عندما كنا صغاراً، كنا نضحك على نكتة جحا عندما قرر أن يبيع حماره البليد، فذهب إلى سوق الحمير وأعطاه للدلال، وعندما جاء دوره بدأ الدلال بمدح الحمار بوصف يليق بأفضل الحمير وأعظمها، أعجب جحا بحماره فرفض بيعه وعاد بالحمار للبيت، وفي النهاية، لم يتغير شيء.
أذكر هذه القصة وأنا أقرأ تصريحات وزارة الخزانة الأميركية بأن إيرادات الحكومة الروسية انخفضت بشكل كبير في الأشهر الأخيرة بفضل "السقف السعري" لصادرات النفط الروسي، وهي فكرة أعجبت بها وزيرة الخزانة الأميركية أيما إعجاب، وفرضتها إدارة بايدن على الأوروبيين على رغم رفضهم لها، ثم جاء بعدها مستشار وزارة الخارجية لشؤون الطاقة أموس هوكستين، ليكرر كلام وزارة الخزانة، وبدأت أبواق إعلام الإدارة الأميركية تكرر الكلام نفسه، ثم بدأ البعض يهنئون أنفسهم على هذا النجاح الباهر للإدارة في تطبيق السقف السعري، لدرجة أن البعض بدأ يفكر فعلاً في كيفية نقل التجربة إلى قطاعات أخرى.
أعجبوا بالحمار، فأبقوه عندهم! وبعض من يكرر المدح يعرف ضمناً أن الحمار بليد، لكن الكل يغني الموال نفسه فغنوا معهم، لكن ما هي الحقيقة؟
هل فعلاً انخفضت إيرادات روسيا؟
الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على الأساس الذي تتم عليه المقارنة: هل نقارن مع الشهر الماضي، منذ بداية الحرب الروسية أم مقارنة مع العام الماضي؟
الغريب أنه مهما كان الأساس، فإن كلام وزارة الخزانة الأميركية ومن يكرر الكلام وراءها غير صحيح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقبل أن ننتقل للأدلة، لا بد من الإجابة عن السؤال التالي، لماذا نهتم بهذا الموضوع أصلاً، وماذا يهمنا منه، سواء قالوا الحقيقة أم لا؟
هذا الموضوع محل اهتمام لأنهم لو اقتنعوا بصحة ما يقولون، فإن وضع سقف سعري لكل سلعة يصدرها الآخرون يصبح سياسة رسمية، وهذا يشمل النفط الذي تصدره دول "أوبك" بما فيها دول الخليج، باختصار، على رغم أن ليس هناك أي أصول نظرية للسقف السعري، وعلى رغم أنه فاشل في أرض الواقع، إلا أن تكرار المسؤولين الأميركيين لفكرة أن السقف السعري خفض إيرادات روسيا، ثم اقتناعهم مع وسائل الإعلام التابعة لهم بذلك، يعني أن الأمر سيصبح سياسة، وإذا تم إظهار فشل السقف السعري على نطاق واسع فلن يتحول إلى سياسة.
مشكلة تحوله لسياسة على رغم فشله في أرض الواقع له عواقب اقتصادية وسياسية، بخاصة إذا كان رد فعل الطرف الآخر، الذي فُرض على بضاعته السقف السعري، عنيفاً، ونتج منه توتر إقليمي أو دولي.
السقف السعري وإيرادات النفط الروسية
في ما يلي بعض الحقائق التي تشير إلى أن ما تقوله وزارة الخزانة الأميركية هو حملة تضليل لا نعرف أبعادها وأهدافها بعد:
1- طبق السقف السعري منذ أربعين يوماً فقط، وأثره، إن كان له أثر، لا يظهر إلا بعد فترة، بخاصة أن الشركات الروسية لم تتسلم كل عوائدها المالية، ومن ثم فلم تدفع ضرائبها للحكومة، فكيف انخفضت إيرادات الحكومة الروسية والأموال لم تسلم بعد؟
2- السقف السعري أعلى من سعر السوق بكثير، ومن ثم فإن الشركات ستحصل على إيرادات من سعر السوق بغض النظر عن السقف السعري، فكيف خفض السقف السعري إيرادات الحكومة الروسية؟
3- انخفضت أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية في الأسابيع الأخيرة وانخفضت معها أسعار النفط والغاز الروسيين، ومن المنطقي أن تنخفض معهما إيرادات الحكومة الروسية، ولكن بسبب انخفاض الأسعار في الأسواق الدولية، وليس بسبب السقف السعري.
4- إذا نظرنا إلى الأشهر الماضية، نجد أن أسعار النفط العالمية انخفضت بمقدار 20 في المئة تقريباً، لكن أسعار النفط الروسي انخفضت بنسبة أقل، فأين هو أثر السقف السعري؟
5- إذا نظرنا إلى إيرادات النفط والغاز في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وهنا نذكر مرة أخرى أنه بدأ تطبيق السقف السعري في الخامس من ديسمبر، نجد أن الإيرادات أعلى من ديسمبر 2021، على رغم انخفاض أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية بشكل كبير، كما أن متوسط الإيرادات في 2022 أعلى من 2021 بنحو 35 في المئة، بعبارة أخرى، جنت الحكومة الروسية فوائض ضخمة خلال 2022.
6- كانت تخفيضات خام أورال قبل تطبيق العقوبات والسقف السعري بأشهر أقل من التخفيضات بعد تطبيق العقوبات والسقف السعري، فأين أثر السقف السعري؟
7- الواقع أن السقف السعري كان هدية أميركية لبوتين مقارنة مع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات صارمة من شأنها تخفيض صادرات النفط الروسي، بما أن السعر في السوق أقل من السقف السعري، فتستطيع أي شركة شحن تصدر النفط الروسي التأمين على سفنها مع شركات التأمين الأوروبية وتستطيع الحصول على كل الخدمات الغربية من دون أي إشكالية.
لماذا انخفضت أسعار خام أورال مقارنة مع أسعار النفط الأخرى؟
السوق الطبيعية لخام أورال الروسي هي أوروبا، وهو ينافس النفط الخليجي بسبب قرب المسافة نسبياً، ومع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، حصل تخبط في الأسواق، بخاصة من قبل مشتري النفط الروسي الأوروبيين، والبنوك الأوروبية التي تقدم اعتمادات بنكية، وشركات التأمين التي تؤمن على حاملات النفط الروسي، وسبب التخبط هو الخوف من تطبيق عقوبات اقتصادية قد تسبب خسائر كبيرة لهذه الشركات والبنوك، أو أن يتم جرها للمحاكم بتهمة التواطؤ من النظام الروسي، وعندما لجأت هذه البنوك والشركات لحكوماتها للحصول على معلومات وإرشادات، وجدت أن مواقف الحكومات غير واضحة. فقرر عديد من الشركات والبنوك وقف التعامل مع صادرات النفط الروسي حتى تتضح الأمور.
من ناحية أخرى، أدرك الرئيس بوتين ومستشاروه أن العقوبات قادمة، وأن أسواق النفط والغاز الروسيين بأوروبا في خطر، فقرروا تحويل الصادرات إلى آسيا، بخاصة الصين، وذلك بناءً على تجربة ناجحة بعد العقوبات التي طبقت في 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم.
المشكلة أن المسافة بعيدة جداً مقارنة مع البعد من الأسواق الأوروبية، وهذا يعني زيادة كبيرة في تكلفة الشحن، ليس بسبب المسافة فقط، وإنما أيضاً بسبب ندرة السفن التي تبحر في هذه الأماكن، ورفض كثير من شركات الشحن تحميل النفط الروسي، نتج من ذلك ارتفاع كبير في تكاليف الشحن، هذا يعني أنه حتى يخفف الصينيون والهنود اعتمادهم على دول الشرق الأوسط وأفريقيا والولايات المتحدة، يجب أن ينخفض سعر خام أورال بمقدار فرق تكاليف الشحن من جهة، وبمقدار يغريهم بالشراء على حساب الخيارات الأخرى من جهة أخرى، هذا الانخفاض حصل من دون وجود السقف السعري وقبل أن يذكر أي شخص هذا التعبير أصلاً.
خلاصة القول إن ترويج وزارة الخزانة الأميركية لفكرة أن السقف السعري خفض إيرادات النفط الروسية ليس له أي أساس من الصحة، سواء نظرياً أو عملياً، ويجب توخي الحذر عند سماع هذه الأخبار لأن نتائجها النهائية قد تكون سيئة على الجميع، بخاصة إذا جاء جيل جديد من السياسيين الذي بلعوا الطعم واقتنعوا تماماً بنجاح سياسة السقف السعري.
بعبارة أخرى، فعلوا كما فعل جحا وعادوا بالحمار إلى البيت.