علاج حالات المرض العقلي - النفسي وضغوط ما بعد الصدمة.
الانتحار في الخدمة العسكرية وبين المحاربين القدامى ليست قضية جديدة، ولكن يجب تناول الموضوع بالنقاش والحوار في الأوساط العامة والسياسية والاجتماعية والطبية. وثمة مبالغة في الزعم بأن هناك "وباء" انتحار طارئ وملح في وقت لا تثبت الإحصاءات مسألة من هذا القبيل، لكن المسألة جدية وتحتاج إلى اهتمام الجمهور.
لا ريب أن رجالاً ونساء سقطوا ضحية الانتحار، وسيسقط غيرهم إذا لم يتابع المجتمع قضية الانتحار العسكري. يمكن الحؤول دون هذه المآسي في المستقبل فحسب من طريق النقاش المفتوح والبحث والاعتراف بمعاناة الجنود ممن هم في الخدمة وبالوفيات المتعلقة بالصحة العقلية في أوساط المحاربين القدامى.
سايمون هارولد ووكر باحث في جامعة ستراثكلايد. نُشر هذا المقال في الأصل على موقع The Conversation الإعلامي.
© The Independent