Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحرب في الشرق" رواية تستعيد تاريخا من الشتات المصري

زين عبد الهادي يسرد مآسي المهجرين من مدينة بورسعيد

مأساة التهجير في بور سعيد (غيتي)

الصراع سنة من سنن الكون، وناموس البشر في كل العصور، هذه الحقيقة تثبتها سلسلة من الحروب والنزاعات، التي اندلعت عبر التاريخ، شهد القرن الماضي منها حربين عالميتين ثقيلتين كبدتا العالم خسائر كبيرة، إضافة إلى كثير من الحروب الأخرى، التي اندلعت في فيتنام، وكمبوديا، وأفريقيا، وأيضاً في مصرالتي شهدت أطماعاً خارجية جعلت منها منطقة صراع مستمر فتتابعت عليها المعارك والحروب، لا سيما حرب السويس عام 1956 ونكسة 1967، وقد دفعت مدينة بورسعيد المصرية خلال هاتين الحربين ضريبة فادحة.  

مشاهد من التدمير والتهجير لم تمض ولم تمر، وإنما ظلت حية في ذاكرة من عايشوها، وكان البوح سبيلها للعودة من جديد في رواية "الحرب في الشرق" (دار بتانة) للكاتب المصري زين عبد الهادي.

العائلة الكبيرة

 التقط الكاتب صوراً حقيقية من واقع مرتبك تجاوزت فيه الحياة حدود المنطق، فاختلط الحب بالحرب والضحك بالدموع والموت بالميلاد، ونتج من تقاطع رحلته السردية مع حياة حقيقية عاشها منذ ميلاده في مدينة بورسعيد في عام الحرب "1956"، ثم مغادرته المدينة بعد نكسة 1967، مزيداً من صدقية وحميمية السرد، الذي استهله باقتباس للشاعر الألماني برتولد برخت "إنها الحرب، السماء المفزعة أشد زرقة من المعتاد". فقد مهد عبر هذه التوطئة وعبر عنوان النص وعتبته الأولى لغاية الرواية في رصد تبعات الحرب، وما تخلفه من تهجير وشتات وقتل وخراب يجنيه الأبرياء، فلا يعرف القاتل دافعاً للقتل ولا يعرف المقتول ذنباً يجني على إثره الموت.

 

استخدم الكاتب كلمة "مقطع" عنواناً للفصل الأول والثاني من الرواية، ليمرر دلالات تشي بتشابه أثر الحب والخيال والموسيقى، وثلاثتهم كانوا أعمدة أسرة الراوي الذي نشأ بين أب وأم متحابين وإخوة كثر عوض بهم الأب العامل بمصنع النسيج وحدته، فقهر دفء محبتهم برودة الفقر وقسوة الحياة، ثم عمد عبد الهادي إلى رصد صلات عائلية تعكس حال شريحة كبيرة من المصريين في ذلك الوقت، حين كان بيت واحد يجمع عائلة كبيرة، فيتشارك الأجداد والآباء والعمات والأبناء حياة واحدة، وسقفاً واحداَ وطعاماً واحداً.

وعبر تقنيات الوصف رصد كثيراً من سمات تلك الحقبة في مصر، وفي مدينة بورسعيد بشكل خاص، منها التنوع السكاني والتفاوت الطبقي والفقر الشديد وشظف العيش... "آه من تلك الحياة التي تعودت رؤيتها ليلاً تتألم من الرطوبة، التي سكنت العظام فلا يمكنني أن أسمع سوى نشيج الألم، كيف كان هذا الألم يتحول لضحكات على (الطبلية) أو مائدة الطعام الخشبية الفقيرة للغاية، التي كلما أعادوا طلاءها، ضاع الطلاء بعد عدة أسابيع وعادت للونها الكالح كأنها ترفض الأقنعة" ص 25.

خصوصية ثقافية

عمد الكاتب إلى إبراز الخصوصية الثقافية لتلك الحقبة، التي حرص خلالها الناس (على رغم فقرهم) على ارتياد قاعات السينما، بينما كان الجد الأمي يحفظ أحاديث الإمام محمد عبده، وعشرة آلاف بيت من الشعر.

 

ورصد كذلك المنظومة القيمية والأخلاقية لطبقة عريضة من المصريين، تشابهوا في نمط المسكن والمأكل والملبس، وأسلوب الحياة، ونقل بعض الموروث الشعبي للطبقة الفقيرة، كدخول المسكن الجديد بالقدم اليمنى من أجل أن تحل عليه البركة، والاعتقاد في الماورائيات، التي كانت رافداً للفانتازيا، وقد تجلى بعضها في حكايات الجدة عن العفاريت والجنيات والعمالقة وذوي العيون الواحدة، وأيضاً في اعتقاد الراوي بملازمة اثنين له، لا تدركهما سوى عينيه وحده، وتجلت مرة أخرى في طريقة تعاطي هذه الطبقة مع الموت ومع الملك الموكل به... "تحكي عمة أمي عن عزرائيل الذي يقف في أحد أركان الصالة ينتظر قبض روحه وتكلمه: والله لم يفعل شيئاً في دنياه يا سيدنا عزرائيل، سايقة عليك النبي يا شيخ ابعد عننا" ص 45.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإضافة إلى الاعتقادات والموروثات الشعبية، استدعى الكاتب الأكلات البورسعيدية الشهيرة مثل "الكسبة" وبعض الأكلات البحرية، والطقوس القديمة لإعداد القهوة "السبرتاية"، وقد غذى استدعاء هذه العادات، وهذا الموروث إلى جانب اللهجة العامية، التي تخللت النص، حالة من النوستالجيا والحنين إلى الماضي، على رغم كل ما كان فيه من فقر وحرب وموت وتهجير.

ظلال ورؤى

تخللت النسيج السردي ظلال فلسفية، أبرز الكاتب عبرها رؤاه حول جدلية الحياة والموت، كما عقد مقارنات ضمنية بين النظام الملكي، وفترة حكم الرئيس عبد الناصر، وبين طبائع المصريين في الماضي والحاضر، ومرر رؤى أيدولوجية حول حقبة الستينيات، وأيضاً حول الحرب والتكنولوجيا، التي تفوق فيها الإنجليز، ولم يعترفوا أنهم (عبرها) أخرجوا أسوأ ما في الإنسان من وحشية! وقد أكد رؤاه، عبر ما ساقه من أحداث جسدت الشتات الذي ترتب على الحرب، ومعاناة أهل بورسعيد، والآثار النفسية الجسيمة التي سببها التهجير للأطفال بوجه خاص، وذلك من خلال شخصية الراوي الذي تحمل طفلاً أهوال الحرب، فغادر الحياة التي يحبها إلى حياة أخرى لم يألفها، وكان هذا التهجير دافعاً لتحول البطل على المستوى السيكولوجي من طفل متوائم مع بيئته، وعاشق لمفرداتها المتمثلة في البحر والطقس والناس إلى طفل أخر له نفس مأزومة بالغربة والكراهية وعدم الانسجام، وعدا شخصية الراوي المتحولة، كانت بقية الشخصيات في عمومها نمطية تجسد صورة واقعية لفقراء اعتادوا تجرع المعاناة بقدر كبير من الرضا بما اعتبروه من تصاريف القدر.

 لم يختر الكاتب نسقاً زمنياً طبيعياً تتعاقب عبره الأحداث، وإنما آثر التجول الحر عبر الزمن، فتدفق سرده الذاتي عبر زمن غير منتظم، تراوح بين الماضي والحاضر، وجمع بين حقب زمنية متنوعة. واعتمد لغة تتسم بالشعرية والمشهدية في آن، فاستطاع أن ينقل عبرها مشاهد من الحرب والتهجير، إضافة إلى صور حية تجسد ما يعتمل في النفس، وذلك الألم الناجم عن العوز والمعاناة التي سببها الشتات، كما عمد إلى المزامنة كتقنية سينمائية، تتسق مع ما انتهجه من تكنيك بصري، وجمع عبرها بين مشاهد من الماضي وأخرى من الحاضر.

علاقات متباينة

مرر عبد الهادي صوراً متباينة ومتقابلة للعلاقة مع الآخر، فبينما اتسمت هذه العلاقة بالكراهية للإنجليزي المحارب، الذي يقتل ويغزو ويدمر، ويستغل تفوقه التكنولوجي كي يعيث في المدن الخراب، كانت ثمة علاقة أخرى من الحب والألفة، ربطت الراوي وأمه بالراهبة الفرنسية "بينيلوبي"، التي كانت سبباً في بهجة الطفل وسبيله لاكتشاف عوالم جديدة لم يكن يعرفها... "جلست إلى البيانو وأخذت في العزف، رقصت بعض الراهبات معاً وغنين وصفقن قليلاً، ثم تعشيت معهن وصعدنا لننام، لم أكن أنتظر أجمل مما حدث، لكن الليلة لم تكن انتهت بعد، كان ينتظرني ما لا أتخيله مع بيني" ص103.

تخللت النص صور أخرى من التقابل بين الخير والشر، والحزن والفرح، والحب والكراهية، والقوة والضعف، وأيضاً بين الموت والميلاد، وأنتج الكاتب عبر هذه المقابلات، مفارقات عززت رؤاه الفلسفية، لا سيما في ولادة الراوي الذي جاء إلى العالم أثناء القصف ووسط صيحات الموت، وكذلك في موت الأب، الذي غادر الحياة ضعيفاً، بينما كان ابنه يمارس الحب في اللحظة نفسها، يملؤه شعور من يتسيد العالم، ومرر كذلك حمولات معرفية، بعضها كان حول ما قام به بعض النحاتين العظام، مثل إدوارد أريكسن وتمثاله "حورية البحر الصغيرة"، ومعارف أخرى حول نيل آرمسترونغ، ورحلته إلى القمر، واستدعى أيضاً أسطورة السايكلوب ذي العين الواحدة، ليجسد عبرها حجم الاغتراب والشقاء، الذي يعيشه طفل اضطرته طائرات ألقت ببيضها المحشو بالديناميت والنابالم واليورانيوم، للفرار من بيته ومن مدينته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة