باتت الألبسة التقليدية في الجزائر تأخذ منحى متصاعداً من الاهتمام على غير العادة، وأصبحت حديث الرسميين بعد أن كان الكلام عنها محصوراً بين النساء في الأعراس والأفراح، مما يكشف عن تحول في الذهنيات من جهة ويؤكد أن للمجال العام دوراً في الحفاظ على هوية الأمة وتاريخها من جهة أخرى، وهو ما يستدعى العمل على إعادة الاعتبار لهذا الجزء من التراث.
قطع قماش تمثل الماضي
ولم تعد الألبسة التقليدية تلك قطع القماش التي تمثل الماضي وترمز إلى منطقة معينة أو ترتبط بقبيلة ما، بل جعلت منها الجزائر أحد أهم رموز الهوية ووجهاً من أوجه التاريخ، وجدار صد يواجه محاولات التزوير، لا سيما أن البلاد بمساحتها الشاسعة تزخر بعشرات الأنواع من الألبسة، ووراء كل واحدة منها حكايات من العصور الغابرة، إذ تعتبر وزيرة الثقافة صورية مولوجي أن اللباس التقليدي هو أحد أهم روافد الهوية الجزائرية، باعتباره مرآة تعكس البنى الفكرية والتاريخية للمجتمع.
وأوضحت الوزيرة أنه الأصل الذي تتغذى وتستمر بواسطته أنساق المجتمع الثقافية الاجتماعية، مضيفة أن اللباس التقليدي لما له من أهمية تاريخية وهوياتية وباعتباره أحد أهم عناصر الموروث الثقافي غير المادي الجزائري، يحتاج إلى البحث والتمحيص والتثمين كما يحتاج إلى الصون والحفاظ عليه، بخاصة أنه تحول في فترة تاريخية إلى أداة استعملها الشعب الجزائري الأبيّ في المقاومات الشعبية والثورة التحريرية المجيدة، وأبرزت أن اللباس كمنظومة فكرية وكتراث غير مادي استمر على مر الحقب التاريخية، وهو صورة أخرى للثقافة الجزائرية ترسم أبعاد المقاومة الثقافية من خلال صموده أمام موجات العصرنة والوافد الجديد الحامل لقيم الآخر المغايرة.
للرجل نصيب
وارتبطت الألبسة التقليدية بالمرأة لاعتبارات عدة، أولها أنها خياطة راقية ومصممة من النوع الرفيع، ثم حبها الطبيعي لكل ما هو جميل مما جعل أنواع الملابس تتعدد وتتضاعف، ومنها "الكاراكو" و"القويط" و"القندورة القسطنطينية" و"الشدة التلمسانية" و"البلوزة الوهرانية" أيقونة اللباس التقليدي النسوي، وأيضاً الجبات زاهية الألوان على غرار الجبة القبائلية والشاوية و"الملحفة" الأغواطية والترقية و"الحايك" الحريري بمختلف أنواعه، غير أن اللافت في جميعها هو جمعها بين التواضع المطلوب بموجب الشريعة الإسلامية والتوهج والأناقة مع تركيز قوي على الزخارف المعقدة والألوان.
وليس اللباس التقليدي حكراً على المرأة كما كان إلى وقت قريب، بل بات للرجل نصيب من قطع القماش المصممة بطرق جميلة، وبعد أن احتل لباس "البرنوس" مكانة مرموقة على إثر ارتدائه من طرف أكبر زعماء الجزائر، على غرار الأمير عبدالقادر والرئيس الراحل هواري بومدين إلى جانب "القشابية" و"الملاية" و"الملحفة" المرتبطة بفترة المقاومة الشعبية والثورة التحريرية، أصبحت هذه الأنواع محل طلب واسع من العنصر الذكوري كبيراً وصغيراً، وباتت محل افتخار بالماضي والتاريخ ورمزاً إلى الهوية الجزائرية.
تعبير العالم فرانس بوواس
ويرى الباحث في كلية العلوم الاجتماعية دحو بن مصطفى أن الألبسة التقليدية جزء من الثقافة باعتبارها منتجاً يعبر عن التطور التاريخي للعلاقة بين الإنسان ومحيطه وفق تعبير عالم الأنثروبولوجيا الألماني - الأميركي فرانس بوواس، موضحاً أن "منظمة يونيسكو" ولأنها مسؤولة عن الثقافة، بلورت مقاربات وقوانين عدة لصيانة التراث المادي واللامادي وأخرى لحفظه وتسجيله، وعلى أساس ذلك أصدرت الجزائر قوانين، ومنها قانون (04/98) لحماية التراث الثقافي المادي واللامادي، وخلقت هيئات ومؤسسات على المستوى المركزي والمحلي لتسجيل هذا التراث ومباشرة عملية تسجيله لدى المنظمات الدولية.
وقال بن مصطفى لـ "اندبندنت عربية" إن أهمية تسجيل الألبسة التقليدية والمحافظة عليها تبرز كرمز للهوية الثقافية والتاريخ باعتبارها وثائق مادية ورمزاً للتمايز والإبداع، بخاصة في ظل محاولات السرقة التي يتعرض لها التراث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتابع دحو أنه إضافة إلى البعد الثقافي يمكن توظيف هذا المنتج اقتصادياً ضمن استراتيجية تطوير الصناعة الحرفية لخلق مناصب الشغل، غير أن التزاوج بين البعدين الثقافي والاقتصادي يحتاج إلى ترسيخ اجتماعي وتقليد مستدام لتثمين هذا المنتج كرمز للذات والهوية، مشيراً إلى أن الألبسة التقليدية يجب أن تؤدي الوظيفة التطابقية بين الثقافة والهوية من دون أن يقتصر الأمر على المعارض الظرفية، بل إدراجها ضمن النسيج الاجتماعي والاقتصادي.
وحذر بن مصطفى من توظيف التراث سياسياً من أجل استخدامه كدليل للانتقال من الحق الثقافي إلى الحق السياسي، وختم أنه لا يخفى على أحد أهمية التراث كدليل على الوجود والحق التاريخيين، وربما اكتشف الجزائريون هذه الأهمية متأخرين إلا أن التحديات الداخلية والمحيط الإقليمي وصراع الهوية دفعت بالموضوع إلى السطح.
ولا يعتبر الاهتمام بالألبسة التقليدية أمراً جديداً لدى عموم الشعب بدليل حضورها المميز في الأعراس والأفراح والمناسبات الدينية والوطنية، لكن رسمياً يعد أمراً لافتاً وبات إخراجه من بعده الفولكلوري إلى بعده الثقافي الرحب رهاناً لدى كثير من المهتمين بهذا الميدان.
إلى ذلك يعتبر الحقوقي عدنان محمد بن مير أن اللباس التقليدي تراث ومعلم من معالم الشخصية ومقومات الأمة في أي مجتمع، لأنه يميزها عن غيرها من الأمم والمجتمعات، مستدلاً بما حدث في ختام كأس العالم قطر 2022 "بإهداء أسطورة كرة القدم وقائد منتخب الأرجنتين المتوج بطلاً ليونيل ميسي لباساً عربياً قطرياً تعبيراً عن اعتزاز وفخر القطريين بلباسهم التقليدي"، مبرزاً في تصريح إلى "اندبندنت عربية" أنه من "الضروري حماية اللباس التقليدي باعتباره رافداً من روافد شخصيتنا وتاريخنا"، وذلك بإعادة بعث ورشات الطرز والحياكة وتشجيعها تمويلاً وتسويقاً مع التحفيز الاقتصادي والجبائي بما يمكن الحرفيين من ممارسة نشاطهم بأريحية، مع أهمية فتح مجال التصدير والترويج لضرورة ارتداء الملابس التقليدية.