منذ بداية القرن العشرين هزت العالم العربي عمليات اغتيال كثيرة غيرت مسارات الأحداث والتطورات وبدلت في تاريخ المنطقة، معظم هذه الاغتيالات تم بالرصاص قبل أن تتحول إلى عمليات تفجير، وأكثرها كان نتيجة الصراع السياسي.
"اندبندنت عربية" تفتح بعض ملفات هذه الاغتيالات، وخلال هذه الحلقة نتناول قضية اغتيال الرئيس رياض الصلح بالأردن، وهو رئيس الحكومة اللبنانية الأولى بعد الاستقلال في عام 1943، وواضع الميثاق الوطني مع رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري.
تعرف الرئيس رياض الصلح إلى رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة في عام 1937 قبل أن يغادر الأخير إلى أميركا الجنوبية عام 1938، وبعد عودته سنة 1947 انتقد هزيمة الأنظمة العربية في حرب فلسطين 1948 وهاجم القومية العربية، وقال إنها فشلت. ودعا إلى القومية السورية بديلاً عنها، وفهم القوميون العرب كلامه بأنه دعوة إلى تقسيم العالم العربي خدمة لأهداف الغرب.
بعد انقلاب حسني الزعيم في سوريا 31 مارس (آذار) 1949، وتقرب سعادة منه، ومع الحديث عن أن الزعيم كان يؤمن بأفكار سعادة وحزبه، خافت السلطة اللبنانية من أن يشجع الانقلاب في سوريا على الانقلاب بلبنان، لذلك سارعت هذه السلطة إلى إعدام سعادة في 8 يوليو (تموز) 1949 بعد الانقلاب الفاشل الذي قاده ضدها، وبعد أن اعتقله حسني الزعيم وسلمه إليها.
حمل القوميون الرئيس رياض الصلح مسؤولية إعدام سعادة لأنهم اعتقدوا أنه لعب دوراً رئيساً في حمل حسني الزعيم على تسليمه من خلال علاقته القوية بكل من الملك عبدالله في الأردن، والملك فاروق في مصر، وأنه لولا تدخلهما لما كان الزعيم سلم سعادة.
دفع رياض الصلح ثمن إعدام سعادة مرتين، الأولى عندما حاول توفيق حمدان من الحزب القومي اغتياله في 9 مارس 1950 وأخطأه، والثانية عندما اغتاله ثلاثة مسلحين من الحزب في الأردن في 16 يوليو 1951 بعد زيارة شخصية للملك عبدالله بناءً على دعوة وجهها إليه، وهم ميشال الديك ومحمد صلاح وسبيرو حداد.
في المحاولة الأولى كان الصلح لا يزال رئيساً للحكومة، أما عندما حصلت الثانية فكان قد اختلف مع الرئيس بشارة الخوري وخرج من الحكم.
المحاولة الفاشلة
"الساعة السادسة والنصف من مساء الخميس 9 مارس 1950، وبينما كان رياض الصلح رئيس مجلس الوزراء يدخل دار آل الغلاييني بمحلة الصنائع في بيروت لحضور حفلة جمعية عائلية دعي إليها منذ أيام، أطلق عليه المدعو توفيق رافع حمدان من عين عنوب عمره (23 سنة) عيارات نارية عدة فلم تصبه، إنما أصابت ولدين توفيا، كما أصابت شخصين بجروح طفيفة.
وفور وقوع الاعتداء اندفع الصلح نحو الجاني الذي حاول الفرار وهو مستمر في إطلاق الرصاص، فلحق به وتم القبض عليه.
وظل رياض الصلح في مكانه بعد مرور الحادثة ودخل الاجتماع وحضر الحفلة إلى نهايتها، أما الجاني فقد سلم إلى القضاء للتحقيق معه، وفق البيان الذي صدر عن الحكومة اللبنانية.
شهود عيان كانوا نقلوا أن الرئيس الصلح عندما ترجل من السيارة اشتبه في شاب يقف على بعد أربعة أمتار منه وبيده مسدس فصرخ بمن حوله طالباً القبض عليه، لأنه يريد أن يقتله وفجأة انطلق الرصاص وحصل ما حصل.
منذ إعدام سعادة تربص القوميون بالرئيس رياض الصلح، وقد زادت محاولة اغتياله التباعد بينه وبين الرئيس بشارة الخوري، خصوصاً بعد أن ازداد نفوذ شقيقه سليم، الذي كان يتدخل في الحكم، الأمر الذي ولد استياء عند الرئيس الصلح فقدم استقالته في 14 فبراير (شباط) 1951.
دعوة إلى الأردن
كانت تربط الصلح علاقة صداقة مع العاهل الأردني الملك عبدالله، الذي كان ابن شقيقه فيصل الأول الملك فيصل الثاني يحكم العراق في ظل وصاية خاله الأمير عبدالإله.
في أبريل (نيسان) 1951 أرسل الملك عبدالله رسولاً إلى الرئيس الصلح يدعوه إلى زيارته لأمر مهم، لكنه اعتذر متذرعاً بكثرة مشاغله.
في أواخر يونيو (حزيران) كرر الملك عبدالله المحاولة عندما اتصل بالرئيس الصلح، وألح عليه بطلب الحضور إلى عمان للاجتماع به ليبحث معه قضايا وطنية كبرى لا يمكنه أن يحكيها له على الهاتف، ويريد أن يكلفه بمهمة خاصة لا يأتمن أحداً غيره عليها.
في 13 يوليو استقل الرئيس رياض الصلح الطائرة وتوجه إلى عمان يرافقه الدكتور نسيب البربير والصحافيان محمد شقير وبشارة مارون ومرافقه عبدالعزيز العرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هبطت الطائرة بمطار المفرق، حيث استقبله رئيس الحكومة الأردنية بحفاوة وانتقل معه إلى قصر الملك في بسمان، كان الملك في انتظاره فاستقبله مع الوفد قبل أن يلتقيه وحده في المساء ويعقد معه جلسات في اليومين التاليين أحيطت بالسرية والكتمان.
لكن قيل في ما بعد أن الملك ألح في دعوة الصلح، لأنه اعتبر أنه يتمتع بثقة الزعامات العربية وأنه يمكنه لعب دور مهم في تحقيق الوحدة بين الأردن والعراق، فالملك كان خائفاً على استمرارية العهد الهاشمي.
ففي العراق ولي العهد الأمير فيصل الثاني كان قاصراً وخاضعاً لولاية خاله الأمير عبدالإله، وفي الأردن كان الملك خائفاً من أن يؤول الحكم إلى ابنه طلال أو ابنه نايف، وكان يريد أن يتسلم الحكم ابن طلال الأمير حسين، لكنه كان قاصراً أيضاً، ولذلك طرح توحيد الحكم بين العراق والأردن بحيث يؤول الحكم من بعده إلى الأمير فيصل حفيد شقيقه فيصل الأول.
الاغتيال على طريق المطار
قبل عودته إلى لبنان اتصل الرئيس الصلح بعائلته ووعدهم ببشرى سارة، كان الوفد ينزل في فندق فيلادلفيا، وقبل العودة تلقى الرئيس الصلح مصافحة الوداع في بهو الاستقبال بالفندق، وخلال ذلك تقدم منه رجل لم يعرفه وصافحه، سأل الحاضرين إذا كانوا يعرفونه فأنكروا ذلك.
انتهى الوداع واستقل الرئيس الصلح والدكتور نسيب البربير ومرافقه عبدالعزيز العرب سيارة الملك التي قادها سائقه الخاص وسارت أمامه دراجة نارية، بينما سارت وراءه سيارة تقل الصحافيين محمد شقير وبشارة مارون، إضافة إلى سيارة عسكرية أردنية.
وعندما وصل الموكب إلى محطة السكة الحديدية على طريق المطار ظهرت سيارة مسرعة بداخلها ثلاثة ركاب، وتجاوزت السيارة التي تقل شقير ومارون وعندما أصبحت بموازاة سيارة الملك التي تقل الرئيس الصلح أطلق أحد الثلاثة النار على الرئيس الصلح فأصابه في قلبه ورأسه، مما أدى إلى مقتله على الفور، كما أصيب نسيب البربير في ظهره ونتيجة ذلك توقفت السيارة، فيما أكملت سيارة الجناة مسرعة.
تتعدد الروايات حول ما حصل بعد ذلك، يقال إن مرافق الرئيس الصلح عبدالعزيز العرب رد على مطلقي النار وأصاب أحدهم، لكن الرواية الأقرب إلى التصديق تقول إن السيارة العسكرية الأردنية التي كانت ترافق الموكب تبعت السيارة التي فر فيها الجناة، وأطلق العسكريون الأردنيون عليها النار فأصابوها وجرحوا أحد ركابها فتعطلت وتوقفت.
كان في هذه السيارة ثلاثة من الحزب السوري القومي الاجتماعي، اللبناني ميشال الديك الذي أصيب فوراً والأردني محمد صلاح الذي أطلق النار على الرئيس الصلح مع ميشال الديك من مسدسين أوتوماتيكيين، والفلسطيني سبيرو وديع حداد الذي كان يقود السيارة.
وبعد توقف السيارة ترجلوا منها وحاولوا الهرب عبر الصحراء، لكن الديك كان أصيب في فخذه ولم يقو على السير فطلب من محمد صلاح أن يقتله حتى لا يتم اعتقاله وأن يهرب مع سبيرو حداد، فأطلق عليه صلاح طلقة في رأسه.
وقبل أن يتمكن صلاح من اللحاق بحداد كان عدد من الجنود الأردنيين وصلوا إليه فأطلق النار على صدره محاولاً الانتحار، لكنه لم يمت فاعتقل ونقل مع الديك إلى المستشفى الإيطالي الذي نقل إليه الرئيس الصلح ونسيب البربير.
لكن محمد صلاح، وبعد أن كان خضع لعملية جراحية بهدف إنقاذ حياته للتحقيق معه ومعرفة تفاصيل الخطة، عاد وأقدم على الانتحار داخل المستشفى فضاعت الوقائع والاعترافات.
ونتيجة مقتله مع الديك وتمكن الثالث سبيرو حداد من الهرب بقيت أسرار عملية الاغتيال مخفية إلا من خلال رواية الأحداث التي تمت مشاهدتها، خصوصاً أن الملك عبدالله اغتيل بعد أربعة أيام.
من اتخذ القرار؟
لا توجد رواية واضحة للطريقة التي اختفى فيها سبيرو حداد، فهناك روايات تقول إنه تمكن من الوصول إلى سوريا حيث كانت لجأت قيادة الحزب القومي بعد فشل محاولة الانقلاب في لبنان وبعد إعدام زعيم الحزب أنطون سعادة.
بينما هناك معلومات تتحدث عن وجود مؤامرة كبرى وتقول إنه لجأ إلى قاعدة عسكرية بريطانية أخفته وهربته، معتبرة أن الحزب السوري القومي الاجتماعي كان يعمل لمصلحة الاستخبارات البريطانية.
لكن ما مصلحة بريطانيا في اغتيال الرئيس الصلح؟ يبقى أنه من شبه المؤكد أن حداد التجأ في النهاية إلى البرازيل وبقي فيها.
الساعة الثامنة مساء أعلنت إذاعة بيروت النبأ بعد أن نعى الملك عبدالله الرئيس الصلح فحصلت أعمال شغب في بيروت بعد أن سارت تظاهرات مستنكرة ما حصل.
وصباح اليوم التالي نقل نعش الرئيس الصلح إلى مطار بيروت واستقبلته حشود شعبية وكان ملفوفاً بالعلمين اللبناني والأردني ودفن بعد الظهر في الأوزاعي، لكن القضية لم تدفن معه ومع قاتليه اللذين قتلا وظل السؤال عن المحرض المباشر الذي طلب تنفيذ العملية وعن طريقة التحضير لها من دون جواب، فلا يعقل أن يكون الثلاثة المشتركون في العملية هم الذين خططوا ونفذوا.
من وجهة نظر عادية وتحليلية للعملية يمكن القول إن عملية من هذا النوع وبهذا الحجم لا يمكن أن تتم من دون تخطيط دقيق ومن دون قرار كبير، فما الذي يجمع بين ميشال الديك اللبناني ومحمد صلاح الفلسطيني وسبيرو حداد الأردني؟
المعروف أنهم كانوا قوميين سوريين وحتى إذا كانوا يعرف بعضهم بعضاً من خلال الانتماء إلى الحزب، فمن هو الذي جمعهم في هذه العملية؟ ومن وفر لهم المعلومات حول انتقال الرئيس الصلح إلى الأردن وحول مكان وجوده وحول توقيت عودة موكبه إلى المطار، خصوصاً أنه لم يكن من السهل التنقل بسهولة وبسرعة بين لبنان وسوريا والأردن.
ما عرف أنه كان هناك اتفاق بينهم على أن يقود حداد السيارة ويتولى الديك وصلاح إطلاق النار، وأنه يجب ألا يقع أحد في الأسر، ولذلك أجهز صلاح على الديك الجريح وانتحر بعد ذلك.
وثمة معلومات تم التداول بها لاحقاً بين القوميين تقول إن قيادة العملية كانت لصلاح، بينما روايات أخرى قالت إنها كانت للديك، الذي كان يخطط لاغتيال الصلح وكان يراقبه في بيروت وأنه تعرف إلى صلاح في الأردن من خلال كلمة سر.
إن عملية مركبة من هذا النوع يصعب أن تكون بنت ساعتها ويستبعد أن يكون القرار فيها فردياً، لأنها تحتاج إلى تمويل وسرعة في التحرك وتوفير السلاح والتنسيق بين المنفذين ومعرفة معلومات حول تحرك الرئيس الصلح، خصوصاً أنه لم يكن زائراً عادياً، بل في ضيافة الملك، وكان في موكب ملكي عائداً إلى المطار.
كما لم يكن معلوماً على نطاق واسع أن الرئيس الصلح سيزور الملك عبدالله في الأردن، وحتى لو علم الثلاثة بذلك فكيف كان بإمكانهم أن يتفقوا مع بعضهم بعضاً وأن يلتقوا وينسقوا ويحضروا الأسلحة ويدفعوا كلف السفر والإقامة ويحددوا مواعيد تنقلات الرئيس الصلح ويؤمنوا سيارة سريعة تتمكن من تجاوز موكبه.
وما زاد القضية غموضاً اغتيال الملك عبدالله في 20 يوليو في المسجد الأقصى، فهل كان ثمة رابط بين الاغتيالين؟