لليوم الثالث على التوالي يترقب الأميركيون، اليوم الخميس، نهاية ملحمة انتخاب كيفن مكارثي لرئاسة مجلس النواب بعد ست جولات تصويت فاشلة على أمل أن يكون تأجيل التصويت لجلسة سابعة والمحادثات مع الكتلة اليمينية الرافضة لمكارثي قد نجحت في إسدال الستار على الانقسام المحرج للجمهوريين، الذي لم يتكرر منذ 100 عام، فما الأسباب التي دفعت الكتلة اليمينية إلى الاعتراض على مكارثي وما الذي تريده، وكيف سينعكس ذلك على الكونغرس والعملية التشريعية؟
بارقة أمل
بعد مفاوضات ماراثونية بين فريق زعيم الجمهوريين في مجلس النواب كيفن مكارثي وأعضاء كتلة أقصى اليمين من الجمهوريين التي تضم 20 نائباً، ظهرت بارقة أمل على تقدم في العملية المرهقة لتعيين رئيس مجلس النواب يقود أغلبيتهم الجديدة، ولكن من دون ضمانة على اتفاق أكيد، خصوصاً أن بعض أعضاء الكتلة اليمينية لم تحسم أمرها حتى الساعات الأخيرة من ليل واشنطن، وهو ما انعكس على طريقة تصويتهم لتأجيل جلسة التصويت السابعة إلى الخميس، فقد رفض أربعة التأجيل وامتنع اثنان عن التصويت، ويعني هذا أنه إذا استمر النواب الستة في رفض دعمهم لمكارثي فستستمر الأزمة عالقة، لأن الأخير يحتاج تأييد 218 صوتاً ولا يحتفظ الجمهوريون سوى بأغلبية ضئيلة قدرها 222 مقعداً. ومع إدراكه بأن حياته السياسية على المحك، وأن هذه الفرصة لن تتاح له مرة أخرى بعد أن حاول وفشل مرة واحدة عام 2015 في الترشح للمنصب نفسه، واضطر إلى التنحي خوفاً من أنه لا يستطيع حشد الدعم الكافي، يظل السؤال هو ما التنازلات التي سيقدمها مكارثي للفوز برئاسة مجلس النواب هذه المرة؟
استرضاء المنشقين
يبدو أن تصميم مكارثي على استرضاء منتقديه حتى ولو بثمن باهظ، جعله يوافق على إبرام لجنة العمل السياسي التابعة له صفقة مع " نادي النمو" وهي مجموعة محافظة مناهضة للضرائب كانت تعارض توليه المنصب، وتقضي الصفقة بعدم إنفاق لجنة العمل السياسي الجمهورية أموالها في دعم أي مرشحين في الانتخابات التمهيدية المفتوحة للحزب في المناطق الجمهورية الآمنة، الذي يعد مطلباً رئيساً للمحافظين الذين كانوا غاضبين من دعم مؤسسة الحزب المزيد من المرشحين الرئيسين على المرشحين اليمينيين.
وفي الفترة التي سبقت انتخاب رئيس المجلس حاول مكارثي الإذعان لمطالب الكتلة اليمينية حتى أنه كان على استعداد لمنح هذا الفصيل القدرة على إقصائه من المنصب إذا لم يعجبهم العمل الذي كان يقوم به وفقاً لموقع "بوليتيكو".
وعلى رغم ذلك لم يتضح ما إذا كانت هذه التنازلات ستكون كافية للفوز بأصوات جميع كتلة المتمردين على مكارثي، فقد تكون هزيمته الكاملة هي التنازل الوحيد الذي يرضي المنشقين، الذين أثار بعضهم العداء تجاهه على مدى سنوات ولا يثقون به، وهو ما عبر عنه بوضوح النائب مات غايتز عضو تجمع "نيفر كيفن" الذي اقترح أن يستسلم مكارثي ببساطة ويتخلى عن ترشحه للمنصب.
ماذا يريد الجمهوريون؟
يعتبر بعض المراقبين ربما بقدر من المبالغة، أن المشكلة تكمن في الديناميكية التي يتبعها الجناح اليميني المتشدد في الحزب الجمهوري منذ سنوات ويستشهدون بما لاحظه جون بوينر رئيس مجلس النواب الجمهوري في الفترة من 2011 وحتى 2015، حينما اتهم هذا التيار بعد أن اختار الاستقالة نتيجة حرب لا هوادة فيها، بأن ما يهمهم هو الفوضى وأنهم في كل مرة يصوتون ضد مشروع قانون، يتلقون دعوة للظهور على قناة "فوكس نيوز" أو إجراء حوارات إذاعية، في أداء وصفه بالنرجسية الخطيرة.
غير أن آخرين يعتبرون أن الملحمة المستمرة حول انتخاب مكارثي هي نوع من الصراع على السلطة والإذلال العلني الذي تحبه واشنطن، والذي يعد متجذراً ليس فقط في العداء الشخصي لمكارثي، ولكن أيضاً في الدوافع الأيديولوجية العميقة من المحافظين اليمينيين للحد بشكل كبير من حجم عمل الحكومة الفيدرالية، وإصلاح الطريقة التي يعمل بها مجلس النواب لمنح الأعضاء مزيداً من التأثير في التشريع الذي ينظر فيه.
إصلاح الكونغرس
منذ عام 1995 وتولي الجمهوري اليميني نيوت غينغريتش رئاسة مجلس النواب، استحوذ المحافظون على هيكل السلطة من أعلى إلى أسفل، حيث سعى إلى تقويض الجهود المبذولة للتفاوض على الصفقات وتمرير التشريعات من خلال تعزيز السلطة في يد رئيس المجلس، ولهذا يجادل عديد من الجمهوريين بأن الطريقة التي يعمل بها مجلس النواب تؤدي إلى تفاقم المشكلة، ويقولون الآن إن الوقت حان للتغيير، حيث أوضح النائب الجمهوري تشيب روي، وهو خصم بارز لمكارثي، أن واشنطن مدينة فاسدة وغير عادلة، وهناك حاجة ملحة إلى إصلاحها والأمر كله يتعلق بالقدرة وبتمكين النواب من إيقاف ما تفعله آلة الكونغرس في هذه المدينة.
وترى صحيفة "نيويورك تايمز" أن هناك بعض الشرعية في الادعاء بأن المشرعين العاديين يستبعدون من معظم الصفقات المهمة، حيث تؤدي ضغوط العمل وعدم القدرة على الوفاء بالمواعيد النهائية إلى إبرام قادة مجلسي النواب والشيوخ، اتفاقيات تشريعية ضخمة في ما بينهم ومن ثم إجبار بقية النواب على الموافقة مع منحهم قليلاً من الوقت لمراجعة التشريعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعترف النائب الجمهوري كين باك، وهو عضو كتلة الحرية التي تعارض مكارثي، بالإحباط بين شريحة واسعة من الأعضاء، مشيراً إلى أن وجود ضمانات بالشفافية يمكن أن تفيد كلاً من مؤيدي مكارثي وخصومه لأن أحد الأشياء التي يطلبها أعضاء كتلة الحرية هو مزيد من الوقت لقراءة مشاريع القوانين قبل التصويت عليها.
ويعد أحدث مثال على ذلك هو تمرير حزمة الإنفاق الحكومي الشهر الماضي بحوالى 1.7 تريليون دولار التي فرضت على معظم المشرعين في الأيام الأخيرة من العمل قبل عيد الميلاد مع فرصة ضئيلة للتدقيق في التفاصيل.
وفي حين تعهد مكارثي بسلسلة من التغييرات تهدف إلى إعطاء النواب العاديين صوتاً أكبر في العملية، فإن الرافضين يريدون التزامات بتبني أجندة سياستهم ومنحهم مواقع قوية في لجان الكونغرس، وهي أشياء يتردد مكارثي في الموافقة عليها وإن لم يستبعدها.
تقليص الحكومة
كانت حركة تقليص حجم الحكومة عقيدة مركزية للحزب الجمهوري على مدى عقود، لكنها اشتدت في الكونغرس خلال سنوات الرئيس السابق باراك أوباما مع صعود حزب الشاي اليميني، فقد طالب الجمهوريون بتقييد الإنفاق مقابل رفع حد الدين الفيدرالي، لكنهم مع وجود دونالد ترمب في البيت الأبيض، انسحبوا من تلك الحملة وزادوا حد الدين دون شروط ، وهو نهج من المؤكد أن الأغلبية الجديدة في مجلس النواب ستعارضه هذا العام، حيث استغل الجمهوريون رسالة ترمب الشعبوية، ووصفوا الحكومة بأنها "مستنقع" من النخبة التي لا تستجيب لاحتياجات الأميركيين العاديين.
ويمكن أن يساعد تحدي اليمين الجمهوري لمكارثي في جهود الدفع من أجل ميزانية فيدرالية متوازنة لا تسمح بأي عجز، كما تريد هذه المجموعة إرساء قواعد خاصة من شأنها أن تسهل على المشرعين التخلص من بعض الإدارات الفيدرالية وطرد الموظفين الحكوميين، فضلاً عن سعيهم إلى تحصين شديد للحدود الأميركية مع المكسيك لوقف الهجرة، والتخلص من ضرائب الدخل الفيدرالية واستبدالها بضريبة استهلاك.
وعلى سبيل المثال، ينتقد النائب الجمهوري رالف نورمان وهو أحد هؤلاء المشرعين اليمينيين تاريخ مكارثي التشريعي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالإنفاق الحكومي، إذ لا يثق نورمان في تمسك مكارثي بالخط المحافظ في المعارك العنيفة مع الرئيس جو بايدن بشأن التمويل الفيدرالي.
ويهدد عديد من المشرعين في الأغلبية الجمهورية الجديدة بعدم الموافقة على زيادة حد الاقتراض ما لم يوافق الديمقراطيون في مجلس الشيوخ والبيت الأبيض على تخفيضات حادة في الإنفاق، الأمر الذي ينذر بمصاعب بالنسبة إلى الحكومة المنقسمة في سن أي تشريع أساسي، فضلاً عن مواصلة الإنفاق الفيدرالي بمستوياته الحالية وتجنب كارثة اقتصادية أوسع نطاقاً، ما يثير قلق الديمقراطيين بأن ينتهي المطاف في بعض الصفقات التي قد لا يتم تمريرها إلى إغلاق محتمل للحكومة قد يستمر إلى أسابيع أو أشهر كما حدث في إدارات سابقة.
عدم اليقين
لكن المعركة حول انتخاب رئيس مجلس النواب، تظهر أن المشرعين اليمينيين لا يعتزمون التراجع حتى يحصلوا على ضمانات صارمة بأن أي قواعد جديدة ستظل سارية، وأنه سيكون لهم تأثير جديد في أعمال مجلس النواب مع التركيز على تقييد الحكومة، الأمر الذي ينذر بالسوء في ما يتعلق بالتقدم الذي يمكن إنجازه في التشريعات المهمة في الكونغرس رقم 118، بينما تقول صحيفة "واشنطن بوست" إن كل شيء يشير في اليومين الأولين من جلسات الكونغرس إلى أن عدم اليقين سيكون السمة الأساس للعامين المقبلين على حساب محتمل لملايين الأشخاص في كلا الحزبين الذين يتوقعون من المسؤولين المنتخبين أن يحكموا بشكل فعال وجماعي.
وإذا استمر خمسة نواب يمينيون أو أكثر في رفض مكارثي، فقد يستقر الديمقراطيون على بعض الجمهوريين المعتدلين لدعمهم في رئاسة مجلس النواب على أن يتمكن عدد قليل من الجمهوريين من دعم المرشح نفسه، إذ لا يوجد سبب دستوري يمنع المعتدلين في كلا الحزبين من التجمع معاً، والسيطرة على الأجندة التشريعية، لكن من غير المرجح أن تنجح هذه المحاولات بالنظر إلى تقاليد الانضباط الحزبي والولاء القبلي ما يجعل هذا الأمر مستحيلاً، ولهذا سيكافح الجمهوريون حتى يصبح لديهم رئيس لمجلس النواب.
صعوبات متوقعة
غير أن المشهد المتأزم الذي عاناه كيفن مكارثي يشير إلى أن ضعف رئيس مجلس النواب، وهذا سيجعل من الصعب على الكونغرس تمرير تشريعات مثيرة للجدل هذا العام، حيث من المتوقع أن يجد مكارثي المدين بالفضل لتجمع الجمهوريين اليمينيين في مجلس النواب، صعوبة في تجنب إغلاق الحكومة أو رفع سقف الديون أو تقديم دعم إضافي للقوات المسلحة الأوكرانية.
وفي ظل هذا الواقع، سيترأس مكارثي أغلبية ليست فقط هشة، ولكنها أيضاً شديدة التقلب، حيث تعني قوة متمردي كتلة الحرية و"نيفر كيفن"، الذين أظهروا شهية لا تشبع للمطالبة بالسلطة وانتزاع الامتيازات، أنه حتى الوظائف الأساسية للكونغرس بما في ذلك تمرير الميزانية ورفع سقف الديون لتغطية الإنفاق، سيكون من الصعب تحقيقها.