في عالم الـ"سوشيال ميديا" لم تعد التدوينات تستحوذ على البطولة المطلقة لاهتمام المتابعين وأحياناً وسائل الإعلام في مصر، بل أصبحت تعليقات المتابعين تنافس على البطولة، ويعتبرها بعضهم أكثر إثارة وأفصح لساناً للتعبير عن مواقف واتجاهات وآراء يمكن من خلالها قياس اتجاهات الرأي العام.
فمن اللافت أخيراً تخصيص مواقع إخبارية مساحات تسلط الضوء على كيف تفاعل الجمهور مع منشور معين لأحد المشاهير، أو أن تحظى صورة تعليق ما بآلاف المشاركات التي تزعم أن صاحب التعليق يعبر عن شريحة ما بين المصريين.
تدوينة نجم الكرة المصرية محمد صلاح خلال الاحتفال بأعياد الميلاد مع ابنتيه وزوجته صاحبتها تعليقات من بعض المنتقدين الذين يرون في مشاركة صلاح الاحتفال بـ"كريسماس" تغييراً في نمط صورة اللاعب المتمسك بالإسلام والعروبة في نظرهم.
واستغل بعضهم تلك التعليقات بمشاركتها للتحذير من تشدد يجتاح المجتمع المصري، وهو ما تكرر في تعليقات على تهنئة شيخ الأزهر أحمد الطيب قادة الكنائس بأعياد الميلاد، وغير ذلك كثير من وقائع تعميم بضع كلمات على أنها تعبير عن رأي عام بين شعب تخطى تعداده 104 ملايين نسمة، مما يطرح التساؤل في شأن مدى صحة الاعتماد على تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي كمعبر عن توجهات المصريين وآرائهم.
أنواع الجمهور
يرى عميد كلية الإعلام في الجامعة البريطانية محمد شومان أن مواقع التواصل الاجتماعي وتعليقات روادها لا يمكن اعتبارهما قياساً معبراً للرأي العام، ولا تعبران عن اتجاه الجمهور في قضية ما، موضحاً أن مواقع التواصل لا تعبر إلا عن رأي جمهور المستخدمين لها والنشطاء أصحاب الحضور الرقمي.
وشرح شومان لـ"اندبندنت عربية" أن جمهور مواقع التواصل الاجتماعي مقسم إلى ثلاث فئات "نشط، ومتابع، ومشارك منتج"، مؤكداً أنه لا توجد أي مراجع علمية تطرح إمكانية الاعتماد على الـ"سوشيال ميديا" في قياس الرأي العام أو الجمهور وتفضيلاته.
وأضاف أن "الأمر بسيط، فقط يحتاج إلى دراية بالطرق البدائية للإحصاء لإدراك فشل قياس الرأي العام بهذه الطرق، فستعرف أن نسب المشاركين والمتجاوبين على مواقع التواصل الاجتماعي لا تمثل شيئاً مقابل تعداد الشعب المصري".
وأعرب عن استيائه من اعتماد بعض الإعلاميين على مشاهدات وتعليقات وسائل التواصل الاجتماعي كوحدة قياس لنجاح برنامجه على سبيل المثال، مضيفاً أن مصر لديها أزمة في عدم وجود شركات خاصة أو أجنبية متخصصة في قياس نسب المشاهدة أو آراء الجمهور وتفضيلاته.
وأشار إلى أن الإعلام في بعض الأحيان يلجأ إلى مواقع التواصل لمعرفة توجهات الجمهور بسبب قلة آليات قياس الرأي العام في مصر، مطالباً المجلس الأعلى للإعلام بقيادة مبادرة لتوفير شركات متخصصة في قياس الرأي العام بجميع المجالات المختلفة، ونوه بأهميتها في كثير من الأحيان لصانع القرار أو حتى للشركات التجارية والمهتمين بالأبحاث الأكاديمية والمتخصصين في العمل السياسي والتوعوي.
ولفت إلى أن ذلك لا يعني اختراع العجلة من جديد، لأن قياس الرأي العام طريقته معلومة ومستخدمة في معظم دول العالم وأصبح أسهل مع تطور وسائل التكنولوجيا المختلفة من خلال شركات متخصصة، مؤكداً أن مختلف كليات الإعلام تصدر توصيات في هذا الشأن منذ أعوام، لكن لا يتم الالتفات إليها.
ندرة الشركات
تندر في مصر الشركات المتخصصة في قياس الرأي العام، حيث إن هناك بعض المراكز الأكاديمية مثل مركز بحوث الرأي العام التابع لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، أقدم وأكبر كليات الإعلام بالبلاد ومركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء، أما المراكز التابعة للقطاع الخاص، فأبرزها المركز المصري لبحوث الرأي العام "بصيرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الرئيس التنفيذي لمركز بصيرة ماجد عثمان أن عملية قياس الرأي العام تحتاج إلى وجود عينة أو هيكل يمثل طوائف المجتمع بجميع شرائحه ومستوياته العمرية والاجتماعية المختلفة، مؤكداً أن اتجاه الرأي العام لا يمكن قياسه بشكل دقيق اعتماداً على تعليقات الأشخاص عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً في مصر.
وأضاف عثمان لـ"اندبندنت عربية" أنه وفقاً للإحصاءات الرسمية، معظم مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعية من فئة الشباب الذين من الطبيعي أن يكونوا موجودين في طبقة اجتماعية أقرب إلى المتوسطة لتسهيل تواصلهم الدائم على تلك المواقع، من خلال امتلاكهم هواتف ذكية وإنترنت، وهما يشكلان كلفة اقتصادية مرتفعة حالياً على الطبقات الاجتماعية الأقل.
ولفت إلى أن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي لا يمثلون جميع الشعب المصري، وهي نقطة مهمة تقاس من خلالها مصداقية ردود الأفعال واستطلاعات الرأي التي مصدرها الـ"سوشيال ميديا" وحدها.
الرواج لا يعني الصحة
وأكد عثمان أن مواقع التواصل الاجتماعي يمكن استغلالها إعلامياً لإلقاء الضوء على بعض الظواهر والأفكار، لكنها لا تصلح مقياساً للرأي العام، موضحاً أن رواج أمر ما عبر مواقع التواصل وزيادة متابعيه لا يعنيان قوته أو نجاحه في حيازة شعبية لدى جموع المصريين، فربما تكون هناك فئة واحدة فقط هي المسؤولة عن هذا الرواج والنجاح وفقاً لاهتماماتها.
وأشار إلى أن الرأي العام به حال من الترقب والتركيز على قضية ما لفترة طويلة، بعكس طبيعة مستخدمي الإنترنت ومواقع التواصل حالياً الذين يهتمون بموضوع أو رأي لكن ينسونه سريعاً، مضيفاً "شئنا أم أبينا مواقع التواصل الاجتماعي أصبح لديها ثقل كبير داخل المجتمع في طل تراجع وسائل الإعلام المعروفة التي منحت الفرصة أيضاً لعدم الثقة بها، ووفقاً للإحصاءات صغار السن والشباب يجدون اهتماماً أكبر بالمواقع الجديدة وعزوفاً عن الإعلام في ثوبه القديم".
وفي شأن حاجة مصر إلى مراكز متخصصة لقياس الرأي العام، قال عثمان إنه بالفعل توجد مراكز لكن استمرارها أو زيادتها يحتاج إلى رغبة وطلب على معرفة الرأي العام وقياسه، مؤكداً أنه "أمر غير مطلوب في مصر".
الحسابات المزيفة
سبب آخر لعدم جدوى الاعتماد على تعليقات المتابعين كمصدر قياس للرأي العام أشار إليه عميد كلية الإعلام في الجامعة البريطانية، وهو الحسابات المزيفة وترويجها لآراء معينة، مشيراً إلى أن مصر عانت لأعوام وحتى الآن حسابات مزيفة سمتها كتائب إلكترونية لتنظيم الإخوان المصنف إرهابياً في مصر وتوجهاته ضد السلطات ونشر الإشاعات لزعزعة الاستقرار والأمن بالبلاد.
وخلال الأشهر التي سبقت صفقة بيع منصة التغريدات "تويتر" إلى مالكها الجديد إيلون ماسك، العام الماضي، تجادل ماسك والرئيس التنفيذي السابق لـ"تويتر" باراغ أغراوال حول نسب الحسابات المزيفة في المنصة، إذ قال ماسك خلال مؤتمر تكنولوجي إن الحسابات الوهمية تمثل 20 في المئة في الأقل، وربما تصل النسبة إلى 90 في المئة، فيما قالت الإدارة السابقة للمنصة إن الحسابات الزائفة تمثل أقل من 5 في المئة من إجمالي المستخدمين.
"ذباب إلكتروني"
برز في الأعوام الأخيرة مصطلح اللجان الإلكترونية على الإنترنت، يعني مجموعة أفراد ينتحلون هويات مزيفة للمشاركة على منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات لترويج رسائل معينة أو لاستهداف أشخاص.
خبير أمن المعلومات أسامة مصطفى قال إن هناك حالياً كثيراً من المؤسسات تعتبر مواقع التواصل مورداً مهماً لقياس الرأي العام، وبعضهم يستغلها من خلال حسابات مزيفة التي سماها "ذباب إلكتروني" لتضليل الرأي العام أو استغلاله بشكل أو بآخر، مشيراً إلى أن كل من يريد صناعة استطلاع رأي حقيقي عبر مواقع التواصل الاجتماعي ستواجهه أزمة تزييف الحسابات، بالتالي ستظهر نتائج غير مؤكدة، و"مهما فعلت لن يمكنك معرفة الأشخاص الحقيقيين في فضاء الإنترنت لسهولة تزييف الهويات وتدشين الحسابات المزيفة".
وأوضح مصطفى أن الشركات العالمية المالكة لمواقع التواصل الاجتماعي هي نفسها تستغل المستخدمين والزائرين عبر مواقعها من خلال منح بعض المعلومات والمنشورات إمكانية الانتشار مقابل تضييق الخناق على أخرى بهدف توجيه الرأي العام لقضايا تخدم أغراضها.
وأشار إلى أن الشركات يمكنها التحكم حتى في ما يقدم ويظهر لمستخدميها للسيطرة على تكوين أفكاره وآرائه، لافتاً إلى أنه على المستوى السياسي كثيراً ما تنفذ تلك الشركات استراتيجية خاصة لإظهار جوانب سلبية فقط عن حدث ووقائع ما أو العكس، لتحقيق وجهة نظرها الخاصة واستغلال ذلك في كسبها مزيداً من المؤيدين وهي أداة خطرة لاستغلال أدمغة المستخدمين والتحكم في تفكيرهم.
التأثير في المستخدمين
ولفت مصطفى إلى أن هناك أشخاصاً أيضاً يستغلون مواقع التواصل الاجتماعي لتنفيذ استراتيجية للتأثير في المستخدمين من خلال حسابات مزيفة توجه الرأي العام هي الأخرى نحو فكرة بعينها، وتهاجم معارضيها بشكل قوي وتحاول فضحهم حتى لو بنشر أكاذيب عن سمعتهم، مضيفاً أن عمليات الخداع أكبر تأكيد على عدم مصداقية الآراء والأفكار المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو أخذها على محمل الجد كأداة لقياس الرأي العام.
في يوليو (تموز) من العام الماضي، قال مسؤولون في "تويتر" إن الشركة تحذف أكثر من مليون حساب مزيف من منصتها يومياً، وأوضحت الشركة أن المراجعين البشريين يفحصون يدوياً آلاف الحسابات بشكل عشوائي مع استخدام مزيج من البيانات العامة والخاصة من أجل حساب نسبة الحسابات المزيفة وإبلاغ المساهمين بها.