انتشار صورة على وسائل التواصل الاجتماعي لثلاثة مصريين يعملون بالعراق خلال السبعينيات وهم يحملون جهاز كاسيت (مسجل) أوحت للأجيال الراهنة كم كان الجهاز آنذاك شيئاً عظيماً لدرجة يلتقط الناس صورة معه وقت شرائه ويرسلونها إلى ذويهم في مصر.
لم تكن الصورة تمثل حال الأشخاص الموجودين بالصورة فقط، بل جسدت حال كثير من المصريين خلال السبعينيات حيث بدأ انتشار أجهزة الكاسيت في البلاد، واعتبرت من مستلزمات البيت الحديث وإحدى وسائل الترقي الاجتماعي، كما كان أحد أبرز الأشياء التي يعود بها المصريون في الخارج بكثافة آنذاك.
تجسد شرائط الكاسيت (التسجيلات) جزءاً كبيراً من ذكريات أجيال السبعينيات والثمانينيات وبدايات التسعينيات الذين كان انتظار الألبوم الذي سيطرحه مطربهم المفضل من نجوم هذه الفترة، في مقدمتهم عمرو دياب ومحمد منير وإيهاب توفيق وغيرهم من نجوم العقدين الأخيرين من القرن الـ20 حدثاً كبيراً بالنسبة لهم أو حتى انتظار شرائط الفرق الأجنبية التي كانت سائدة هذه الفترة. ارتبط جهاز الكاسيت بالنسبة لهم بأجواء حفلات أعياد الميلاد والرحلات والمصايف، فكان مشهداً شائعاً أن تصطحب الأسرة جهاز الكاسيت إلى المدن الساحلية التي يقضون فيها إجازات الصيف للاستماع إلى الشرائط المفضلة خلال عطلتهم.
مع بداية انتشاره أصبح جهاز الكاسيت مفردة جديدة تدخل على خط الثقافة الشعبية المصرية، ففي الريف والقرى كان من العادة رسم بعض الرسوم الفلكلورية ابتهاجاً بعودة الحجاج بعد أداء فريضة الحج تشمل رسوماً للكعبة والنخيل والجمال والحجاج العائدين مع عبارات مثل حج مبرور، فأصبحت بعض الرسوم في خلال هذه الفترة تضيف إلى جوارهم جهاز الكاسيت الذي سيقومون بشرائه خلال رحلتهم.
بالطبع الأمر يتجاوز مجرد جهاز لتشغيل الأغاني وشرائط الكاسيت، إذ يكشف في جانب منه عن التأثير الذي لعبه بالثقافة الشعبية المصرية في ظل السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
لفت هذا الأمر انتباه الباحث الأميركي أندرو سايمون المتخصص في الإعلام والثقافة الشعبية بالشرق الأوسط والمحاضر بكلية دارتموث في الولايات المتحدة الذي جاء إلى القاهرة للحصول على زمالة في مركز دراسات اللغة العربية بالجامعة الأميركية لتشاء المصادفة أن تتواكب فترة وجوده في مصر مع اندلاع أحداث ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 والمظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير التي جعلته يتعرف على ما أطلق عليه "الثقافة الصوتية للمصريين" التي كان بينها كثير من الأغنيات التي استدعوها خلال فترة الثورة، ومثلت ذروة انتشار الكاسيت وقت إطلاقها للمرة الأولى مثل أغنيات الشيخ إمام على سبيل المثال.
تعمق الباحث في دراسة ثقافة الكاسيت في مصر لينتج عنها كتاب "إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة" الصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد هذا العام، الذي ستصدر له "دار الشروق" المصرية طبعة عربية قريباً.
ثقافة الكاسيت في مصر
عن بداية اهتمامه بثقافة الكاسيت في مصر يقول أندرو سايمون لـ"اندبندنت عربية"، "مصدر إلهام هذا الكتاب هو الثورة المصرية عام 2011، فقد فتحت المظاهرات الحاشدة في ميدان التحرير أذني على أهمية الصوت، وقوة الثقافة الشعبية، وأهمية وسائل الإعلام المختلفة ودورها، بعد انتهائي من زمالة اللغة العربية في مركز الدراسات العربية بالقاهرة، عدت إلى الولايات المتحدة لمتابعة درجة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط بجامعة كورنيل، حيث كتبت أوراقاً عن فنانين معينين وأنواع موسيقية وتيارات دينية من واقع تجربتي في القاهرة، وفي قلب كل هذه المساعي كان هناك دائماً خيط مشترك (أشرطة الكاسيت)".
يضيف "عدت إلى مصر مرة أخرى وسعيت إلى الاطلاع على المجلات الشعبية، مثل (روز اليوسف) و(آخر ساعة) التي تضمنت كثيراً من الإشارات إلى الكاسيت سواء عن طريق الإعلانات أو الكتابات، إلى جانب اطلاعي على تقارير عن المصريين في الخارج، وألهمتني هذه العناصر لكتابة تاريخ مصر من خلال نافذة ثقافة الكاسيت".
منتج المحتوى قديماً
بعد مرور عقود على بداية ظهور ثقافة الكاسيت وأوج انتشارها في مصر لا نستطيع النظر إليها الآن على أنها كانت مجرد وسيط أو وسيلة تحمل مضموناً معيناً مثل الأغاني أو الدروس الدينية وغيرها، ولكن يمكن القول، إن شرائط الكاسيت كانت البداية لتمكين عموم الناس من إنتاج ثقافة خاصة بشكل يناسب ذوقهم وتوجهاتهم المختلفة.
يقول سايمون "مكنت تقنية الكاسيت عدداً غير مسبوق من الناس من خلق الثقافة ونشر المعلومات قبل وقت طويل من دخول الإنترنت حياتنا اليومية، من خلال السماح لعدد لا يحصى من الأشخاص بأن يصبحوا منتجين ثقافيين وليسوا مستهلكين فقط لما يتم تداوله في وسائل الإعلام المتاحة التي كان أغلبها يقع تماماً تحت سيطرة الدولة، فمثلاً في مصر كانت الإذاعة مؤسسة تسيطر عليها الدولة وتبث مجموعة محددة من نخبة الفنانين يختارهم القائمون على الإذاعة، وكان هناك برامج (الثقافة العامة) وهي برامج تحت إشراف الدولة مسؤولة عن محو الأمية الثقافية وتعتمد بشكل أساس على قصور الثقافة والنوادي والكرفانات التي تجوب الريف بغرض تثقيف وتنوير ورفع ذوق المصريين العاديين، ولكن بالمنتج الثقافي الذي تحدده الدولة ويكون له معايير فنية وسياسية ودينية محددة".
يضيف "مع انتشار شرائط الكاسيت تمكن المواطنون من أن يكون لهم اختياراتهم الخاصة، وفي بعض الأحيان يكونون منتجين، واعتمدت في بحثي على مجموعة كبيرة من المواد لكتابة تاريخ شعبي لمصر تبعد عن الأرشيفات الرسمية. فمصادري كانت الأفلام والصور الشخصية والمجلات الشعبية وتسجيلات الكاسيت والصحف الأجنبية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، فهذه العناصر تتلاقى معاً لتشكل ما يطلق عليه (أرشيف الظل) في مصر، وهو يزودنا بفكرة واسعة عن الماضي تمكنا من تخيل ما كان في السابق والبناء عليه".
تشكل مفهوم القرصنة
عندما أصدر موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب أغنيته الشهيرة "من غير ليه" عام 1989 وحققت نجاحاً كبيراً آنذاك، تلقى رسالة من الحكومة التونسية لتهنئته على رقم التوزيع الكبير الذي حققته في تونس، ولكن المفارقة أن محمد عبدالوهاب وشركة "صوت الفن" المنتجة لشريط الكاسيت لم تكن قد وزعته في تونس من الأساس وكل هذا الرقم الكبير الذي انتشر هناك كان عبارة عن شرائط مقرصنة، ومن هنا يمكن القول، إن بداية مفهوم القرصنة بصورته الحديثة كان لشرائط الكاسيت دور كبير فيه.
يقول سايمون، "أصبحت القرصنة ممارسة شائعة للمرة الأولى بفضل تقنية الكاسيت ومشغليها، واتخذت أشكالاً متعددة في مصر، حيث نسخ الأفراد وتداولوا عدداً لا يحصى من الأشرطة الصوتية المنسوخة ولاحقاً شرائط الفيديو للأفلام، وخلال بحثي وجدت مفارقات مثيرة للدهشة فلا يوجد أي مادة محصنة من محوها وإعادة التسجيل عليها، فعثرت على شريط كاسيت لسيمفونيات بيتهوفن تم استخدامه لتسجيل أغاني حسن الأسمر وآخر لشريط لواحد من أفلام بوليوود سجلت عليه تلاوة للقرآن الكريم".
يضيف، "القرصنة ليست فقط شخصية وإنما هناك قرصنة من بعض القائمين على المؤسسات المنتجة للثقافة بنسخ مجموعات واسعة من التسجيلات، وهناك أيضاً القرصنة الدولية حيث تنسخ الشرائط في الخارج ويتم تداولها من دون معرفة منتجها الأصلي في توقيت كان التواصل الدولي بصورة أقل بكثير مما هو عليه حالياً، وهناك حالة يمكن رصدها للمقرئ محمود خليل الحصري الذي أرسل بعض شرائطه إلى الرئيس جيمي كارتر أثناء زيارته للولايات المتحدة ليرى بعد ذلك إعلاناً عن شرائط الكاسيت الخاصة به في الولايات المتحدة".
تمرد ديني وسياسي
لم يقتصر دور شرائط الكاسيت فقط على الموسيقى والأغاني، ولكنها كانت بوقاً لكل ما هو ممنوع على الصعيد الديني والسياسي، فشرائط الخطب الدينية كانت ظاهرة لا تقل في الأهمية عن شرائط المطربين سواء لمشاهير الشيوخ مثل الشعراوي آنذاك أو للشيوخ الذين كان ظهورهم الإعلامي ممنوعاً في الإذاعة والتلفزيون والذين صب بعض منهم جم غضبه على شرائط الكاسيت ومحتواها الذي سيفسد المجتمع واعتبره بدعة ورجساً من عمل الشيطان في خطب على شرائط كاسيت تم تداولها على الوسيط ذاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول سايمون "سمحت أشرطة الكاسيت لعدد غير مسبوق من الناس في مصر بالتحدث باسم الإسلام، على الرغم من محاولات حراس الدين والسلطات السياسية للتحكم في الأصوات الإسلامية فإنه قد تم تداول عدد لا يحصى من شرائط الكاسيت، التي تحمل مضامين دينية بسهولة بعيداً عن متناولهم، ويأتي أشهرها خطب الشيخ عبدالحميد كشك الذي لم يمتنع عن انتقاد أصحاب السلطة وغيره كثير، وكذلك تم تداول أشرطة تحمل قراءات للشيخ عنتر سعيد مسلم الذي منعه الأزهر من القراءة في وقت من الأوقات بسبب أسلوبه غير التقليدي وما قيل من أنه يقرأ قراءات شاذة غير المعتمدة والمتعارف عليها، فأشرطة الكاسيت كانت وعاء لأي مضمون يرغب مشغلوها في تسجيله وتداوله رغم أنف الدولة ومحاولات المنع".
يضيف "على الصعيد السياسي لا بد من الإشارة إلى تجربة الشيخ إمام الذي كان واحداً من الأصوات التي استدعاها المصريون إبان ثورة يناير وكانت أغنياته حاضرة بقوة خلال هذه الفترة، قدم الشيخ إمام في حقبة السبعينيات في توقيت زيارة الرئيس الأميركي نيكسون للقاهرة في صيف عام 1974 في عهد الرئيس السادات أغنية تقدم رواية تختلف تماماً عن الرواية الرسمية لأسباب الزيارة تحت عنوان (شرفت يا نيكسون بابا) وتم تداول الأغنية التي انتشرت بشكل كبير وقتها على شرائط الكاسيت بعيداً بالطبع عن أي إعلام رسمي، فالكاسيت هنا بالفعل هو إعلام الجماهير الذي يقدم أحياناً ما يتنافى ويتناقض مع رواية الدولة".
السياق الاجتماعي والاقتصادي
ظاهرة انتشار تكنولوجيا الكاسيت لا يمكن فصلها عن السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمصر في خلال هذه الفترة فقد شهدت حقبة الرئيس السادات ما كان يطلق عليه الانفتاح الاقتصادي بكل تبعاته، بينها بداية انتشار الثقافة الاستهلاكية عند المصريين وظهور نوعيات جديدة من مستلزمات المنازل الحديثة منها أجهزة الكاسيت، وفي فترة لاحقة أجهزة الفيديو. وما تبعهما من انتشار كبير لمتاجر بيع شرائط الكاسيت التي كانت منتشرة في كل أرجاء المدن الكبرى آنذاك.
يشير سايمون إلى أن توظيف كثير من المصريين بدول الخليج لأشرطة الكاسيت، "خلال السبعينيات والثمانينيات سافر المصريون إلى الخليج أكثر من أي وقت مضى بحثاً عن عمل وأجور أعلى خلال الطفرة النفطية وكان لهؤلاء دور رئيس في ظهور ثقافة الكاسيت في مصر حيث كانت مشغلات الكاسيت من أبرز الأشياء التي يعودون بها من الخليج، وفي الوقت نفسه قام المهاجرون المصريون من جميع أنحاء السلم الاجتماعي والاقتصادي بتسخير أشرطة الكاسيت للبقاء على اتصال مع الأصدقاء وأفراد الأسرة في الوطن في ظاهرة جديرة بالاهتمام تسجيلهم أحاديث مطولة موجهة لأسرهم في مصر كشكل بديل عن الخطابات المكتوبة أو مصاحبة له".
يضيف "وجد هؤلاء المهاجرون في الوسيط الجديد شكلاً أكثر تطوراً لنقل أخبارهم ومشاعرهم لذويهم وحقق هذا الأمر انتشاراً كبيراً خلال هذه الفترة خصوصاً مع صعوبة المكالمات الدولية وبالطبع عدم وجود الإنترنت من الأساس، وفي السياق نفسه تم تداول صورة شهيرة للرئيس السادات ذاته في إحدى إجازاته وبجواره جهاز الكاسيت مما مثل دعاية مجانية لهذه الأجهزة ودفع كثيراً من الناس إلى السعي لاقتنائها".
بداية لانحدار الذوق العام
طبقاً لتقدير أورده الباحث فإنه في عام 1975 وجد في مصر حوالى 20 شركة إنتاج كاسيت ليقفز الرقم عام 1990 إلى 500 شركة إنتاج، لم يكن لمعظم القائمين عليها أي علاقة بالثقافة أو الموسيقى، بل افتتحوا هذه الشركات باعتبارها مشروعاً مربحاً وأنتجوا آلاف الأغاني التي انتشرت في مصر وخارجها، وكان لهم دور في اختيار نوعية ومضمون ما سيتم إنتاجه وسيستمع له الجمهور.
يشير سايمون "قبل وقت طويل من الجدال الحالي الذي تشهده مصر حول موسيقى المهرجانات وما يعتقد البعض أنه انحدار ملحوظ للذوق العام في مصر، فإن أشرطة الكاسيت كان لها السبق في هذا الأمر فيمكن القول إنها كانت البداية لما قال عنه البعض وقتها إنه انهيار للموسيقى والثقافة الرفيعة، في خلال هذه الفترة بدأ ظهور أحمد عدوية الذي يمكن اعتباره رائد الغناء الشعبي المصري في العصر الحديث الذي انتشرت أغانيه على شرائط الكاسيت وقتها، وحققت نجاحاً مدوياً بعيداً من الإذاعة المصرية وشروطها الصارمة للمغنيين حيث حققت أغنيته (السح الدح إمبو) منتصف السبعينيات أرقام توزيع كبيرة جداً مما شكل ظاهرة تستحق الدراسة خصوصاً في توقيت وجد فيه كبار الفنانين مثل عبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب مما شكل نقلة كبيرة في الذوق الغنائي السائد".
يتابع "التاريخ الآن يعيد نفسه مع موسيقى المهرجانات، فما يحدث الآن ليس جديداً، والفارق الوحيد هو اختلاف الوسيلة التي تنتشر بها الأغنيات، منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وجهت السلطات المحلية انتقادات إلى الطبقة العاملة من المصريين بسبب تسجيلهم أشرطة كاسيت تعرض الذوق العام للخطر، لفهم ما يحدث مع المهرجانات اليوم يجب أن نعود إلى الماضي القريب ونفكر في ما يمكن أن تعلمنا إياه شرائط الكاسيت التي تحمل الموسيقى الشعبية عن آليات خلق الثقافة وتداولها".