قالوا عنها إنها صمام الأمان، ووصفوها بـ"رمانة الميزان"، وأكدوا أن وجودها ضمان للتنمية الاقتصادية وتوثيق للسلم الاجتماعي ودعم لما تحتها من طبقات وحماية لما فوقها من فئات.
حتى أزمنة قريبة مضت، كان أبناؤها وبناتها يزهون بأنفسهم ويعتدون بمكانتهم ويثقون في قدراتهم وإمكاناتهم التي تضعهم في بؤرة المجتمع وقلب اهتمامه وجل احترامه. فلا هم يعانون في قاعدة الهرم حيث حلقات مفرغة من الفقر وتشابكات معقدة من عادات ضارة وتقاليد بالية ومفاهيم تدفع بعضهم نحو مزيد من العوز، ولا هم رابضون أعلى الهرم حيث أبراج الأغنياء المخملية ومشكلاتهم المتعلقة بمستوى الرفاهية.
طبقة قليلة الحظ
لكن لسبب أو لأسباب ما، يبدو أن أبناء وبنات هذه الطبقة قليلو الحظ. فعلى مدار ما يزيد على نصف قرن تجد مكونات الطبقة المتوسطة في مصر نفسها الأكثر سداداً لفواتير مصر السياسية وكلفة مشكلاتها الاقتصادية، واحتياجات الفقراء والمحتاجين الناجمة عن كثرة إنجاب الأطفال مع قلة أو انعدام محركات الاقتصاد.
هبات وأنواء تعصف بهذه الطبقة اللطيفة المسالمة قليلة الطلبات منخفضة الصوت واسعة الصدر كثيرة الصبر على مدار عقود طويلة. حيث تقبع هذه الطبقة في منطقة وسط بين انفصال الأثرياء عن الواقع واحتياجاته، وانفصال الفقراء عن الواقع وإمكاناته، وتتباهى بأنها الأكثر اتصالاً بالمجتمع واحتياجاته والطبقات وقدراتها، وذلك لنوعية التعليم الجيد الذي تتلقاه، مع محدودية نسبية للدخل حيث لا تملك سوى رواتبها حتى وإن كانت مرتفعة، وعزة نفس لا تسمح لها بالسعي للحصول على بطاقة تموين مخصصة للأكثر احتياجاً أو مساعدة استثنائية على سبيل التكافل، فمفهومها عن الكرامة يبدأ بالاكتفاء الذاتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موقع "تكافل وكرامة" المنضوي تحت مظلة وزارة التضامن الاجتماعي يشهد تسللات سرية من قبل منتمين ومنتميات لهذه الطبقة على سبيل العلم بالشيء. فالأمور تسير من الصعب إلى أكثر صعوبة، وغلاء المعيشة يقفز من خانة المرتفع إلى بالغ الارتفاع.
"تكافل وكرامة" هو برنامج التحويلات النقدية المشروطة الـذي أطلقـتـه وزارة التضامـن الاجتماعـي تحـت مظـلة تطوير شبكات الأمان الاجتماعـي في مصر تحت عنوان جميل هو "مصر بلا عوز"، لكن شروط الاستحقاق لا تتوافر وأحكام الانتفاع لا تطبق. فالرواتب نظرياً مرتفعة، ونظام ما للتأمين يشملهم، وبقية الشروط تحول بينهم وبين البرنامج وغيره.
يد العون
برامج عديدة في مصر تم تدشينها على مدار العقد الماضي لتقديم يد الدعم أو العون أو العلاج للفئات الأكثر احتياجاً وليس أقلها. وأحداث وحوادث كثيرة مرت بها البلاد على مدار هذه السنوات، بدءاً بأحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 التي أثرت سلباً في اقتصاد البلاد ومواردها بشكل عام، مروراً بتوترات أمنية وحوادث إرهابية نالت من قطاعات عدة مثل السياحة والخدمات، وانتهاء بعامين من إغلاقات "كوفيد-19" ثم حرب روسيا على أوكرانيا التي نالت أكثر ما نالت من هؤلاء القابعين في منتصف الهرم.
يقول المثل الشعبي (بتصرف) إن الطبقة المتوسطة أشبه بمن وقف على السلالم، فلا القابعين فوقهم من الأثرياء رأوهم ولا الرابضين تحتهم من الفقراء سمعوهم. وهذه حال هذه الطبقة التي كانت لطيفة بحكم تكوينها وسماتها وأثرها، ثم تحولت تعيسة لأنها الأكثر والأسرع تأثراً بالتقلبات والتغيرات، ثم باتت منكوبة في الأسابيع القليلة الماضية.
يقرأ المهندس ماجد فوزي (49 سنة) خبراً فرض نفسه عليه عبر "غوغل" لتترقرق الدموع في عينيه تأثراً. الخبر منقول عن "فيتش سولوشينز" المتخصصة في تحليل المعلومات والأرقام الاقتصادية، ويتوقع انتعاشاً في دخول الأسر المصرية مع حلول عام 2025. وهو متخم بأرقام مبهجة و"إنفوغراف" تتجه منحنياته الإيجابية للارتفاع وجداول مقارنته بين الماضي والمستقبل تنحاز للأخير. فمتوسط الدخول في مصر سيرتفع، والنمو الاقتصادي سيزيد، والتضخم سيستقر، ونسبة الأسر التي يزيد دخلها السنوي على 390 ألف جنيه ستزيد إلى 11 في المئة عام 2025، مقارنة بنحو 4.6 في المئة عام 2021. والطبقة المتوسطة المصرية التي يتراوح دخلها السنوي بين 78 و156 ألف جنيه (2.82 و5.65 ألف دولار) مما يجعلها أسرع الطبقات نمواً في العالم، ستكون نسبتها في عام 2025 بمصر 58.2 في المئة مقارنة بـ34.3 في المئة عام 2021.
الجنيه المغدور
لكن الجنيه المصري المغدور وقت صدور تقرير "فيتش سولوشنز" في أبريل (نيسان) كان "بصحته" على رغم توعكه النسبي. وكان الدولار الأميركي حينئذ يساوي 15.6 جنيه. ووقت قراءة الخبر وصل السعر إلى 27.2 جنيه.
شعر فوزي الذي اكتفى وزوجته المهندسة أيضاً بطفلين حتى يتمكنا من إلحاقهما بمدرسة جيدة ومنحهما فرصة الاشتراك في ناد رياضي بالارتياح. فعلى رغم الخبطات الكثيرة التي تلقتها الأسرة على مدار العقد الماضي فإنها نجحت في البقاء على قيد الطبقة المتوسطة. صحيح تم نقل الولدين إلى مدرسة أخرى مصروفاتها أقل نسبياً من الأولى بعد أن فقد فوزي عمله في الشركة الأجنبية التي قلصت نشاطها في مصر، وصحيح أن الأسرة قررت بيع الشاليه الصغير الذي تملكه في العين السخنة وقت التحاق الابن الأكبر بجامعة خاصة بينما كان الأصغر في الثانوية العامة بما يتطلبه ذلك من معدل إنفاق بالغ الارتفاع، لكن الخبطة التي تدور رحاها حالياً غير مسبوقة.
عماد وتنمية وصمام
سبق أن تقدمت عضو مجلس النواب المصري صفاء جابر عيادة بطلب إحاطة موجه إلى رئيس الوزراء مصطفى مدبولي حول أوجاع الطبقة المتوسطة في السنوات القليلة الماضية. قالت عيادة في طلبها إن الطبقة المتوسطة هي عماد التنمية الاقتصادية وصفوة الموارد البشرية الفعالة وصمام الأمان في أي مجتمع. وأضافت أن هذه الطبقة تدرك أنها باجتهادها ستحقق ذاتها وتجد لنفسها مكاناً في المجتمع. وقالت أيضاً إنها الطبقة التي تسعى دائماً صوب مستقبل أفضل لها ولأبنائها ويخرج منها المهندس والطبيب والضابط والمعلم والمحامي والمهني المجتهد.
ومضت عيادة في سرد مناقب الطبقة التي "تتحمل المسؤولية الاجتماعية عن كاهل الدولة في دعم المؤسسات الخيرية والجمعيات الأهلية بما تقدمه من مشاريع خيرية ومساعدات مادية وعينية للطبقات الفقيرة والمعدمة.
ثم انتقلت النائبة مما يفترض أن يكون نحو ما تحول إليه الواقع الأليم، إذ تعاني الطبقة المتوسطة حالياً أشد المعاناة في أهم مجالات المعيشة وعلى رأسها الصحة والتعليم والسكن، بعد أن تراجعت دخولها وزدادت ضغوطها، وهي الآن تصارع من أجل البقاء بعد أن أصبحت على مشارف الانقراض.
وطالبت النائبة بتوفير حزمة من برامج الحماية الاجتماعية للطبقة المتوسطة حفاظاً على بقائها وكذلك من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع واستقراره، مشيرة إلى أنها الطبقة الأكثر فهماً ووعياً بما يشهده الوطن من إنجازات وما يدور في الداخل من تحديات.
وبعيداً من أن طلب الإحاطة هذا يعود إلى نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولم ينتج منه رد أو تفاعل أو تحرك ما، فإن الدولار وقتها كان يساوي 24.1 جنيه مصري.
حال يرثى لها
الأسر المصرية المصنفة متوسطة في حال نفسية وعصبية واجتماعية وبالطبع مادية يرثى لها. فمن جهة ما زال أغلب هذه الأسر ممسكاً بتلابيب مستويات بعينها للحصول على خدمات تعليمية وصحية وسكنية، مع تقلص هوامش الترفيه والرفاهية مثل تجديد السيارة أو القيام برحلة أو شراء جبن شيدر أو زيت زيتون أو أكل قطط معلب، هذا التقلص مدفوع بنسبة تضخم كسرت حاجز 30 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ودفعت بأسعار السلع الرئيسة إلى زيادات غير مسبوقة وصل بعضها إلى أكثر من 50 في المئة مثل الحبوب والخبز، ونحو 41 في المئة للألبان والبيض والجبن.
أما الإمساك بتلابيب مستويات معقولة في التعليم والصحة والخدمات تليق بـ"رمانة الميزان" و"صمام الأمان"، فيتعرض لهزة عنيفة تهدد قدرته على الاستمرار في المقاومة واستدامة المحاولة.
يحاول م. أ (42 سنة) على مدار ما يزيد على عامين أن يؤمن دخلاً ثابتاً لأسرته بعد أن ولى "عصر الفضائيات الذهبي". فبعد سنوات من العمل أمام وخلف الكاميرا في عدد من القنوات الفضائية الخاصة، تقلص المشهد حتى وجد نفسه من دون دخل تقريباً، وإن ظل محتفظاً بعمله كصحافي في مؤسسة قومية لا يكفي راتبها مصاريف أسرته لمدة أسبوع.
ملابس رائعة
يقول م. أ على سبيل السخرية من نفسه ومن الموقف الآني "أرتدي ملابس رائعة، وكذلك زوجتي، لأن وزننا لم يتغير ولله الحمد. أما أبنائي ولأنهم في سن النمو فإنني أتسلل إلى وكالة البلح (سوق شعبية لبيع الملابس المستعملة) لأشتري لهم الملابس التي نغسلها جيداً ونكويها لتبدو جديدة. أما مصروفات المدارس واحتياجاتها فقد أمنت المتطلبات الأساسية للفصل الدراسي الحالي بما تبقى من مدخرات، وليس لدي أدنى فكرة عن وضعي ووضعهم ووضع الفصل الدراسي المقبل".
الخطوة المقبلة المحددة لمصير الطبقة المتوسطة في مصر غير معروفة لا لأبناء هذه الطبقة ولا للمهتمين بها ولا للمراقبين. الأرقام تقول إن الغالبية العظمى من المصريين خسرت ما يزيد على ثلث قوتها الشرائية في الأشهر القليلة الماضية. تراجع الجنيه المصري مستمر، وارتفاع الأسعار محلياً وعالمياً يتواصل، وحرب روسيا على أوكرانيا وعزوف الاستثمار الأجنبي عن الدخول بقوة في السوق المصرية يتتابع ووضع القطاع الخاص وقدرته وإمكاناته على المساعدة في دفع الاقتصاد بعيداً من هامش الخطر غير واضحة.
طبقات طافية
الواضح أن استمرار بل وزيادة برامج الدعم الحكومية المقدمة للفئات "المستحقة" يبقيها طافية. كما أن تحسين مستويات أجور ورواتب العاملين في الدولة يبقيهم في حماية "سترة النجاة"، لكن القطاع العريض من الطبقة المتوسطة التي لا يعمل أبناؤها في مصالح ومؤسسات الدولة، الذين لم تتحرك رواتبهم أو تحركت ولكن بسرعة النملة مقارنة بصاروخ الأسعار، مطالب بمضاعفة أجر عاملة النظافة والبواب (الأمن) وعداد "أوبر" وسعر "الكابتشينو" وقيمة بقشيش "السايس" وعامل "الدليفري" ونادل المطعم، ناهيك بجنون عن أسعار السلع ونيران مصروفات الخدمات المتصاعدة من دون هوادة أو تحديد.
الحكومة المصرية قالت منتصف الشهر الماضي إنها بصدد تحديد أسعار 15 سلعة أساسية كخطوة طال انتظارها وتأخر اتخاذها من الدولة "للقضاء على جشع التجار". لجنة عليا، ولجان فرعية، واجتماعات مع الهيئات، لكن قائمة السلع لم تعلن بعد. والطريف أن ما تم إعلانه والالتزام به هو إلزام التجار بوضع الأسعار على السلع وإلا تعرضوا للعقوبة، وهو ما حدث فعلاً، لكن بين السلع الأكثر طلباً مثل الأرز الذي يعاني شحاً شديداً في العرض.
الجميع تأثر
الأسعار أثرت في الجميع بمصر. وكثيرون يلمحون إلى أثر "قرض الصندوق" الأحدث الذي حصلت مصر على الموافقة في شأنه من صندوق النقد الدولي. قرض الصندوق صحبته تطمينات مصرية بأنه سيعزز شبكة الأمان الاجتماعي المقدمة لحماية الفئات الأولى بالرعاية.
لكن يبدو أن عملية الهبوط الجماعي من منتصف الهرم تجعل نهى التي تقود سيارة حمراء شبه فارهة اشترتها بقرض شخصي قبل ثلاثة أعوام وارتفعت الفائدة المقررة عليه إلى ثلاثة في المئة، ترى نفسها من "الفئات الأولى بالرعاية"، وكذلك أدهم الذي وعده والده بإلحاقه بجامعة خاصة لدراسة الهندسة العام المقبل لكن الوعد يتبدد في الهواء، حيث مصروفات الجامعة يتم حسابها بالدولار، وملايين من أهالي طلاب المدارس الخاصة التي تضاعفت مصروفاتها في غفلة من الحكومة، والمقبلون على الزواج الذين يطالعون أسعار شبكة العروس وإيجار قاعات الأفراح ومقدم الشقق السكنية، والمتابعون لرحلة البيضة التي تضاعف سعرها أكثر من ثلاث مرات، وغيرهم من أبناء "صمام الأمان" و"رمانة الميزان" يرون في قرارة أنفسهم أنهم "فئات أولى بالرعاية"، لكن بين مفهوم الرعاية وطلبها والحصول عليها بحور من التجاهل المزمن وجبال من الكرامة ووديان وكثبان من أولويات تخاصمها بل وتناصبها العداء أحياناً.
الطبقة المتوسطة حالياً معلقة بين سماء طموحاتها وأرض واقعها. أبناؤها وبناتها يظنون أنهم ينتمون لشريحة اجتماعية مميزة، لكن بعض الظن يجانبه الصواب. فلا هي طبقة قادرة، ولا هي معدمة، ولا هي ثابتة عند منتصف الهرم، ولا هي ضامنة عدم الانزلاق للأسفل. كما أنها موجودة لأن أفرادها على قيد الحياة، لكنها في الوقت نفسه غير موجودة لأن مكانتها وموقعها مهددان بالانقشاع.
بعضهم يلوح بمزيد من الحرج بأنها باتت طبقة "عزيز قوم ذل". وآخرون يقولون إنها الطبقة البعيدة عن عين الحكومة ومن ثم فهي بعيدة عن قلبها. ويتندر فريق ثالث بأن قلب الحكومة لا يتسع إلا للفقراء الذين يحظون بشبكة حماية وعين رعاية وبطاقة تموين ومعاش استثنائي، أما الطبقة المتوسطة فمعلقة حالياً بين السماء والأرض في انتظار شيء ما.