أدت تطورات ما يسمى "الربيع العربي" التي تسببت في زعزعة الأمن والاستقرار في عدد من الدول العربية وسقوط رؤساء وحكومات مصر واليمن وليبيا وتونس والجزائر، إلى تمهيد الطريق لإحياء تنظيم الإخوان المسلمين المتطرف وصعوده إلى السلطة في بعض الدول العربية بما في ذلك مصر وتونس.
بدأ قادة الإخوان المسلمين والجماعات الأصولية الأخرى التابعة لهذا التنظيم الذين كانوا يتطلعون إلى تولي مقاليد السلطة في بقية دول المنطقة باستغلال هذا التطور والنصر الذي أحرزته الشعوب، بتكثيف جهودهم طمعاً بتوسيع النفوذ والاستيلاء على السلطة في أنحاء المنطقة كافة، مما أدى إلى تفاقم الصراع بين الشعوب المحبة للحرية وجماعات الإسلام السياسي.
ورداً على هذا التطور الخطر انتفض الشعب المصري مرة أخرى وقرر إطاحة الحكومة التي شكلتها جماعة الإخوان بقيادة محمد مرسي واستطاعت مصر أن تنقذ نفسها من مستنقع التطرف بالتعاون مع الدول التي تهتم باستقرار المنطقة وأمنها.
كما أن تونس التي وقعت أيضاً تحت سيطرة "حركة النهضة" الإسلامية في أعقاب الاحتجاجات الشعبية وسقوط حكومة زين العابدين بن علي، ثارت ضد الحركة وناضلت للتخلص من التطرف ودفع البلد مرة أخرى نحو الديمقراطية والحرية اللتين يتطلع إليهما جميع أبناء الشعب التونسي.
هزيمة الإخوان المسلمين وانهيار قواعده الناشئة في مصر وتونس وجها ضربة قاسية لهذا التنظيم والجماعات التابعة له ووضعا أمامهما مشكلات وعراقيل عدة. مع مرور الوقت واستمرار الكفاح ضد التطرف في مختلف دول المنطقة، تفاقمت الأوضاع وزادت القيود المفروضة على قيادات الجماعات المحسوبة على تنظيم الإخوان المسلمين. ولتفادي القيود والمشكلات التي كانت تحول دون مواصلة الأنشطة السياسية غادر عدد كبير من قادة هذه المنظمة إلى تركيا وقطر لاستئناف أنشطتهم من هناك.
وعلى رغم أن دول المنطقة حذرت مرات عدة من خطورة أنشطة قيادات الإخوان المسلمين في تركيا وطالبت بوقف هذه الأنشطة التهديدية، إلا أن الحكومة التركية لم تأخذ هذه التحذيرات على محمل الجد إلا بعدما شعرت بالأخطار الأمنية وقررت أخيراً فرض قيود عدة على قيادات الإخوان، كما قررت العمل على تحسين العلاقات مع الدول الخليجية ومصر وبذلت جهوداً كبيرة لرفع مستوى العلاقات الثنائية بين الجانبين.
العلاقات التركية- المصرية تدهورت نتيجة قيام تركيا بإيواء القادة الهاربين من جماعة الإخوان المسلمين، لا سيما أنها لم تمنعهم من ممارسة أنشطتهم السياسية على أرضها، الأمر الذي كانت تعارضه مصر وعدد كبير من الدول العربية الأخرى.
وبعد أن راجعت تركيا سياستها في التعامل مع الإخوان وأدخلت عليها تغييرات جذرية، بدأ قادة التنظيم الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة عراقيل وتحديات عدة بالبحث عن خيار آخر وملاذ أمن يتيح لهم فرصة لمواصلة أنشطتهم السياسية والفكرية. وبعد أن استعادت حركة "طالبان" السلطة في أفغانستان، أصبحت الأراضي الأفغانية خصبة لاستضافة الجماعات الإرهابية والمتطرفة.
هنا أدرك قادة الإخوان الذين كانوا في ذروة اليأس والإحباط أهمية الموضوع وأن أفغانستان أصبحت بيئة مواتية لاستئناف أنشطتهم ومخططاتهم. لذلك سارعوا إلى العمل على إقامة علاقات التعاون مع حكومة "طالبان" التي بدورها تواجه العزلة الدولية وتبحث عن شريك يقف إلى جانبها ويمد لها حبل الإنقاذ.
ولتحقيق هذا المبتغى بدأت منظمة الإخوان المسلمين في تركيا بإجراء اتصالات مع قادة حركة "طالبان" وتوجهت وفود رفيعة المستوى من الجانبين إلى تركيا وأفغانستان. كما زار وفد من حكومة "طالبان" برئاسة المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، تركيا والتقى عدداً من قادة الإخوان هناك. إضافة إلى ذلك زارت وفود إخوانية متعددة من تركيا وفلسطين والسودان، أفغانستان وسط ترحيب كبير من قبل قادة "طالبان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ينبغي ألا ننسى أن جماعة الإخوان المسلمين على صلة وثيقة بمختلف الجماعات المتطرفة والأصولية في أفغانستان منذ أكثر من أربعة عقود، كما لعب الطرفان دوراً رئيساً في خلق ظاهرة الإرهاب والتطرف على المستويين الإقليمي والخارجي.
لا شك في أن التقارب والتعاون بين الإخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة التابعة للمدرسة الفكرية "الديوبندية" كانا السبب الرئيس وراء ظهور الجماعات المتطرفة والإرهابية، وبحسب عدد من الخبراء فإن امتزاج الفكر الإخواني النابع من منهج سيد قطب وكتبه مثل "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" بالفكر "الديوبندي" الرجعي أشعل فتيل العنف والصراع بين المسلمين، وكما يعتقد مفكرون كثر فإن الجماعات المتشددة والإرهابية مثل "القاعدة" و"داعش" خرجت من رحم هذا الاضطراب الفكري.
يبدو أن جماعة الإخوان المسلمين وحركة "طالبان" (الجماعة الأكثر تطرفاً من بين الجماعات المحسوبة على مدرسة "ديوبند") تتجهان نحو التعاون والشراكة وتعتزمان استغلال الأراضي الأفغانية كملاذ آمن للجماعات المتطرفة وتعريض دول المنطقة والعالم لتهديدات أمنية جديدة.
إن الزيارة الأخيرة لقادة الإخوان المسلمين إلى أفغانستان تحت مسمى "وفد علماء المسلمين" ولقاءاتهم الكثيرة مع قادة "طالبان" في قندهار وكابول دليل حاسم على حقيقة ما يجري في أفغانستان، ويؤكد أن العالم الذي ما زال يدفع ثمن الحرب ضد الإرهاب ربما يواجه ظهور جماعات إرهابية جديدة إذا استمر التعاون بين الجماعات المتشددة.
لا شك في أن مواصلة التقارب والتعاون بين الإخوان المسلمين وحركة "طالبان" لها تداعيات خطرة، كما أن استمرار هذا التعاون الذي عرض العالم سابقاً لخطر "القاعدة" و"داعش" وأدى إلى مقتل آلاف الأبرياء، من الممكن أن يؤدي إلى مزيد من العنف والقتل والإجرام.
لذلك يجب على العالم أن ينتبه بجدية لتداعيات التقارب والاصطفاف بين الإخوان و"طالبان" وأن يقف بحزم ضد هذا التهديد قبل فوات الأوان، إذ إن الإهمال أو التقليل من شأن هذا الخطر المحدق قد يعرض العالم لتهديدات كبيرة وما يترتب عليها من تبعات خطرة لا تحمد عقباها، لا سيما أن الحادثة الأليمة لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والأعمال الوحشية والقمع اللذين مارسهما "داعش" والإرهاب الذي مارسته جماعة "بوكو حرام" الإرهابية بقطع رؤوس الأبرياء ما زالت حية في ذاكرة البشرية.
لا تنبغي الاستهانة بلقاءات وزيارات الإخوان و"طالبان" والتقارب الذي يتشكل بينهما. إن إعجاب قيادات الإخوان المسلمين وفرحتهم بقدوم "طالبان" إلى السلطة والإشادة بسلوكهم تظهر أن هاتين المجموعتين على طريق التقارب والتعاون وتحاولان تحويل أفغانستان إلى مركز للتطرف والأنشطة الإرهابية.
الدكتور علي محيي الدين القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، نشر تغريدة أعرب فيها عن تفاؤله بالتطورات التي حدثت بعد وصول "طالبان" إلى السلطة في أفغانستان، وهنأ الحركة بانسحاب قوات الاحتلال وبانتصارها. وذكر في إحدى تغريداته أنه إذا فشلت الحكومة الإسلامية (حكومة "طالبان") التي تمثل "حكومة العدل الإلهي" فإنها ستكون خسارة كبيرة للعالم الإسلامي، كما أن هذا الفشل يعطي الكفار ذريعة للادعاء بأن المسلمين غير قادرين على إقامة نظام حكومي أو تولي حكومة تتماشى مع معطيات العصر.
يحاول قادة الإخوان في لقاءاتهم مع "طالبان" تشجيع هذه الجماعة على الانسحاب من قرار منع المرأة من التعليم والعمل. والهدف من هذا الأمر هو محاولة لإظهار صورة أكثر اعتدالاً عن "طالبان" سعياً إلى تمهيد الطريق أمام اعتراف المجتمع الدولي بحكومتها قبل أن يؤدي استمرار العزلة الدولية إلى سقوطها، إذ إن بقاء "طالبان" في الحكم يوفر فرصة ذهبية لجماعة الإخوان المسلمين التي تبحث عن ملاذ آمن يتيح لها مواصلة أنشطتها السياسية ومخططاتها الخطرة التي تهدد الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والعالمي.