في حالات الصراع، تفترض المنظمات الإنسانية أن الملاذ هو في الابتعاد عن الأذى الجسدي. لكن في الواقع، تخلف الحرب عبئاً ذهنياً لا يبارح عقول معظم الناجين منها.
الأسبوع الماضي، أطلقت الأمم المتحدة نداء إنسانياً لجمع مبلغ قياسي من المال وقدره مليار ونصف دولار في عام 2023. لكن غياب أي ذكر لدعم الصحة النفسية عن التقرير صارخ. ومن المؤسف أن هذا الواقع مألوف بالنسبة للذين يحاولون توفير مساحات آمنة خلال الحرب، كما كان بالنسبة إلي عندما كنت أقدم الدعم للنساء والفتيات في مخيمات المشردين قسراً في كردستان.
عندما تهدأ أصوات المعركة وتُلبى الحاجات الأساسية، ترحل منظمات إنسانية كثيرة، معتبرةً أن عملها انتهى. لكننا نعلم أن هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نازانين إحدى الشابات اللواتي نقدم إليهن الدعم ضمن برامج منع انتحار الشباب. أخبرتني مرة عن استيقاظها باكراً ذات صباح، فيما كان أفراد عائلتها نائمين. تملكها شعور باليأس، وبأن لا مستقبل لها، فأضرمت النار بنفسها "من دون التفكير مرتين". وقالت إنها لن تنسى أبداً لحظة صراخها حين نشبت النيران في جسدها.
يواجه ثلث الأشخاص المشردين قسراً حول العالم على أقل تقدير، مشكلات نفسية. يجب ألا يستعدي هذا الرقم أي استغراب: فاستمرار انعدام الأمن الغذائي؛ والتعرض لأحداث صادمة؛ وخسارة الأحبة؛ أو مغادرة المنزل إلى غير رجعة، عوامل قادرة على التسبب بمشكلات نفسية جديدة أو مفاقمة المشكلات الموجودة أساساً.
بالنسبة إلى نازانين، استطعنا أن نوفر لها المساحة وإمكانية الحصول على الدعم الذي تحتاجه. لكننا لا نقدر أن نلبي حاجة المخيمات كلها. نرى معدلات مرتفعة من انتحار الشباب ومظاهر ملموسة لتدهور الصحة النفسية، تؤدي إلى ارتفاع عدد الفتية والفتيات الذين يتخلون عن الدراسة ويضحون بمستقبلهم.
إن كان هدفنا تغيير المجتمعات التي حطمتها الحروب وتحويلها إلى مجتمعات آمنة ومزدهرة، لا بد أن نبدأ بتقديم الدعم النفسي المستدام. وهذا ينطبق على كافة أفراد العائلة. العديد من الرجال الذين ندعمهم شهدوا بأم العين فظائع الحرب التي تفوق التصور. لقد شاهدوا قطع رؤوس رجال أبرياء واعتداءات على نساء وربما وُجهت لهم تهديدات كذلك. مع الوقت، يمكن أن تتحول هذه الصدمة التي تمنع وصمة العار الاجتماعية التعبير عنها، إلى غضب وخوف.
تحول هذه المشاعر دون عودة الاندماج في الحياة العائلية، وتصبح في حال البعض، جذوراً لممارسة العنف داخل المنزل. ازداد هذا الأمر سوءاً خلال الجائحة، فيما أرخى فقدان سبل المعيشة بثقله على العائلات. نحو 80 في المئة من الأشخاص الذين ندعمهم يعرفون أحداً أو رأوا أحداً يتعرض للعنف على أساس النوع الاجتماعي. لكن طرق تعليم الوعي بالصحة النفسية وسبل التعبير الإبداعية مثل العلاج بالفن، قادرة على إحداث تغيير في هذه الظروف، كما تفعل خارج إطار الحرب.
لا يخضع توفير الدعم للصحة النفسية إلى معادلة ثابتة. بل يستدعي فهماً دقيقاً للشخص، ولماضيه ولإمكانياته. سلمى أم تربي سبعة أطفال في مخيم إيسيان في كردستان. وهي تعاني من اكتئاب حاد.
تمكنت عبر لوتس فلاور من تلقي دروس في اللغة الإنجليزية، وتدريب ودعم مالي كي تفتح مطعمها الخاص. ليس هذا مجرد علاج بالنسبة إليها، بل مساحة يمكنها أن تجتمع فيها مع نساء أخريات وهدفاً يتخطى حدود خيمتها. وقد عبرت عن الموضوع بقولها إنها كانت بحاجة إلى منظمة "لا تكتفي بالنظر إلى وضعنا فحسب، بل ترانا نحن".
خلافاً للمنظمات المتعددة الأطراف، نحن قادرون على الاضطلاع بهذه المهمة. نحن نفهم كل سياق محلي ومجتمعه بعمق. لا نفترض حاجة الناس بل نصغي إليهم ونلبي حاجتهم.
تحول بعض العوائق دون الوصول إلى الدعم النفسي في محيط ما بعد النزاع. وليست البنى التحتية التي أُنهكت ولا ضعف أنظمة المعلومات وإحالة المرضى والوصمات الاجتماعية سوى بعض من هذه العقبات. لكن المراكز التي نديرها تثبت أنه ليس من المستحيل تخطيها.
يضم متجر "تشوز لوف" (اختار الحب) خيارات مثل "الدعم الطويل المدى" و"رعاية الصحة النفسية"، سوف تمكننا، نحن وغيرنا، من الاستمرار بالعمل بعد أن تغلق المنظمات الإنسانية الأخرى أبوابها. فقد أحدثنا تأثيراً إيجابياً في حياة أكثر من 44 ألف شخص في مخيمات المشردين قسرياً في كردستان.
إنما على العالم أن يتحد ويقر بأن معاناة ضحايا الصحة النفسية خطيرة بقدر غيرها من معاناة ضحايا الحرب. لأننا نعلم بأن الروح التي أُنقذت من الموت، ليست بالضرورة روحاً تنبض بالحياة.
تغيرت الأسماء في المقال حفاظاً على خصوصية أصحابها
تابان شوريش عاملة إغاثة بريطانية، وناشطة في مجال حقوق المرأة ومؤسسة منظمة لوتس فلاور التي لا تتوخى الربح
© The Independent