البصرة أول مدينة بناها العرب المسلمون زمن الخليفة عمر بن الخطاب عام 14 للهجرة، على يد القائد العربي عتبة بن غزوان، لتسجل كأولى المدن العربية تأسيساً ونشأة مع توأمها الكوفة بوسط العراق، وكانت البصرة منطلقاً للعرب في فتوحاتهم نحو الشرق، حين جابت جيوشهم أرجاء العالم إلى أن وصلت حدود الصين.
تاريخ حافل
كانت البصرة على مر تاريخها مسرح عمليات لجيوش الفتح العربي خارج حدودهم الطبيعية، وتوصف بأنها أرض قمع الفتن وصد الغزوات، وميناء العراق الوحيد ومنفذه على البحر، وتاريخ البصرة حافل بأحداث جسام، ففيها تواشجت الحضارة والعمران مع الفتن والغزوات والثورات والخراب، ولجأ إليها الثائرون والعصاة أمثال الخوارج والزنج، وتآمر فيها وعليها المتآمرون ضد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية معاً.
لكنها كانت أيضاً موئل الرجال الشجعان والقادة العظام في التاريخ، ومركز العلم وصنعة الفكر والاجتهاد، ففيها كتب أبوالأسود الدؤلي الحرف العربي منقطاً، وصاغ الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب "معجم العين" أوزان الشعر، وأسست أول مدرسة لعلوم العربية وصروفها، وكانت مدينة النحاة كونها المركز الفكري للقواعد اللغوية، وظلت مقصد الشعراء والأدباء وعلماء الفلك وعلوم الأنساب.
في حقبة من تاريخها كانت هي المدرسة الأولى للغة والنحو وعلم الكلام، لا تنافسها في مشرق الأرض ومغربها غير مدرسة الكوفة الأصولية، وبرز من علمائها الأصمعي، والحسن البصري، وأبوالأسود الدؤلي، وأبوعلي الفارسي، وابن سيرين، والفرزدق، والجاحظ، وسواهم من المفكرين والمجتهدين في عالمنا.
اختيار المدينة
لم يكن بناء البصرة واختيار موقعها صدفة، حيث تقع عند ضفتي دجلة والفرات، ويحدها شط العرب من جهته اليمنى لغرض تحصينها من غزوات فارس، ومعنى البصرة هو المكان ذو الطرق الكثيرة لأنها تقع على تفرع أنهار صغيرة درست على مر التاريخ.
تولاها غالب الولاة من الصحابة لأهميتها ومكانتها السياسية والعلمية والاقتصادية، حتى بلغت أوج ازدهارها في العصر العباسي الأول، حين صارت مركزاً تجارياً مهماً، إضافة إلى كونها مركزاً ثقافياً وفكرياً ذاع صيته في العالم، ويأتي إليه الباحثون والشعراء من كل حدب وصوب للتباري والمنافسة في فنون الشعر بـ"مربد البصرة" الذي صار ظاهرة ومهرجاناً ثقافياً عربياً وعالمياً، مما جعلها حافلة بكبار الشعراء العرب الذين يتوافدون إليها من الأمصار، ويحج إلى مجالسها كبار العلماء، ويؤم مكتباتها كثير من طلاب العلم والأدب وأهل المعرفة والدارسين للمذاهب وعلوم الصرف والكلام.
خراب البصرة
لكن على رغم شهرتها وأمجادها فلم تنج البصرة من الغزوات منذ القرن الثالث الهجري، حين غزاها القرامطة عام 312 للهجرة، فنهبوا المدينة، وقبلها استباحتها ثورة الزنج عام 257 للهجرة، وحرقت البصرة مرات، كما نهبت واستبيحت أطواراً، وشهدت غزوات واحتلالات مزقت إرثها ونالت من زهوها وكبريائها، لكنها تموت وتحيا واقفة.
وكانت الكارثة الأكثر وقعاً عليها هي غزو المغول لها سنة 656 هجرية، حين أحرقوا كل ما له صلة بتاريخ البصرة ودمروا مبانيها ومكتباتها، وشاع عند ذاك تعبيرات مثل "خراب البصرة"، حتى سقطت على يد الترك عام 941 هجرية، ثم الفرس عام 1190 هجرية، وتنازعتها دولتا السلاجقة الأتراك والبويهيين الفرس حتى آلت إلى العثمانيين بشراكة القبائل العربية الساكنة في البصرة وحواليها عام 1193 هجرية.
ظلت البصرة ولاية عثمانية حتى الحرب العالمية الثانية في مطلع القرن الماضي إلى أن دخلها الجنرال البريطاني مود عام 1914 بعد مقاومة عنيفة من أهلها، ليعلن أنه محرر لا فاتح، لكن العراقيين ثاروا عليه عام 1920، وأنشأوا الدولة العراقية الحديثة المؤلفة من ثلاث ولايات هي بغداد والبصرة والموصل، ثم قسموا الولايات إلى ألوية وأقضية ونواح.
رحلات السندباد
عرفت البصرة في العالم بأنها تاريخ ألف ليلة وليلة، والسندباد الرحالة الأسطوري، ومشتى الخليج، ومحجة الفقهاء، وثغر العراق، وأرض شجرة آدم في القرن، وفيها يتعانق النهران دجلة والفرات في مدينة القرنة بعد أن يقطعا ما يقرب من ألف كيلومتر، ولقبت بأم العراق، وخزانة العرب، وعين الدنيا، وذات الوشاحين، والزاهرة، وقبة العلم والفيحاء، وخزانة الأدب، ومن أسمائها الرعناء لاختلاف هوائها في النهار الواحد، والشماء، وسيدة النخيل، لكن الوصف الذي طغى عليها هو الفيحاء من ضمن أربعين وصفاً للبصرة، ومنه جاء قول الفرزدق "لولا أبو مالك المرجو نائلة/ ما كانت البصرة الفيحاء لي وطناً"، حيث كان الفرزدق تردد على الكوفة ليطلب إجازة الشعر من الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وحين أسمع علياً شعره طلب منه أن يحفظ القرآن ويتعلم معانيه وبلاغته ثم يأتيه في العام المقبل، ففعل الفرزدق وانكب على الدرس في البصرة على يد المفسرين والنجاة ثم جاء وأنشده، فقال له علي "أصبحت شاعراً، امض"، فعاد إلى البصرة وظل وفياً لآل بيت الرسول حتى وفاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شاعت علوم البصرة في مشارق الأرض ومغاربها، حتى غدت محجة العلوم الصرفة في الرياضيات والفلك والفيزياء والبصريات، إضافة إلى علوم اللغة والنحو والكلام، فكثر حسادها وتدخل لوقفها عتاة مناوئيها حتى صارت تعاني كثرة الوافدين الخصوم عليها، وتحولت إلى أجواء المنافسة مع غيرها، وصارت ملاذاً للمعارضين والخارجين على الحكم في الكوفة وبغداد، مما جعلها غير آمنة على رغم وصايا الخلفاء في شأنها، وتوافد الأجانب عليها، لا سيما الأعاجم الذين تدخلوا كثيراً في حياة ناسها وهددوا تحصيناتها .
حرب السنوات الثماني
تعرضت البصرة لأكبر تحدياتها إبان الحرب العراقية - الإيرانية، حيث احتمت الجيوش العراقية لثماني سنين بين ظهرانيها، وكانت الفرق العراقية تكمن بين نخيلها، ويتوسد جنود المشاة وأطقم الدبابات شط العرب تحت القصف المستمر من طرفي النزاع، وكانت أحياؤها تقصف كل ساعة حتى استحالت المدينة وتوابعها إلى ساتر طويل يتلقى المدافع ويصد الحشود، ولاذ الناس فيها بالخنادق واحتموا بالمتاريس ليدرأوا عن حياتهم زخ الرصاص وشظايا القنابل.
لكن البصريين لم يبرحوا مدينتهم التي كانت تخترق بين حين وآخر، حتى توقفت الحرب التي احترق فيها الأخضر واليابس، وقتل مئات الآلاف من سكانها ودمر النخل، وفقدت المدينة إلى الأبد أمنها وحياتها الطبيعية، وتريفت أحياؤها، ونقصت أعداد البصريين الأصليين، وكثر الوافدون من قرى المحافظات الأخرى، طلباً للعيش والعمل، وكثير منهم جاؤوا مقاتلين واستوطنوها.
يقول الكاتب العراقي جمال العتابي عن حال البصري بعد أربعين سنة من عمر الحرب التي تركت ظلالها على حياة الناس "البصري يحيلك دائماً إلى أشياء ضائعة افتقدها، إلى مسرح كان عامراً قبل عقود ولم يعد له أثر الآن، وإلى دور سينما حلم بها الناس، وإلى مقاه فقدت نكهتها أو أغلقت أبوابها أو أزيلت، لا سيما تلك التي تمتد على ضفاف شط العرب والعشار. البصرة تتنفس الحزن مع غبار الملح والرطوبة التي تخنق الأنفاس، غير أنها تخلع عنها هذا الرداء أحياناً، فالفرح حال طارئة، ولا يكاد يكون هناك شيء تبدل بشكل جوهري وحاسم: شارع الوطني، الخورة، العشار، أم البروم، سوق الهنود، المكتبة العامة، الإعدادية المركزي، هذه الأماكن وأشياء أخرى تحفظ صورة مدينة تنام على قلق، وتحلم بالنهوض ذات صباح من دون أن تسمع لعلعة الرصاص وقعقعة السلاح في الطرقات".
ضيوف طال انتظارهم
تمد البصرة أجنحتها من جديد لتحلق بشقيقاتها الخليجيات، فهي ذات تاريخ طويل من التفاعل مع بلدان المنطقة، واتضح ذلك في تنظيمها دورة كأس الخليج العربي 25، وقدوم الفرق العربية الخليجية بتسهيلات وترحاب منقطع النظير، فهي المدينة الأكثر استعداداً لتأكيد التقارب والتفاعل مع بلدان الخليج العربي، كونها تملك إرثاً اجتماعياً طويلاً معها، كما تملك ثلثي ثروة العراق النفطية، وتحظى بإمكانات كبيرة للقيام بعمل اقتصادي هائل.
يقول متخصص الاستكشافات النفطية العراقي قاسم عبدالوهاب، وهو بصري "البصرة قد تكون منقذة للوضع العراقي، وهي فعلياً كذلك، لأنها تحتوي على ثلثي نفط العراق المغذي الرئيس للميزانية بنسبة 80 في المئة، وهذه الحال تؤهلها لأن تكون لها الكلمة في جميع الملفات العراقية إذا ما توافرت فيها إدارة كفؤة، إضافة إلى أنها عرفت تاريخياً بأنها مدينة التسامح، وليس فيها أي تقاطع أو صراع عرقي أو قومي أو طائفي، ولم تبن مجتمعياً على أساس عشائري بل قامت على أساس عائلي أسري، فهي مكونة من بيوتات عريقة مثل النقيب باشا وعيان الخضيري والنعمة والسعدون وبركات وعبدالواحد والإبراهيم والفرحان واللعيبي وآل مسافر والعبادي والفايز وغيرها، على خلاف مدن الجنوب الأخرى التي قامت على القبائل والعشائر، لذلك فقد تصاهرت عائلات البصرة وتفاعلت اجتماعياً وتواصلت من دون اعتبارات طائفية أو عرقية، وامتد ذلك إلى بلدان خليجية قريبة ذات صلات تاريخية معها، لا سيما الأسر العربية في الزبير، وأبو الخصيب".
ويؤكد قاسم "لا بد من القول إن آخر إحصاء سكاني معتمد في العراق هو إحصاء عام 1957، الذي جرى أواخر الحكم الملكي في العراق (1920 - 1958)، وثبت فيه أن سكان البصرة الأصليين يشكلون 75 في المئة من عموم السكان فيها، بينما يشكل الوافدون إليها 25 في المئة، وهم قادمون إليها من محافظات أخرى للعمل والإقامة، لكن تغيرت هذه النسبة خلال الستين عاماً الماضية، لتكون 25 في المئة لأهل البصرة الأصليين، قبالة 75 في المئة للوافدين، ومع هذا بقيت قيم وعادات وسلوك أهل البصرة طاغية على الوضع الاجتماعي، وانعكس ذلك على الوافدين، كما اتضح ذلك لدى تنظيم "خليجي 25" من خلال الكرم والترحيب الذي حظي به عرب الخليج بروح بصرية طاغية.
استعادة العراق العربي
إقامة "خليجي 25" انعكست على مجمل الحياة في البصرة والجنوب العراقي عموماً. يقول الأستاذ الجامعي نبيل الأمير "ثمة أسئلة يرددها العراقيون في إطار هذه الدورة، هل تكون بوابة إعادة العراق إلى الحضن العربي؟ وهل ستكون البصرة حصان طروادة العرب لدخول العراق من جديد؟ وهل ستقبل الدول التي خططت ونفذت استراتيجية فصل العراق عن محيطه العربي بالهزيمة وتترك العراق للعرب؟ هذه الأسئلة وسواها تدور في وقت تعيش البصرة أزهى وأبهى حالاتها الاجتماعية والإنسانية بينما تحتضن بطولة كأس الخليج العربي".
ويضيف "أعتقد جازماً أن ما يحدث في البصرة اليوم لم يكن اعتباطياً أو عشوائياً، أو ثورة عواطف وقتية تزول بانتهاء هذه البطولة، ما يحدث هو إرادة سياسية جادة تم اتخاذها من جهة مدركة تريد أن يرجع العراق إلى العرب في هذا التوقيت الحساس من عمر المنطقة والعالم، لذلك أجزم بأن البصرة والعراق قبل بطولة (خليجي 25) ليسا هما أنفسهما بعد البطولة".
لنترك البصرة تحتفي بأشقائها العرب، وتفتح دواوين بيوتها الطيبة لأهل الخليج الذين لم يكتفوا بها وسافروا إلى أرجاء العراق تحفهم حفاوة العراقيين أينما حلوا.