يكاد لا يُحصى عدد الأفلام التي تناولت مسألة "داعش" منذ ظهور هذا التنظيم الإرهابي. ولكن على رغم ضرورة التطرق إلى ظاهرة ألمت بالشرق الأوسط ووصلت آثارها التخريبية المدمرة إلى أصقاع الأرض، فالنصوص الفيلمية التي اعتمد عليها السينمائيون للحديث عن "داعش" جاءت ركيكة ومصطنعة. ومعظمها، كي لا نقول كلها، سقط في امتحان دراسة هذا التنظيم الذي يتبع فكر جماعات السلفية الجهادية، وربطه بالمجتمع والسياسة والدين. أسماء مهمة وبارزة فشلت فشلاً ذريعاً في التحدث عن القضية، لشدة سطحية الطرح الذي تم تبنيه. "زهرة حلب" للمخرج التونسي رضا الباهي و"الطريق إلى إسطنبول" للمخرج الجزائري رشيد بوشارب ما هما سوى نموذجين للسينما المشغولة بعجل والتي تقع في فخ الاستسهال وتصديق معلومات غير مؤكدة سادت في مرحلة، عن "داعش"، وكان معظمها مفبركاً. يمكن إضافة عشرات الأفلام الأخرى إلى هذين العملين - العديد منها ينتمي إلى النوع الوثائقي - تشرح أزمة "داعش" من وجهة نظر الضحية، وهم حيناً الإيزيديات وحيناً أهالي المراهقون الذين انضموا إلى "داعش" للقتال في سوريا. واللافت أن معظم هذه الأفلام يتوجه فيها صناعها إلى جمهور عالمي واسع في غالب الأوقات لا يعرف شيئاً عن الموضوع، لذا تأتي المعالجة خالية من أي عمق لمشاهدين ليسوا على اطلاع كاف بكل ما يحيط بالموضوع، بل ويجهلون تماماً أبعاده السياسية والدينية والسوسيولوجية. هذا النهج نتجت منه سينما ممسوخة على غرار "داعش" نفسه.
جماليات بشاعة الإرهاب
هذه مقدمة لا بد منها، لتأكيد فكرة أن ما من أحد استطاع بلوغ الدقة والصدق والجماليات في فيلم "متمرد" للمخرجين عادل العربي وبلال فلاح، في تناوله مسألة الإرهاب. دعونا لا نتأخر عن الإعلان بأن هذا أفضل فيلم عن "داعش" على الإطلاق، من بين كل ما شاهدته من أفلام عن هذا التنظيم، وكان قد فاتني في مهرجان "كان" الأخير، فانتهزتُ فرصة مشاهدته في الدورة الأخيرة من مهرجان "تسالونيك". بعد عشر سنوات على انتشار "داعش" في سوريا والعراق، يأتي هذا الفيلم البلجيكي ليؤكد المؤكد: الوقت عامل أساسي في فهم الأشياء وتفكيكها. هناك الكثير من الظواهر التي لا تسمح بحرق المراحل قبل الحديث عنها بعمق. لكن العمق في فهم الموضوع ليس وحده ما يصنع أهمية الفيلم، فأهميته تكمن أولاً في أنه يقدم وجبة دسمة تستوفي كل شروط السينما الذكية واللماحة والمشغولة بإتقان.
عادل العربي وبلال فلاح سينمائيان بلجيكيان في الثلاثينيات من عمرهما، وهذا يعني بالضرورة أنهما يعلمان شيئاً عن مسألة التطرف أو ما يُعرف في أوروبا بالـRadicalisation، الـ"ردكلة" الدينية، التي حولت كثراً من الشباب التائهين قنابل موقوتة يرتكبون ما يعتقدون بأنه سيتيح لهم دخول الجنة وتحقيق العدالة الإلهية. وبلجيكا عانت من هذه الظاهرة، لا بل لديها حي مولمبيك الذائع الصيت ذو الغالبية من المهاجرين، الذي أخرج العديد من المتطرفين واشتهر بكونه مرتعاً لهم، ولم تكف الأجهزة الأمنية التابعة للدولة في تعقب المشتبه فيهم وفكّ خلايا الإرهاب. عادل العربي وبلال فلاح المتحدران من أصول مغربية يعرفان جيداً هذه الأجواء.
يبدأ الفيلم مع كمال (أبو بكر بن سايحي)، مغني الراب المغربي المولود في بلجيكا، الذي يقرر الذهاب إلى سوريا لمساعدة ضحايا الحرب الدائرة هناك. ربما لم يكن على دراية بتفاصيل مهمته، فالفكرة من بعيد غير تلك التي سيجدها على أرض الواقع. فور وصوله إلى سوريا، يتم إرغامه على الانضمام لتنظيم مسلح في الرقة. إنه "داعش" بكل ما يحمله من قسوة وكره وبغض للآخر. في موازاة ذلك، نتابع في بلجيكا التطورات التي تشهدها حياة شقيقه الأصغر نسيم (أمير العربي) الذي يستسلم تدريجاً لإغراءات المتطرفين، وهم لا يكفون عن محاولة استدراجه إلى أرض المعركة من خلال إخضاعه لغسيل مخ ديني. هذا كله، سيدفع بالأم المكلومة (لبنى الزبال)، إلى تحمّل مسؤولياتها ولملمة نفسها والتوجه إلى سوريا للبحث عن ابنيها. على الخسارة أن تكون أقل ما يمكن. إنها الأمومة المستعدة للتضحية من أجل إعادة شيء مما تبدد. ومن هنا، تبدأ رحلة النزول إلى الجحيم، نكتشف خلالها مأساة عائلة مفككة، ونتخيل عبرها ما عانته آلاف ضحايا التطرف في أقبية الظلم والعسف.
ضحية العنف
شخصية كمال مربكة، فهو ليس بالإنسان الكاريزماتي الذي يمكن أن نحبّه من النظرة الأولى، فندافع عن حقّه في الحياة مهما فعل. ثم أنه لا يُعطى الوقت الكافي لنتعلّق به، لذا سنبقى على مسافة منه. منذ البداية، يقدمه الفيلم لنا ككائن لا يوحي بالثقة. لكن التعاطف موجود أمام القسوة التي يُعامَل بها والتي لا يتمناها المشاهد لألد أعدائه. من خلال التركيز على شخصية كمال، يعطي الفيلم وجهاً لضحية العنف والبطش. يتخلل السرد الكلاسيكي فكرة مستحدثة: اللجوء المتكرر إلى فواصل موسيقية (أغاني راب) تحدث تناقضاً (كونتراستاً ) محبباً مع العنف والفوضى اللذين يصنعهما "داعش"، مقترحةً بديلاً آخر. يعتبر هذا سابقة في هذا النوع من الأفلام التي تأتي دائماً بشيء من الجدية. إنه خروج على المألوف يحمل النص إلى مستوى آخر من المعالجة، يحض على التفكير ويسحق القلب في الحين نفسه. هذا بالإضافة إلى الديناميكية البصرية المتغلغلة في مسامات العمل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"متمرد" فيلم آخر عن فقدان البراءة في هذا الزمن البائس، لكن ليست تلك البراءة التي يمكن فقدانها على مقاعد الدراسة، بل هي تجييش وقتل داخل أروقة التطرف الديني الذي يخفي عالماً متوحشاً، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود. نقتحم هذه الأروقة حيث القهر يستولي على قاطنيها بخطى ثابتة وأكيدة. يناقش الفيلم أيضاً تأثير المَشاهد الدعائية من خلال الفيديوات التي أنجزها "داعش" وبثها في العالم، وهي مَشاهد نقيضة لمَشاهد الفيلم المشغول بالفن والجماليات بقدر انشغاله بفهم القضية ودراسة الشخصيات. وإذا كان الفيلم يحمل عنوان "متمرد"، فالمقصود أيضاً منه التمرد على توظيف الصور لأهداف أيديولوجية وللتدليس السياسي الفج.
أما الاحساس بأن المخرجين تورطا في صناعة الفيلم إلى أقصى حد، فيعطيه طابعاً شخصياً محبباً. هناك شعور بأن "متمرد" صنيع أحشائهما، خرج إلى النور ليقول كلمته في واحد من أبشع التنظيمات التي شغلت العالم بشرورها لفترة من الزمن. ما من فيلم اقترب إلى هذا الحد من "داعش" والأساليب التي اعتمدها لبث الرعب وصناعة الخوف والإجبار على الخضوع. صحيح أن الفيلم لا يدخل في عمق موضوع التطرف، لكن آثاره واضحة، ومن هنا تأتي فاعليته. فالأثر الذي سيتركه في المُشاهد غير قليل، وقد يبقى في وجدانه لبعض الوقت. أما الطموح السينمائي والبحث المتواصل عن هوية فنية، فهما في ذاتهما رد عنيف على التطرف وصناعة القبح والبغض، لدرجة أن التدقيق في بعض التفاصيل المتعلقة بالماكينة العاطفية للفيلم يصبح من الأمور الثانوية.