لا تلوح في أفق سماء تونس بوادر انفراج الأزمة السياسية وسط معارضة مشتتة ومنقسمة حول مسار 25 يوليو 2021 وأحزاب موالاة لهذا المسار أظهرت ضعفها نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، بينما تستجمع المنظمات الوطنية قواها من أجل حشد الدعم لبلورة مبادرة اقتصادية واجتماعية وسياسية تنقذ ما يمكن إنقاذه في بلد بات مهدداً بالانهيار.
ويرى متابعون للشأن العام في تونس أن الرئيس قيس سعيد متمسك بالاستمرار في المسار الذي رسمه بشكل انفرادي، على رغم ما يشوبه من ارتباك تجلى من خلال المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي تترجم عمق الأزمة في البلاد، ولا يبدو مستعداً للإصغاء إلى المنظمات الوطنية أو الأحزاب والشخصيات السياسية التي ربما تبادر بوضع برنامج للإنقاذ.
مبادرة اتحاد الشغل
وفي هذا السياق يعمل الاتحاد العام التونسي للشغل على صياغة مبادرة للحوار الوطني لم تتضح ملامحها بعد لاستمرار المشاورات مع عمادة المحامين ورئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
وقال الأمين العام المساعد والناطق الرسمي باسم الاتحاد سامي الطاهري "هذه المرة نفضل أن يكون التفكير عميقاً حول تقديم المبادرة في إطار الشرعية أو خارجها، لكن إن كانت الشرعية تفضل منطق المرور بقوة كما حصل في فرض الدستور والانتخابات، فلا بد من أن نجد مخارج أخرى".
وتعقيباً على بيان رئاسة الجمهورية الذي تحدث عن "التحاور داخل مؤسسات الدولة" قال الطاهري "حتى الأحزاب والمنظمات هي جزء من مؤسسات الدولة، والدولة التونسية ليست شخصاً بل هي أجهزة ومنظمات ومجتمع مدني، ثم في ظل عدم وجود برلمان لا بد من إيجاد إطار للحوار".
ونفى الطاهري "وجود تواصل مع رئاسة الجمهورية"، مؤكداً "انقطاع الاتصال من قبل الاستفتاء ووجود حال من الانغلاق والتفرد من قبل رئيس الجمهورية لم يشهدها الاتحاد حتى في فتراد استبداد سابقة".
كما قال الأمين العام المساعد في اتحاد الشغل صلاح الدين السالمي إن "علاقة الاتحاد العام التونسي للشغل بالسلطة القائمة برأسيها في أسوأ حالاتها".
عصيان مدني سلمي
من جهته يقترح رئيس حركة "تونس إلى الأمام" عبيد البريكي في تصريح إلى "اندبندنت عربية"، مبادرة "تعول على الهياكل القطاعية المنتخبة، على غرار عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل وعمادة الأطباء وعمادة المهندسين، من خلال تنظيم لقاء سياسي موسع"، معتبراً أن "رئيس الجمهورية أخرج نفسه من الساحة السياسية ويقتصر دوره اليوم على إدارة السلطة التنفيذية ولم تعد له رمزية سياسية".
ويضيف البريكي أن "الحوار سينطلق بداية شهر يناير (كانون الثاني) من أجل وضع حد لمسار رئيس الجمهورية وإيقاف الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية".
وتقوم المبادرة على "تنقيح الدستور وقانون الانتخابات وهيئة الانتخابات وستعتمد الضغط من خلال الإضرابات القطاعية بعنوان سياسي على أجهزة الدولة ووزارة الدفاع وعلى السلطة التنفيذية، بأن هذا المسار أصبح عبئاً ثقيلاً على تونس ولا بد من إيقافه".
كما تحدث عبيد البريكي عن "عصيان مدني سلمي ينطلق باجتماع الهياكل المنتخبة لفرض موقف سياسي لإيقاف مسار قيس سعيد"، لافتاً إلى أن منظومة 24 يوليو منتهية، ولا بد من إيقاف مسار 25 يوليو والدخول مباشرة في مرحلة 26 يوليو بشروط سياسية اقتصادية واجتماعية جديدة".
حوار وحكومة إنقاذ
وكانت جبهة الخلاص المعارضة جددت مطالبتها "كل القوى السياسية والمجتمعية المتمسكة بالديمقراطية وعلوية القانون بتوحيد جهودها لفرض مسار حواري تشاركي يفضي إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني تتصدى للانهيار المتسارع للاقتصاد الوطني وتعيد البلاد إلى نادي الدول الديمقراطية"، محذرة من "التعويل على الحل الأمني بديلاً عن الحوار والمعالجة العقلانية للقضايا الوطنية".
وإزاء تعدد المبادرات التي تتفق على وجود أزمة عميقة تمس المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يحذر مراقبون من المكابرة وفرض سياسة الأمر الواقع التي يعتمدها رئيس الجمهورية، داعين إلى تغليب منطق الحوار وتحديد الأهداف والأولويات من أجل المصلحة العليا لتونس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد النائب السابق في البرلمان والكاتب الصحافي هشام الحاجي في تصريح خاص أن "تونس باتت عند مفترق طرق، فإما أن تستمر القطيعة بين مكونات الطبقة السياسية، وإلا فستكون المواجهة وهو ما سيعمق الأزمة"، معتبراً أن "قيس سعيد لا يتحمل وحده مسؤولية الوضع الراهن، بل هو نتيجة تراكمات".
ويشدد الحاجي على أن "طريق الخلاص هو التفاوض، وتونس تحتاج إلى مشروع مجتمعي يقوم على التزام الجميع ضرورة تخليص البلاد من الأزمة مع التخلي عن عقلية الربح والخسارة والتموقع السياسي والعمل على تفعيل الدورة الاقتصادية وتعزيز الاستثمار لخلق الثروة".
لا أزمة
وفي مقابل الإقرار بوجود أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية في تونس، لا يعترف رئيس الدولة بهذه الأزمة ويعتبرها "مفتعلة"، مشدداً على "الاستمرار في المسار" الذي بدأه في 25 يوليو (تموز) 2021 ومؤكداً "العزم على الانتصار في هذا النهج".
ووجه قيس سعيد في كلمة ألقاها أثناء اجتماع مجلس الأمن القومي في قصر قرطاج بحضور رئيسة الحكومة نجلاء بودن ووزراء العدل والدفاع والداخلية وقيادات أمنية وعسكرية انتقادات شديدة إلى معارضيه، متهماً إياهم بـ"العبث بمقدرات الشعب" ومشدداً على أنه "سيستمر في مشروعه اعتماداً على عمقه الشعبي".
وقال سعيد إن "عمقنا الشعبي أكبر بكثير من عمقهم الشعبي، وإن كان بعضهم حصل على مقعد بالبرلمان بفتات من الأصوات لا يمكن أن يتحدث عن مصير دولة ومصير شعب".
وأضاف رئيس الجمهورية أن "الأوضاع التي تعيشها تونس اليوم وما يحصل من قبل الغارقين حتى النخاع في الفساد بضرب مؤسسات الدولة والتطاول على رموزها يرتقي إلى جريمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي"، محذراً من أن "هذه الأوضاع لا يمكن أن تستمر".
في الأثناء ترفض الأحزاب المساندة لمسار رئيس الجمهورية الدخول في حوار مع أحزاب المنظومة التي حكمت قبل 25 يوليو والمتهمة بـ"الإرهاب والتسفير وتبييض الأموال والمال السياسي".
وجدد الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي محسن النابتي في تصريح خاص المطالبة "بمحاسبة الأحزاب السياسة التي تورطت في هذه الجرائم وأفلتت من المحاسبة"، مؤكداً أن "تونس تحتاج إلى مشروع اقتصادي اجتماعي تشاركي يحقق الرفاه للتونسيين ولا يخدم مصالح اللوبيات الاقتصادية".