منذ بداياته عرف القرن الـ19 الروسي كيف يكون زمناً سياسياً بامتياز، ولكن ليس من طريق التعبير السياسي المباشر عن الأفكار ودورها في صياغة الحياة ودور السياسة في صياغة الحياة العامة، بل أهم من ذلك في الدور السياسي الذي أعطي للفنون الآداب وبخاصة على خطى الشاعر الكبير ألكسندر بوشكين الذي يكاد يبدو ذلك كله وقد خرج من عباءته. ومن هنا يجوز طرح السؤال الأساسي: هل كان مصادفة أن يبدأ اهتمام الأدباء والفنانين الروس، عند بدايات القرن الـ19، بالحس الشعبي التراثي وإدخاله أعمالهم، في وقت كان "التغريب" قد وصل إلى ذروته، وتحديداً على يد اثنين من المبدعين كانا من أبناء الطبقات المرفهة ومن الذين تربوا على الفنون الغربية تحديداً؟ ولنوضح أكثر: عند بدايات ذلك القرن، كان ثمة في "عموم روسيا" نزوع إلى الاهتمام بالآداب الفرنسية خصوصاً، والأوروبية عموماً، وكان أصحاب ذلك التوجه ينظرون باحتقار إلى أي محاولة تهدف إلى إعطاء الفنون الشعبية، من موسيقية وأدبية وغيرها، مكانها في المجتمع. تلك الفنون كانت للعامة. أما الفنون والآداب السائدة لدى المثقفين ولدى الطبقات التي أصابت نصيباً من الثراء والمكانة والتعليم، فهي عصرية وتقدم حتى بلغات أجنبية، على رأسها الفرنسية. وحتى أبناء تلك الطبقات كانوا يتكلمون في ما بينهم بالفرنسية.
تعاطف مع الشعب!
ومن هنا لم يكن غريباً، حين بدأ ألكسندر بوشكين شاعر روسيا العظيم، تعاطفه مع الثوريين الديسمبريين، أن يهتم أول ما يهتم بالالتفات إلى الملاحم الشعبية الروسية مستلهماً إياها بعض أجمل أعماله وأكثرها قوة. وفي هذا السياق تأتي قصيدة "رسلان ولودميلا" الملحمية التي كتبها بوشكين بين عامي 1817 و1820، لكنه لم ينشرها إلا في عام 1822، إذ كان قبل ذلك في المنفى بسبب آرائه السياسية. وكذلك، لم يكن غريباً على ميخائيل غلينكا الموسيقي الشاب، المتحدر بدوره مثل بوشكين من أسرة بورجوازية ثرية، وصديق بوشكين وغوغول، أن يلتفت بعد ذلك بسنوات إلى تلك القصيدة الملحمية نفسها، ويحولها إلى واحدة من أولى الأوبرات الشعبية في تاريخ الموسيقى الروسية الكبير، والحال أن هذه حقيقة لم ينكرها أي من المبدعين الروس الذين- سواء عبر إبداعاتهم الموسيقية أو المسرحية أو الأدبية- ملأوا القرن الـ19 أعمالاً إبداعية متنوعة.
عودة إلى أصالة ما
وانطلاقاً من هنا يمكن المرء أن يرى، في ذلك التمازج الخلاق بين نص بوشكين وموسيقى غلينكا، ترسيخاً لوضع حجر الأساس في تلك الموسيقى الروسية، ذات الطابع الشعبي، التي راحت تنهل من التراث ومن الحس الجماهيري العام. ولئن كانت أوبرا "رسلان ولودميلا" قد قدمت للمرة الأولى في عام 1842، بعد ربع قرن من كتابة بوشكين القصيدة، فإن هذا العمل لا يزال حياً حتى اليوم، يسمع ويقدم ويحول إلى أفلام وأعمال متلفزة. وهو، في اختصار، أحد الأعمال الأكثر حيوية في الفن الروسي. ومع هذا علينا ألا ننسى هنا أن تقديم "رسلان ولودميلا" للمرة الأولى، في سانت بطرسبورغ، قوبل باستنكار شديد، وأعلن النقاد والمهتمون أنها لا ترقى إلى المستوى الذي كان ميخائيل غلينكا قد بلغه في عمله الأول "حياة من أجل القيصر". صحيح أن ذلك الموقف لم يبعد غلينكا من اهتمامه الدائم بالموسيقى الشعبية، لكنه أحبطه تماماً حيث إنه زهد لاحقاً في إنتاج مزيد من الأعمال الضخمة المشابهة.
أصول إيطالية
استقى ألكسندر بوشكين أجواء قصيدته الملحمية من تلك الملاحم الشعبية الروسية التي يطلق عليها اسم "بيلين"، لكن موضوعها يبدو، وفق كثير من الدارسين، مستقى إلى حد ما من رواية "أورلاندو فوريوزو" للإيطالي آريوستو، ناهيك بأن كثيرين سيرون في نهاية بوشكين نفسه بعد كتابة "رسلان ولودميلا" بسنوات، في مبارزة خاضها مع نبيل فرنسي أراد مغازلة زوجته الحسناء، نوعاً من التماشي مع موضوع "رسلان ولودميلا" نفسه. وتتحدث القصيدة والأوبرا بالتالي عن الأمير رسلان الشاب والنبيل الذي تختطف عروسه الحسناء لودميلا، ليلة عرسهما. أما الخاطف فهو الساحر الأحدب الذي يفتتن بالفتاة ويريد الاستيلاء على قلبها، لكنه لا ينجح في ذلك، على الرغم من اختطافه لها وعلى الرغم من كل الإغراءات ثم الأخطار والتهديدات التي يحيطها بها، فهي ترفضه كلياً وتتحداه بقوة وإصرار. أما رسلان، فإن اختطاف حسنائه يثير حزنه وغضبه، لذلك يسارع إلى الاستعانة بساحر آخر ويصل معه إلى جبال الشمال، حيث يقيم الساحر الشرير خاطف لودميلا. وإذ يصل رسلان إلى تلك البقعة النائية من الأرض في رفقة الساحر الطيب بعد رحلة في منتهى الصعوبة يتعرضان خلالها لأهوال الطبيعة ووحشية الضواري ناهيك بالفخاخ التي ينصبها الساحر الآخر الشرير، تدور معارك عنيفة بين رسلان وهذا الساحر تتواصل طوال ثلاثة أيام متعبة. وفي النهاية ينتصر رسلان وحبه على الساحر وشره ويتمكن الأمير الشاب من إنقاذ عروسه واستعادتها. غير أن المعارك التي يخوضها رسلان ليست معارك عادية أو ليست مبارزة مع شخص شرير وحسب، بل هي صراع عنيف يخوضه الأمير ضد القوى الشريرة، والأرواح الفالتة من عقالها، والحيوانات الغريبة، وشتى أنواع السحرة والكائنات الخرافية. والحقيقة أن تلك المعارك هي التي تعطي العمل غرابته وتتيح للموسيقى والأجواء الغنائية أن تبدو انعكاساً خلاقاً للمأثور الشعبي الروسي، ذي الطابع الشرقي والأجواء الغرائبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سياسة شعبوية
عبر الموسيقى التي وضعها ميخائيل غلينكا لهذا العمل التأسيسي، تمكن الموسيقي من أن يضع نفسه وعمله في مقدم مجموعة "الموسيقيين الخمسة"، تلك المجموعة التي كانت أخذت على عاتقها باكراً أن تعيد إلى الموسيقى الروسية أجواءها الشعبية بإدخال المأثور الموسيقي والغنائي في الأعمال المبتدعة. وحتى الآن تظل أوبرا "رسلان ولودميلا" العمل الأبرز في ذلك التيار الذي سيكون له لاحقاً تأثير قوي في بناء نوع من الحس الثوري الشعبي في الفن، بالتواكب، مع نزوع سياسي شعبوي ساد خلال منتصف القرن الـ19... وسيكون من أعلام ذلك التيار، إضافة إلى غلينكا، كل من بورودين وموسورغسكي.
ولد ميخائيل غلينكا عام 1804، وهو اعتبر على الدوام أول موسيقي روسي عرف كيف يعثر على إلهامه في موسيقى الشعب، بالتعارض- كما أشرنا- مع تلك النزعة الاستعلائية التي كانت سائدة لدى الأرستقراطية ومثقفيها من الذين كانوا ينظرون إلى لغة الشعب وفنونه على أنها "همجية" مفضلين عليها الفرنسية، كلغة ذات فنون متحضرة. واللافت أن غلينكا ابن العائلة الثرية والمثقفة، بدورها، على النمط الغربي، آثر باكراً أن يكسب عيشه بنفسه منصرفاً إلى دراسة الموسيقى في سانت بطرسبورغ. وهو ما إن أحس أن تعليمه الموسيقي قد اكتمل، حتى قام برحلة أوروبية، إذ ترك وظيفته في وزارة الاتصالات، وجال على كثير من البلدان التي كانت تغص بالنشاط الموسيقي، وعاش فترات متقطعة في فيينا وبرلين ونابولي. وهناك بالتحديد زاد اهتمامه بالموسيقى الشعبية الروسية، وبدأت الرغبة في التعبير بواسطتها تسيطر عليه. وهو ما إن عاد إلى روسيا في عام 1834 إثر موت والده، حتى راح يجمع القطع الموسيقية والغنائية الروسية، إنما من دون أن يتخلى عن التأثيرات الإيطالية فيها. أما أوبراه الأولى التي كرسها لمجد القيصر، فقد كتبها وملأها بالموسيقى الشعبية المحلية مباشرة تحت تأثير صديقيه بوشكين وغوغول. أما "رسلان ولودميلا" فكانت عمله الثاني. ويوم قدمت وفشلت قال كثيرون، إن فشلها كان بسبب تقدمها على زمنها. وقد أحزن الفشل غلينكا وجعله يبارح روسيا من جديد في جولة أوروبية قادته هذه المرة إلى إسبانيا. ومنها انتقل إلى برلين، وهناك توفي في عام 1557، بعد إصابته بمرض قضى عليه، وبالكاد تزيد سنه على 53 عاماً من دون أن يخلف من الأعمال الموسيقية التي ستخلد اسمه، سوى ذينك العملين اللذين انحصر تقديمه إياهما بين عامي 1836 حين قدم الأولى، "إيفان سونانين" التي ما لبثت خلال ثلاثة أرباع القرن منذ ذلك الحين تفتتح كل المواسم الأوبرالية المتتالية في سانت بطرسبورغ كما في موسكو، ثم 1842 بالنسبة إلى الثانية "رسلان ولودميلا" التي لئن كانت قد قدمت للمرة الأولى في سانت بطرسبورغ في ذلك عام 1842، فإنها لم تقدم كاملة للمرة الأولى في تاريخها إلا بعد ذلك بقرابة قرن من الزمن وتحديداً في مسرح الشانزليزيه الباريسي عام 1930 مستتبعة ذلك بعروض لندنية فألمانية ونيويوركية جعلت منها واحدة من أشهر الأوبرات الروسية في ذلك الحين.