لا يخفى على أحد أن توني بلير سعى في التواصل مع فلاديمير بوتين حين انتخب بوتين قائداً لروسيا للمرة الأولى في عام 1999. أثير بعض الجدل في تلك الفترة لأن بلير خالف العرف القاضي بعدم الاجتماع بالسياسيين الأجانب خلال فترة الانتخابات، والتقى بوتين في روسيا خلال الحملة الانتخابية التي رجحت التوقعات فوزه بها.
أمل بلير أن إرساء علاقات جيدة باكراً مع رئيس الوزراء الروسي قد يساعد على ضم البلاد إلى المجتمع الدولي الديمقراطي الليبرالي. نظراً لما حدث منذ ذلك الوقت، ليس من المفاجئ أن بعض الوثائق التي نشرها اليوم الأرشيف الوطني البريطاني قد تصدرت بعض عناوين الصحف بسبب التباين الكبير بين آمال عام 2001 وواقع العدوان الذي يشنه بوتين على أوكرانيا في يومنا هذا.
لكن يجب أن تذكرنا هذه الوثائق كذلك بأن بلير استشرف مخاطر القومية الروسية وكان متقدماً عن باقي قادة العالم عندما حاول أن يفعل شيئاً إزاءها. في الوقت الذي افترضت فيه الولايات المتحدة وغيرها من الدول أن روسيا سوف تتبنى القيم الغربية وتثري نفسها عن طريق الانتقال إلى اقتصاد سوق فعال- كما فعلت معظم دول وسط وشرق أوروبا- حذر بلير من أن بوتين "يتمتع بحس الوطنية الروسية ويدرك بشدة أن روسيا خسرت الاحترام الذي كانت تتمتع به في العالم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واقترح بلير أنه يجب الاستمرار بتخصيص "مكان على طاولة الكبار" لروسيا، في محاولة لتبديد الأسطورة القائلة، إن المؤسسات العالمية التي يهيمن عليها الغرب كانت مؤامرة ضدها. أضيفت روسيا قبلها إلى مجموعة الدول السبع، التي تتألف من أكبر سبعة اقتصادات في العالم، وأصبحت بالتالي مجموعة الدول الثماني في عام 1998 حين كان بوريس يلتسين رئيساً للجمهورية؛ أراد بلير الاستمرار بهذا الترتيب، متجاهلاً انخراط بوتين المتواصل في التجسس ودعمه لطموحات إيران النووية.
وشملت هذه المحاولة لضم بوتين مساومات أخلاقية أخرى، كما كتب بلير في مذكراته "واصل بوتين خوض الحرب في الشيشان بشراسة، بل بفظاظة، كما قال البعض. ومع أنني استوعبت هذا الانتقاد، تعاطفت مع واقع أنها كانت كذلك حركة انفصالية عدوانية تحمل في جوهرها التطرف الإسلامي، لذلك تفهمت وجهة النظر الروسية كذلك".
لكن في النهاية، لم يفهم بلير- كما فعلت معظم الجهات الخارجية- مدى اللاعقلانية التي غرق فيها بوتين. وسرعان ما أدرك بلير أنه لا يمكن الوثوق بأي من الوعود التي يقطعها بوتين، وفي إطار صراع كوسوفو في عام 2000، قاد حلف الناتو في الوقوف ضد القومية الصربية التي تدعمها روسيا، لكن بلير ظل يتمسك بتلك الثقة بالنفس التي تميزه ويؤمن بأنه سوف ينجح بطريقة من الطرق في إقناع بوتين بالإقرار بأن اتجاه روسيا نحو الليبرالية بشكل أكبر يصب في مصلحته.
لم تنجح هذه المساعي لكن لم تكن التجربة أمراً خاطئاً. طرد بوتين في الأخير من مجموعة الدول الثماني في العام 2014 في أعقاب غزو شبه جزيرة القرم، وبعد مرور سبع سنوات على مغادرة بلير منصبه. ربما لم تتبلور بعض أفكار بوتين الغامضة عن "روسيا واحدة" تمتد من جمهوريات البلطيق عبر بيلاروس وأوكرانيا، سوى في الآونة الأخيرة. وربما كان بوتين يعتقد مثلاً في الصميم منذ كان ضابطاً في الاستخبارات الروسية، كي جي بي، في الاتحاد السوفييتي، أن لينين أخطأ في السماح لأوكرانيا بأن تصبح جمهورية اشتراكية سوفياتية منفصلة عن روسيا الاتحادية، لكن الأرجح أن ذلك إعادة كتابة حديثة للتاريخ.
تعتبر الوثائق التي نشرها الأرشيف الوطني تذكيراً مفيداً بأن شكل العالم كان مختلفاً جداً في عام 2001. يجاري إطلاق هذه الوثائق الرسمية تقريباً تقصير المدة الزمنية للقاعدة التي تنص على إخراج بعض الوثائق إلى العلن بعد مرور 30 سنة على وضعها، إلى 20 سنة. ما عاد المؤرخون يتخلفون عن يومنا الحالي سوى بـ21 عاماً، لكن 21 عاماً فترة طويلة ومع أن بوتين ظل يحكم روسيا طيلة هذا الوقت، فقد تغير هو كما تغير العالم.
تؤكد هذه الوثائق ما تعلمناه أنا وزملائي في كينغز كوليدج في لندن من الوثائق الأولى التي خرجت للعلن عن حكومة بلير: أنها كانت أكثر انفتاحاً من الإدارات السابقة وأن المعلومات الجديدة التي تكشفها الوثائق الرسمية أصبحت بالتالي أقل. معظم التحركات التي قام بها بلير وحكومته إما نقلت في حينها أو كشفت بعدها في ذلك التدفق غير المسبوق للمذكرات (لا سيما مذكرات أليستير كامبل) والسير الذاتية والتحقيقات الرسمية (لا سيما في بعض جوانب الحرب على العراق).
لم أعلم أن بلير قارن بوتين بشارل دي غول ("تفكير مماثل") في أحد أحاديثه مع نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني. لكن العالم عرف أن بلير أمل أن يستقطب بوتين إلى كنف الديمقراطية الليبرالية، لأنه صرح بذلك عدة مرات في العلن.
© The Independent