بعد ليلة ماطرة في القاهرة وزعت مؤسسة ساويرس الثقافية جوائز دورتها الثامنة عشرة، وتلقى الفائزون جميعًا تهاني الأصدقاء والزملاء ما عدا الروائي شادي لويس الفائز في فئة كبار الكتاب، عن روايته "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" الصادرة عن دار العين.
كتب شادي تدوينة غريبة ومثيرة للجدل جاء فيها: "ممتن لكل التهاني... وسعيد بالتأكيد بالخبر وممتن للجنة الجائزة على اختيارها". هذا كلام لا غبار عليه لكنه أضاف: "سأحتفظ بالجايزة لليلة واحدة، وفي الصباح هاكتب لإدارة الجايزة أعلن عن تنازلي عنها مادياً ومعنوياً، وأطلب منهم شطب إسمي من قوائم الفائزين بيها". هل يُفهم من ذلك قبوله لها لليلة واحدة ثم رفضها نهائياً؟
كل تصريحاته وما نشره على صفحته يشير إلى أنّ لديه موقفاً معلناً ومكتوباً من الاقتصاد السياسي للثقافة ومن ضمنه الجوائز، وبناء عليه رفضها مع احترامه لزملائه الفائزين.
وأكد لويس المقيم في لندن، أن كتابة الرواية بالنسبة إليه هواية وليس لديه طموحات مهنية في ما يخصّ الأدب. وإذا كان متحفظًا عن فكرة الجوائز ويراها سلبية، فلماذا وافق على الاشتراك في الأساس؟ برر ذلك بأنه تستهويه إثارة الجدل والقلاقل والزوابع الصغيرة بروح ساخرة في معظم الوقت وأضاف: "لا أمانع أن يرشح الناشر إحدى رواياتي لجائزة بعينها (أهاجمها طول الوقت) بدافع الفضول، وربما على أمل شبه مستحيل بالفوز بها حتى أرفضها علناً".
رفض صنع الله ابراهيم
أعاد موقف لويس إلى الأذهان رفض الروائي صنع الله إبراهيم الشهير لجائزة "مؤتمر الرواية العربية" عام 2003، وكان رفضاً مسيساً بحيث حضر الاحتفال وأعلن بيانه واعتراضه على نظام مبارك.
لكن صاحب "على خط غرينتش" أعلن أنه لا يسير تماماً على خطى صنع الله ، ولم يصدر بياناً مسيساً، يدين السلطة الثقافية أو حتى إدارة الجائزة، وإنما اكتفى بالقول: "لستُ أكثر وقارًا من صنع الله إبراهيم مثلًا. وهو فعل شيئاً مشابهاً، وأجد ما فعله مثيراً للإعجاب وملهماً، أي تحويل طقوس الرعاية والاعتراف التي تفرضها مراسم الجوائز إلى إعلان تمرد وإدانة".
ولأن رفضه افتقر للإطار والبيان السياسي، كما فعل مُلهمه، لم ينظر البعض إلى تصرفه كموقف بطولي، بل أقرب إلى الألعاب الصبيانية، وهناك من انتقده لأنه بهذا، حجب الجائزة عن زميل آخر كان جديرًا بقيمتها الأدبية والمادية. وهناك من أيده في موقفه مثل الكاتبة منى أنيس التي اعتبرت ما فعله إلقاء حجر في المياه الراكدة، بينما فسر الناقد والأكاديمي أحمد مجاهد بأنه يقف على "يسار اليسار المصري ويرفض تدجينه". آراء أخرى دعت الكاتب إلى قبولها وتخصيص قيمتها (مئة وخمسون ألف جنيه، حوالى ستة آلاف دولار) لنشاط ثقافي وفق رؤيته.
تناقض واتساق
هناك من وصف تصرفه بعدم "الأخلاقية" لأنه قبل المشاركة والشروط وأُخبر قبل الحفل بالفوز. وفي المقابل ثمة من اعتبر ما قام به أمراً طبيعًاً لأن الجوائز الآن باتت تشترط على المبدعين تقديم ما يثبت رسمياً قبولهم لها في حال الفوز. فكان عليه مجاراة هذا الشرط المتعسف للنهاية، قبل أن يصدم الجميع برفضها عقب حفل الإعلان.
ما الذي يحدد أخلاقية الفعل؟ هل هو اتساقه مع قناعات الآخر أم مع الذات؟ شادي سبق أن أعلن أنه لا يفصل الجوائز عن مواقفه الأخلاقية التي هي سياسية بالضرورة. لأننا لا يمكن أن نفصل بين الجمالي والأخلاقي. وطرح أسئلة حول من يمنح الجائزة؟ وباسم مَن؟ ولماذا؟ يعني هل نقبل جائزة باسم ديكتاتور مثلاً؟ أو من أرباح تجارة السلاح؟
إنه لا يدعي المثالية ولا الاستعلاء، وإنما فقط يفضل أن تتناسب الجائزة مع مرجعيته الأخلاقية/السياسية. من ثم جاء رفضه متسقاً مع ذاته ومرجعيته، والعكس لو كان قبلها.
حق الرفض
ما فعله شادي لويس يثير أموراً عدة تتعلق بفلسفة الجوائز وآلياتها وحق الكاتب في قبولها ورفضها.
هناك أمثلة لا بأس بها عن كتاب كبار رفضوا جوائز أكثر أهمية، ومردوداً مادياً ضخماً، منهم جان بول سارتر الذي رفض جائزة نوبل عام 1964، كما رفضها وسخر منها برنارد شو عام 1925، لعدم إيمانه بأهمية جائزة نوبل، ثم عاد وتسلمها في العام التالي، من دون أن يقبض قيمتها المادية. أما سارتر فعاد وطالب بقيمة نوبل المادية فقط، فرفض طلبه. الإسباني خوان غويتيسولو رفض جائزة القذافي عام 2009 رغم ضخامتها المادية وبرر ذلك بأسباب أخلاقية وسياسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن الرفض هو الاستثناء، فدائمًا ما يثير ضجيجاً لا يهدأ. أليس من حق الكاتب أن يعبر بمطلق الحرية عن قبول أو رفض أي جائزة؟ أليس من حقه أن يستثمرها كحدث احتفالي لتمرير رسالة ما؟ ألم يرفض الممثل الأسطوري مارلون براندو جائزة الأوسكار المرموقة؟ وبدلًا من أن ينسحب، أرسل ممثلة تنتمي إلى الهنود الحمر ألقت بياناً احتجاجياً بأن براندو للأسف الشديد، لا يمكنه قبول الجائزة، لاحتجاجه على تصوير هوليوود للأميركيين الأصليين في الأفلام. عن أي حرية يتحدث المبدع في إبداعه إذا كان لا يستطيع أن يعيشها ويمارسها في مواقفه المختلفة؟ ألا يجب على الآخرين أن يحترموه كما عبر عن موقفه تماماً، بلا انتقاص أو مزايدات؟
قد يشجع موقف لويس إدارات الجوائز على إسقاط شروطها التعسفية مثل إقرارات القبول مسبقاً، بعدما ثبت تهافتها. وكذلك إصرارها على أن يترشح المبدع بنفسه وكأنه يتقدم لطلب "صدقة"، ويكفي أن ترشح دور النشر أو لجان التقييم أو حتى تصويت الجمهور، بما يضمن عدالة ثقافية أكبر.
إدانة جائزة ساويرس
هل يعد ما فعله شادي إدانة لجائزة ساويرس؟ ظاهراً هو وجه الشكر لإدارة الجائزة والمحكمين، وكان لويس لطيفاً في تصريحه وساخراً إلى درجة أنه نشر تدوينة تالية مرحة عن اعتراض والدته التي طالبته بقبول قيمتها المادية والتبرع بجزء منها.
لا شكفي أن جائزة ساويرس وعلى مدى يناهز عقدين، قدمت عشرات المبدعين والنصوص المهمة. ويصعب التنكر لتأثيرها الإيجابي، لكن هذا لا ينفي ما يُقال حولها من ملاحظات سلبية في العلن والكواليس، مثل هيمنة أسماء معينة على لجان التحكيم سنوياً، ومنح جائزة النقد الأدبي لصحافيين، وتكرار أسماء الفائزين والمرشحين المرتبطين بمركزية القاهرة.
قد يساهم تصرف شادي في مراجعة آليات الجائزة ويطورها إلى الأفضل. لكن يبدو أن "رفض" جائزة أو هدية أو عطية، في ثقافتنا العربية يبدو سلوكاً عدوانياً وجارحاً وربما يُعاقب من يفعله. وهذا يفسر طلب محمد أبو الغار رئيس مجلس أمناء الجائزة من الكاتب أن يمسح تدوينة الرفض! فهل من حقه أن يحدد للكاتب ماذا يكتب في صفحته الشخصية؟ هل صفته كمانح تعطيه وصاية على الفائزين؟ ألا يبدو طلبه عدوانياً ينتقص من حرية الكاتب؟
فعل شادي لويس ما اعتبره متسقاً مع مرجعيته "الأخلاقية" وبالطريقة التي رآها مناسبة، غير منتظر صوابية الآخرين. وكان واعياً في تدوينته أن الناشرين لن يقدموا أعماله لاحقًا لأي جائزة. وبالتالي سوف يخسر بعض "الإثارة الموسمية".