تحتل المناكفات والكيدية السياسية الفراغ الذي يتحكم بالحياة السياسية اللبنانية، فتزيدها فراغاً وخواء بعد مضي أكثر من 70 يوماً على الشغور في رئاسة الجمهورية.
وعلى رغم كل المحاولات من أجل تسريع انتخاب رئيس يحول دونه غياب أكثرية واضحة تضمن استمرار جلسة الانتخاب لدى أي من المعسكرين السياسيين المفترضين، القوى السيادية والتغييرية والمستقلين من جهة، والمنتمين إلى محور "الممانعة"، أي "حزب الله" وحلفاؤه حركة "أمل" و"التيار الوطني الحر" وكتل أخرى صغرى تنتمي إلى هذا المحور من جهة ثانية.
لكن فشل المعسكرين في التوافق انعكس سلباً على المعسكر الذي يتزعمه "حزب الله" وأخذ ينذر بانفكاك التحالف بين الأخير و"التيار الحر" بعد أن شهدت الأسابيع القليلة الماضية خروج الخلاف إلى العلن واعتماد كل منهما مناورات ومواقف متناقضة في شأن الاستحقاق الرئاسي.
المراوحة وتباعد الحلفاء
المراوحة التي تطبع المشهد اللبناني وسط قناعة عامة لدى معظم الأوساط السياسية بأنها ستتواصل لأن الصراع على الصعيدين الدولي والإقليمي يجعل مما يسميه اللبنانيون "طبخة" الرئاسة الجديدة غير ناضجة بعد، يبدو أنها ستستمر، على رغم أنها تستدعي منهم عدم انتظار تسوية على الصعيد الإقليمي والانكباب على مخرج في ما بينهم يضع البلد على سكة إنقاذ اقتصادهم المنهار.
تبسيط الأسباب بالمعنى القانوني لتفسير استمرار المراوحة يعود إلى أن تعطيل عملية الانتخاب يتواصل بعد 10 جلسات عقدت بإفقاد "حزب الله" وحلفائه جلسات البرلمان نصاب الثلثين في الدورة الثانية من الاقتراع التي تتطلب أصوات النصف زائداً واحداً (65 نائباً) من أجل إنجاح أي مرشح.
لكن قبل ذلك وبصرف النظر عن وجود خلفيات إقليمية ترجح استمرار الفراغ الرئاسي، يحول الاختلاف داخل المعسكرين على تزكية مرشح واحد دون اختبار قدرة أي فريق على جمع الـ65 صوتاً لمصلحة مرشحه.
فلا المرشح الوحيد للقوى السيادية والتغييرية والمستقلة المعارضة لـ"الحزب" النائب ميشال معوض قادر على استقطاب أصوات كتل هذا الفريق، ولا المرشح غير المعلن رسمياً رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية لـ"حزب الله" وحركة "أمل" قادر على جذب أصوات الحليف الثالث للحزب، أي "التيار الوطني الحر" (18 نائباً) برئاسة النائب جبران باسيل، من أجل ترشيحه رسمياً كي يسعى إلى استقطاب بضعة أصوات يحتاج إليها من الفريق الآخر.
وتسبب رفض "التيار الحر" لفرنجية بتباعد جدي بين الحليفين أطلق سجالاً حاداً بينهما ختم الشهرين الأخيرين من السنة المنقضية.
إحباط باسيل "فرصة" حليفه
بات اعتراض باسيل العلني والحاسم على ترشيح فرنجية من الوقائع المسلم بها، وكذلك اعتراضه على المرشح الثاني الجدي قائد الجيش الحالي العماد جوزيف عون، فإن إصراره على استبعاد دعم الأول يعتبر إجهاضاً لخيار يراه "حزب الله" مثالياً نظراً إلى ولاء رئيس "المردة" لمحور "الممانعة"، وفرصة له في ظروف يتعرض خلالها لحملة سياسية محلية وإقليمية ودولية بسبب دوره كإحدى أهم أذرع إيران في الإقليم.
إذاً الحليف المفترض باسيل يقطع الطريق على تمكن "الحزب" من الإتيان برئيس موالٍ له بالمستوى نفسه من الولاء الذي أثبته الرئيس السابق العماد ميشال عون ومعه باسيل نفسه خلال الأعوام الستة السابقة من ولاية عون الرئاسية.
وهذا ما يفسر انزعاج "الحزب" الذي يعتقد بأنه لو انضمت أصوات "التيار الحر" إلى الكتل المؤيدة لخيار فرنجية، لكان بالإمكان إقناع أربعة إلى خمسة نواب من المستقلين في المعسكر الآخر المشتتة أصواته هو الآخر، كي يحصل هذا الخيار على الأكثرية المطلوبة.
وما زاد في غضب قيادة "الحزب" من باسيل أنه لا يرد له جميل تعطيله انتخاب الرئيس سنتين وخمسة أشهر ونيف عام 2016 إلى أن خضع معارضو عون وانتخبوه.
انفتاح باسيل على الخصوم
بعدما وقعت الواقعة بين "الحزب" و"التيار الحر" بسبب تأييد الأول لدعوة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مجلس الوزراء في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي التي عارضها الثاني، رجح العارفون بنمط العلاقة بين الحليفين أن يتم إصلاح ذات البين لحاجة كل منهما إلى الآخر، خصوصاً أن قادة "الحزب" أكدوا في تصريحاتهم أن الأمور لن تلبث أن تعود لمجاريها وأمينه العام حسن نصرالله كرر في خطاب له في 4 يناير (كانون الثاني) الحرص على العلاقة مع "التيار"، مشيراً إلى أنه "ستكون هناك لقاءات قريبة" معه، لكن هذا لم يحصل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تتسرب أي معلومة حتى عن اتصال هاتفي بين أي مسؤول حزبي مع باسيل وكل ما جرى تسجيله هو زيارة تهنئة بعيدي الميلاد ورأس السنة قام بها السفير الإيراني مجتبى أماني للرئيس عون، ودعا إلى "تقريب وجهات النظر".
أبقى "حزب الله" على دعايته السياسية بالمطالبة بالحوار بين كل الفرقاء الذي اقترحه الرئيس نبيه بري للتوافق على رئيس "لا يطعن المقاومة في الظهر"، الأمر الذي لم يلق تجاوباً من الكتل النيابية المسيحية، كل لسببه.
فيما تحرك باسيل للقاء بعض خصومه مع تسريب أوساطه أنه يقترح أسماء وسطية للرئاسة بديلاً عن فرنجية وقائد الجيش، وهو ما نفاه بعض من التقاهم، فظهر الأمر على أنه يوحي بقدرته على الانفتاح على سائر اللاعبين خارج نطاق التحالف مع "الحزب".
كما ظهر أنه يستطيع كسر العزلة التي طوقته بفعل خلافاته مع سائر القوى السياسية في مرحلة التحالف الوثيق مع "الحزب" ورئاسة عمه ميشال عون، هكذا فهمت اجتماعاته مع الرئيس ميقاتي وفرنجية نفسه ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط.
"تقطيع للوقت"
يقول مقربون من "التيار الحر" لـ"اندبندنت عربية" إن ما يتردد عن طرح باسيل لأسماء مرشحين مثل الوزير السابق زياد بارود، والمدير الحالي للشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي الوزير السابق جهاد أزعور ورئيس مؤسسة "إل بي سي آي" التلفزيونية بيار الضاهر، لم تتم مناقشته في اجتماعات تكتل "لبنان القوي"، وإن تسريبات كهذه هي أقرب إلى "تقطيع الوقت" طالما أن "طبخة" الرئاسة لم تنضج بعد.
أما في شأن إعادة التواصل بين "التيار" و"الحزب"، فيسأل هؤلاء "هل تخلى الحزب عن ترشيح فرنجية حتى يكون التواصل مفيداً؟ ومن الواضح أنه متمسك به، مما يعني أن ليس هناك أفق لأي اتفاق حول الرئاسة".
وفي تقدير هؤلاء أن تشديد "الحزب على معالجة الخلاف مع التيار أقرب إلى رفع العتب، فمنذ التوقيع على تفاهم 6 فبراير (شباط) 2006 بين التنظيمين الذي أطلق التحالف، كان الجميع يركض للملمة أي تباين في وجهات النظر، فيما لا نشعر في ظل الخلاف الحالي بأن هناك جهداً جدياً لحل أزمة كبيرة نشأت بين التيار والحزب، كأن كلاً من الفريقين يضع في حساباته أن الفراق صار وارداً لدى الآخر، لأن التفاهم على الرئاسة صعب وسيأخذهما إلى مواقع متناقضة".
وفي رأي المقربين من "التيار" أنه إذا افترضنا أن فرنجية انتخب رئيساً للجمهورية بعد أن يتمكن "الحزب" من تأمين الأكثرية له، فإن "التيار" سيكون في هذه الحال بموقع المعارضة للعهد الرئاسي، وهذا ينطبق على أي مرشح آخر قد يأتي رئيساً ولا يكون "التيار" موافقاً عليه حتى لو قبل به "حزب الله"، طالما أن "التيار" لن يكون شريكاً في تسميته.
كوادر "التيار" في أجواء أخرى
يعتقد قياديون في "التيار" بأنه إذا جرت لملمة الخلاف الحالي بسرعة من دون اتفاق على اسم الرئيس، من غير المستبعد أن تعود العلاقة للانتكاس مرة أخرى.
ويرون أن "الحزب" أخطأ في طريقة تسويقه لترشيح فرنجية وظهر أن لديه خياراً يريد فرضه على الآخرين، وكان يمكن له أن يتصرف بطريقة مختلفة تحسب حساباً لمواقف الفرقاء الآخرين، سواء كانوا حلفاء أو خصوماً.
ولا ينفي قياديون في "التيار الحر" أن كوادره صارت "في أجواء مغايرة للتسريبات عن إمكان إعادة ترتيب العلاقة"، هذا فضلاً عن أن التحالف مع الحزب في 2006 كان بالنسبة إلى باسيل والرئيس عون مبنياً على مبدأ الاستحواذ على السلطة في البلد بحيث كانت هناك مصالح متعددة تأمنت من ورائه.
وأشاروا إلى أنه بانتهاء العهد الرئاسي والتنحي عن السلطة، لم يعد الرئيس المقبل مستعداً لتأمين تلك المصالح، بالتالي "من الطبيعي أن يحصل الخلل الذي نشهده الآن في العلاقة بين الحليفين بعد أن انتهت صلاحية مفاعيل التحالف من أجل السلطة".
وبكل الأحوال، فإن قيادات مسيحية حيادية تعتبر أنه خلافاً لمراحل سابقة في الخلاف بين الحليفين، فإنه مع حصول ثورة 17 تشرين الأول في الشارع عام 2019 أخذت شعبية "التيار الحر" تتراجع ومن الأسباب تحالفه مع "الحزب"، بينما الافتراق عنه حالياً ربما يعيد له بعض الجمهور الذي فقده.