هناك في الأساس حكاية علاء الدين التي باتت تخصنا أكثر مما تخص جذورها الصينية منذ نقلها الفرنسي أنطوان غالان في ما نقل من حكايات جمعها من هنا وهناك وقد وجد أنها تلائم ما كان يمتلكه من الحكايات التي ستشكل "ألف ليلة وليلة" كما بتنا نعرفها منذ عرفنا وعرف العالم تلك "الليالي العربية". وبعد ذلك هناك سلسلة لا تنتهي من اقتباسات وترجمات رسخت مكانة تلك الحكاية الغرائبية في تاريخ الشرق والعالم، ثم في القرن الـ20 كانت هناك أعمال فنية بديعة موسيقية ومسرحية وشرائط مصورة، وحكايات، نشرت الليالي العربية أكثر وأكثر. غير أن الأرقام بقيت دائماً متواضعة حتى وضع والت ديزني يده على الملف، لا سيما حين وجد أن فنه السابع الملون الذي يعطي البصر والسمع مجالات لإعادة إحياء الحكاية جميلة أكثر وأكثر، حية أكثر وأكثر، وقد حولت إلى فيلم سينمائي ما لبث خلال أشهر من عروضه الأولى أن حطم الرقم القياسي في شبابيك التذاكر في العالم أجمع، ولكن كان على هذا المشروع أن ينتظر حتى عام 1992 قبل أن يتحقق بالتالي قبل أن يسحب فيلم رسوم متحركة أكثر من نصف مليار دولار من جيوب الآباء والأبناء ثمناً لتذاكر بيعت بمئات الملايين.
معجزة صغيرة
باختصار حقق فيلم ديزني "علاء الدين" حينها ما كانت عجزت عنه أفلام عديدة تطلعت لأن تكون صاحبة أعلى المداخيل في تاريخ السينما. صحيح يومها أن فيلم "الملك الأسد" سرعان ما دخل على الخط في غضون سنوات قليلة ليزيح "علاء الدين" عن عرش الشبابيك ويحل مكانه في المرتبة الأولى بين أكثر أفلام النوع، لكن ذلك لم يكن مهماً كثيراً. فالخطوة التالية كانت تحقيق مآثر مماثلة في عدة مجالات أخرى، لا سيما في مجال العروض المسرحية الغنائية التي وجدت استوديوهات ديزني أن من الطبيعي أن تجرب حظ "علاء الدين" معها، قد أذعنت لفكرة أن يكون "الملك الأسد" سابقها بدرجة أو حتى بعدة درجات. فالمسألة هنا ليست تنافساً على ترتيب ما وإنما خوضاً للنجاح من أعرض أبوابه. وفي هذا السياق كانت إنجازات "علاء الدين" على الخشبة مضاهية لإنجازاته على الشاشة الكبيرة. وسجل تاريخ الفن في القرن الـ20 كيف أن عرضاً مقتبساً من فيلم سينمائي يمكنه أن يجد دربه إلى النجاح، ولكن أيضاً، وهنا تكمن أهمية لذلك المشروع لا يمكن نسيانها، كيف أن حكاية يتحرك خلالها أبطال وأشرار عرب ومسلمون أمام أعين ملايين المشاهدين فلا يكون العربي/ المسلم هو الشرير والأجنبي رجل الخير والصواب، يمكن بعد أن تعطي صورة عن عالمنا وتاريخه غير مجحفة في حقنا. ولعل أهم ما في ذلك كله هو أن "علاء الدين" لا سيما العرض المسرحي اللطيف، أتى خلال سنوات كانت فيها جريمة الإرهابيين في نيويورك قد رسخت صورة عن المسلم/ العربي تجعله شريراً إلى الأبد.
المغناة تقول: لا
وأتت مغناة "علاء الدين" لتقول: لا! كما الحال لدى كل الشعوب والأجناس هناك لدى العرب والمسلمين طيبون وأشرار، والواحد منهم يمكنه أن يكون طيباً فيما يمكن للآخر من الجنس والعرق والدين نفسه أن يكون شريراً. والمرء في حاجة إلى أن يعود إلى صحافة تلك السنوات الصعبة كي يدرك أهمية ذلك كله والدور الذي لعبته مغناة "علاء الدين" في شرخ صورة لشعوبنا الشرقية راحت قوى عنصرية عديدة تحاول ترسيخها في العالم، مستفيدة من مناخ شعبي عام. ومن هنا إن نظرنا إلى الأرقام وحدها وإلى ردود الفعل التي راحت الصحافة الأكثر إنصافاً ترصدها في المدن الرئيسة التي قدم بها العرض بلغات لا تعد ولا تحصى وخصوصاً بلغة "الشعب الضحية" أي الشعب الأميركي الذي وقع ضحية الاعتداءات الإرهابية، ستبدو الأرقام فصيحة، إذ منذ بدايات عروض المغناة في سياتل عام 2011 وحتى سبتمبر (أيلول) 2011 تسجل الأرقام أن عدد الذين حضروا المغناة في مسارح حية، بلغ 11 مليون متفرج، ما يجعل مغناة "علاء الدين" تحتل المرتبة الـ10 بين أكثر الاستعراضات المسرحية نجاحاً في تاريخ هذا الفن. فما الذي ذهبت تلك الملايين تشاهده، وأي موسيقى سمعت، وكيف ذهب تعاطفها، وما الأسماء العلم التي تعرفت بها إلى شخصيات المسرحية؟
تفاصيل مهمة
للوهلة الأولى قد لا تبدو هذه التفاصيل مهمة كثيراً لو أننا بصدد الحديث عن مغناة كوزموبوليتية تعرض في أزمنة عادية، لكننا هنا لم نكن في زمن عادي. كنا في زمن يثير فيه معرفة أن مسافراً عربياً مسلماً أو غير مسلم يدعى "جهاد" أو "أسامة" أو اسم من هذا القبيل، فضيحة في أي مطار غربي. ومع هذا صفق ملايين في شتى أنحاء العالم لعلاء الدين ولحبيبته الأميرة ياسمين بقدر ما اشمأزوا من الوزير جعفر الذي راح يمارس كل شروره لانتزاع ياسمين ابنة الملك كي يتزوجها ويصبح ملكاً. وتعاطفوا مع شريد الشوارع الشاب الذي ستحبه الأميرة ليصبح ملكاً بدوره، وهللوا للجني الذي خلصه علاء الدين من القمقم الذي كان سجيناً فيه فوعده الجني مقابل ذلك بتحقيق ثلاث أمنيات له وفاء منه لما بذله من أجله. وفي الوقت نفسه راحوا يتوسلون الجني كي يساعد علاء الدين ضد جعفر... إلى آخر هذه الحكاية التي يعرفها كثر من القراء في العالم، ومن دون أن يهتموا بما إذا كانت أصول الحكاية صينية أو عربية أو هندية. فالحكاية بالنسبة إليهم ليست حكاية أدبية تحتاج إلى سجالات أكاديمية، بل حكاية إنسانية تتمحور كما كل عمل أدبي إنساني كبير من حول الصراع بين الخير والشر.
فنون أوروبية
صحيح أن ما كان الملايين الذين شاهدوا المغناة على مسارح بروداي والويست أند كما على مسارح باريس وأمستردام وطوكيو وعشرات غيرها من مدن العالم، كان فناً أوروبياً لا يبتعد كثيراً عن فنون الخشبة الاستشراقية التي ما دأبت تتحرك على المسارح منذ "خطف في السرايا" لموتسارت وما قبله، لكن الجماهير العريضة كانت ترى أن ما تشاهده من تبرج وملابس ومن ديكورات، وما تصغي إليه من أنغام وموسيقى تصاحبها أو لا تصاحبها رقصات بديعة، "لا شك أنها فنون شرقية خالصة"، من دون أن تهتم حقاً بما إذا كان حكمها ذاك صحيحاً أم لا. وكذلك فإن أولئك المتفرجين لم ينصرفوا للبحث عن دلالات سياسية واضحة أو حتى أيديولوجية خفيفة ومضمرة لما تريد المغناة قوله. كل ما في الأمر أن المتفرجين تعاملوا مع المغناة كعمل فني وحكاية مسلية، وإبداع حقيقي يأتي ليرفه عن المتفرجين قائلاً لهم إن الفن لا يزال في خير، وإن الإنسان لا يزال في خير، وإن الخير ينتصر في نهاية الأمر على الشر، وإن من مهام الفنون الشعبية والجماهيرية أن تؤكد مثل تلك القيم التي تكبر الحاجة إليها في الأزمنة الصعبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أنطولوجيا للموسيقى الاستشراقية
صحيح أن هذا التفكير لم يكن يشغل بالضرورة بال صانعي ذلك العمل، لكنه كان النتيجة التي يمكن استخلاصها من عمل فني، بني أصلاً انطلاقاً من فيلم بني بدوره في اقتباس من حكاية معروفة للعالم أجمع، لتقول عبر موسيقى عرفت كيف تتفاعل مع قيم يتشاركها العالم، كم أن الإنسانية واحدة وكم أنها في حاجة إلى أن تتذكر هذه الحقيقة البديهية بين الحين والآخر لتسند إلى الفن، وربما بصورة مواربة في معظم الأحيان، دوراً سيسعده أن يلعبه. وهذا كان على الأقل في ذهن أولئك الأشخاص الذين كتبوا أولاً سيناريو الفيلم ثم ديباجة العمل المسرحي، جاعلين العملين متطابقين (رون كليمنتس وجون ماسكر وتيد إليوت وتيري روسيو للفيلم، لينضاف إليهم في العمل على تعديلات طالت السيناريو على الخشبة، أشخاص مثل الآن منكن للموسيقى وبالطبع تيم رايس الذي لا تستغني عنه برودواي في مثل هذه الأعمال، للأغاني وأشعارها). علماً أن منكن ورايس استعملا للمغناة عدة أغان وقطع موسيقى كانا وضعاها أصلاً للفيلم لكنها لم تستعمل حينها، وكلها ذات أجواء شرقية لا تبتعد كثيراً عن ألحان استشراقية معروفة لإدوارد غريغ وموتسارت وحتى رمسكي – كورساكوف، بحيث بدا العمل المسرحي في نهاية الأمر وكأنه "أنطولوجيا للموسيقى الاستشراقية" بحسب تعبير إلتون جون الذي سيشارك من ناحيته في تبني عدد من أغنيات ذلك العمل الشعبي الكبير.