Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدم الذي أخذ سوريا إلى مصر

اغتيال العقيد عدنان المالكي والمقدم غسان جديد

العقيد عدنان المالكي (ويكيبيديا)

منذ بداية #القرن_العشرين هزّت #العالم_العربي عمليات اغتيال كثيرة غيّرت في مسارات الأحداث والتطورات وبدلت في تاريخ المنطقة. معظم هذه #الاغتيالات تم بالرصاص قبل أن تتحول إلى عمليات تفجير، وأكثرها كان نتيجة الصراع السياسي. "اندبندنت عربية" تفتح بعض ملفات هذه الاغتيالات وفي هذه الحلقة نتناول قضية اغتيال العقيد في الجيش السوري عدنان المالكي في دمشق والمقدم المسرّح منه غسان جديد في بيروت.

ثمّة روابط كثيرة بين التطورات التي حصلت في مصر في مرحلة خمسينيات القرن الماضي وتلك التي حصلت في سوريا من حيث الانقلابات العسكرية والسياسية إلى حين حصول الوحدة بين البلدين تحت قيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وإذا كانت محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1954 سرّعت في وصوله إلى الرئاسة وفي عزل الرئيس محمد نجيب، فإن اغتيال العقيد عدنان المالكي في سوريا ثم اغيتال المقدم غسان جديد في بيروت سرّعا من خطوات جعل عبد الناصر رئيساً لسوريا أيضاً بعد الوحدة بين البلدين.

بين القاهرة ودمشق

في عام 1952 نجحت مجموعة الضباط الأحرار في إنهاء مرحلة حكم النظام الملكي في القاهرة. كان البكباشي جمال عبد الناصر في خلفية الصورة والحركة. وبعد عامين أزاح "الرجل الواجهة" اللواء محمد نجيب وقفز إلى الرئاسة. بعده ستتوالى عمليات الانقلابات في العالم العربي. قبله لم تكن الانقلابات التي حصلت في سوريا إلا مجرد حركات محدودة لم تستطع أن تصنع من سوريا دولة قوية. انقلاب حسني الزعيم في 30 مارس (آذار) 1949 انتهى بعد ستة أشهر بانقلاب آخر في 14 أغسطس (آب) 1949 قاده العقيد سامي الحناوي. ولم يطل الأمر حتى كان انقلاب العقيد أديب الشيشكلي الأول في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1949. إذ كان الحناوي أعدم حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي فقد زجّ به الشيشكلي في السجن قبل أن يسمح له باللجوء إلى لبنان حيث اغتاله في 30 أكتوبر، شخص يُدعى حرشو البرازي انتقاماً لقريبه محسن البرازي.
ليل 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1951 نفذ الشيشكلي انقلابه الثاني، فألغى رئاسة هاشم الأتاسي الذي أتى به رئيساً للجمهورية من أجل أن يتولى شخصياً الرئاسة بعد استفتاء في العام 1953. ولكن ما بدأ بانقلاب انتهى بانقلاب عليه في 25 فبراير (شباط) 1954. سمح له الإنقلابيون باللجوء إلى لبنان فلجأ إلى السفارة السعودية قبل أن ينتقل إلى فرنسا ثم إلى البرازيل. هناك في 27 سبتمبر (أيلول) 1964 اغتاله نواف غزالة من دروز السويداء، انتقاماً للحملة العنيفة التي قام بها الشيشكلي ضد جبل الدروز.

في مارس 1954 فشلت محاولة الرئيس محمد نجيب للتخلص من مجلس قيادة الثورة ليصبح بعدها عبد الناصر الحاكم الأول في مصر. بالتزامن مع هذا الحدث أعيدت الرئاسة السورية إلى هاشم الأتاسي ومع صعود نجم عبد الناصر عربياً أعيد الرئيس الأول للجمهورية السورية بعد الاستقلال شكري القوتلي إلى الرئاسة ولكن في الظل كان العقيد عبد الحميد السراج رجل الاستخبارات القوي يقبض على مفاعيل السلطة قائداً مرحلة التحضير للوحدة المصرية - السورية التي أُعلنت في 22 فبراير 1958 ووضعت سوريا تحت الحكم الناصري. في خضم هذا المسلسل من الانقلابات والإعدامات كانت عملية اغتيال العقيد في الجيش السور ي عدنان المالكي في 22 أبريل (نيسان) 1955، ثم اغتيال المقدم المسرّح من الجيش السوري، عميد الدفاع في الحزب السوري القومي الاجتماعي، في بيروت غسان جديد في 19 فبراير 1957، وهو الذي اتُهم بأنه كان وراء اغتيال المالكي ووراء محاولة انقلاب فاشلة في خريف العام 1956، ضد النظام السوري الذي قام بعد الانقلاب على الشيشكلي.


ضابطان وتوجهان

التحق عدنان المالكي بالكلية العسكرية في حمص وتخرّج منها عام 1939 برتبة مرشح ضابط، ورُفع عام 1940 إلى رتبة ملازم ثانٍ، وخدم في الجيش في قطاعات مختلفة حيث كانت تُسند إليه مهمات تدريب الجنود والرقباء، كما عُيِّن مدرباً في الكلية العسكرية. خدم في الجيش السوري تحت إمرة القيادة الفرنسية وكان في عام 1948 آمراً لدورة في الكلية العسكرية حين نشبت حرب فلسطين فالتحق مع عناصر الكلية بالجبهة العسكرية وتسلم قيادة سرية مشاة مؤلفة من عناصر احتياطية وقد أصيب بجرح بليغ في رأسه ثم أسندت له قيادة الفوج الثامن الذي قام هو بتشكيله وتدريبه.

اشترك المالكي في تنفيذ انقلاب حسني الزعيم في 30 مارس 1949، كما حاول في عهد أديب الشيشكلي أن يقود حركة تمرد ضده، أدت إلى اعتقاله وبقائه في السجن ما يزيد على سبعة أشهر. وبعد الانقلاب على الشيشكلي عاد عدنان المالكي إلى الجيش وتسلم منصب معاون رئيس الأركان العامة ورئاسة شعبة العمليات، وكان محسوباً على حزب البعث وشقيقه قيادي فيه، ويعمل على توظيف الجيش لمصلحته.
في المقلب الآخر، كان الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد إعدام زعيمه أنطون سعادة ركز نشاطه في سوريا بعد لجوء قيادته إليها، مستفيداً من مرحلة حكم الشيشكلي الذي كان متعاطفاً مع الحزب وقريباً من قيادته. في ظل الصراع على سوريا التي كانت تمرّ بمراحل قلقة واضطرابات وانقلابات متتالية كان شدّ العصب داخل الجيش السوري يتركز بين المجموعة المتجمّعة حول البعث وأبرز وجوهها العقيد المالكي، والمجموعة المؤيدة للحزب القومي وأبرز وجوهها المقدّم جديد، بينما كانت هناك عملية تكوين لتوجه عام سياسي وعسكري يتّجه نحو الوحدة مع مصر وقد بدأ يمثله العقيد عبد الحميد السراج الذي كان صار رئيساً للشعبة الثانية خصوصاً بعد عودة الرئيس السابق شكري القوتلي إلى سوريا وتوليته رئاسة الجمهورية في 5 سبتمبر 1955.

قتله وانتحر

صباح الخميس 21 أبريل 1955، اتصل السفير المصري في سوريا محمود رياض بالعقيد المالكي ودعاه للمشاركة معه في حضور مباريات كرة قدم بين فريق الجيش السوري وفريق السواحل المصري في 22 أبريل. كان المالكي ينوي التوجّه إلى لبنان للقاء خطيبته في صيدا ولكنه عدل عن هذا الأمر وقرر مشاهدة المباراة التي ستجرى بالملعب البلدي في دمشق، قرب الأرض التي أقيم عليها معرض دمشق الدولي.
كان أول الواصلين إلى المنصة الرئيسة، الملحق العسكري المصري في سورية جمال حماد، والذي كان جالساً في الصف الثاني من المنصة، تبعه العقيد المالكي الذي جلس موقتاً بجانبه ليتحدّث معه، وفي هذه الأثناء دخل راعيا المباراة، رئيس الأركان شوكت شقير والسفير المصري في سورية محمود رياض، فجلسا في الصف الأول. وبعد قليل أقبل العميد توفيق نظام الدين، أحد قادة الجيش السوري، فأخذ مكانه في الصف الثاني على يمين جمال حماد، عندها ترك عدنان المالكي الصف الثاني وجلس في المكان المخصص له في الصف الثالث.
ابتدأت المبارة في الساعة الرابعة. وبعد دقائق، انطلق طلقان ناريان، فانبطح جميع من كانوا في المنصة على الأرض، وعندما حاول البعض النهوض، سُمع صوت طلقة ثالثة، وبعدها توقف إطلاق النار فقام الجميع ليجدوا أن العقيد عدنان المالكي يترنّح على مقعده، والدم ينسكب منه، وخلفه على الأرض رقيب من الشرطة العسكرية، اسمه يونس عبد الرحيم، كان مصاباً بطلقة في رأسه. أظهرت التحقيقات السريعة والمشاهدات أن عبد الرحيم أطلق النار على المالكي ثم انتحر وأنه ينتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. قبل هذا الحادث بثمانية أيام كان المالكي قد أمر بتسريح المقدم غسان جديد من الجيش. بسرعة قياسية حصلت هجمة مرتدة من الاستخبارات السورية على الحزب السوري القومي الاجتماعي فتم حظره واعتقال قيادييه ومن بينهم أرملة أنطون سعادة، جولييت المير، وتمكّن رئيس الحزب جورج عبد المسيح وعدد من مساعديه من الهرب والعودة إلى لبنان. وكذلك فعل غسان جديد الذي اتُهم بأنه خطط لعملية الاغتيال التي تحولت إلى عملية لتصفية وجود الحزب السوري القومي في سوريا و"تطهير" الجيش من مؤيديه.
انتحار يونس عبد الرحيم أعاد إلى الأذهان حادثة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رياض الصلح التي نفّذها في الأردن، ثلاثة من الحزب السوري القومي قُتِل من بينهما اثنان، ميشال الديك الذي أصيب قبل أن يجهز عليه رفيقه محمد صلاح بإطلاق رصاصة على رأسه بناء على طلبه حتى لا يتم اعتقاله، ثم حاول صلاح الانتحار ولم يُقتَل فكرر المحاولة في المستشفى ومات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


القاتل المقتول

ليل الأربعاء 17 يونيو (حزيران) 2020 توفي في بيروت، غيث جديد ابن المقدم غسّان جديد، عميد الدفاع السابق في "الحزب السوري القومي الاجتماعي". وقد تم دفنه في اليوم التالي في مدافن الباشورة وتقبلت العائلة التعازي على الهاتف، بسبب تدابير التباعد الاجتماعي خوفاً من عدوى فيروس كورونا.
في 8 مايو (أيار) 2018 كانت توفيت والدة غيث، سهيلة جديد، وتم دفنها في بلدتها، دوير بعبدا، في قضاء جبلة في سوريا في 10 مايو وتم تقبُّل التعازي في نادي خريجي الجامعة الأميركية في بيروت. إنها قصة عائلة جديد السورية التي أقامت في لبنان وهي تختصر صورة تداخل المصائر بين لبنان وسوريا وبين اللبنانيين والسوريين.
في 19 فبراير 1957 اهتزّ لبنان لخبر اغتيال المقدم في الجيش السوري غسان جديد في بيروت. كلّفت الاستخبارات السورية بقيادة عبد الحميد السرّاج أحد عملائها، عزّت شعث الفلسطيني السوري بالمهمة. تخفى شعث بمهنة بائع مكانس أمام مركز إعلامي للحزب القومي كان جديد يتردد إليه بصفته مدير وكالة أنباء تابعة له مع أنه كان يتخفّى باسم مستعار منذ انتقل إلى لبنان، وعندما وصل بسيارة تقله أطلق عليه شعث النار من رشاش ساموبال تشيكي وأصابه باثنتي عشرة طلقة أدت إلى مقتله. بعد ملاحقته للقبض عليه، لجأ القاتل إلى إحدى البنايات بدل أن يفرّ إلى الجهة الأخرى حيث كانت تنتظره سيارة مرسلة من الشعبة الثانية السورية لتهريبه، وبعد إصابته واعتقاله تمكّن عزيز ديوب، مرافق غسان جديد، وأحد أعضاء الحزب "السوري القومي الاجتماعي"، من قتله مفوّتاً على الأمن اللبناني فرصة القبض عليه واستجوابه وليتيح للمكتب الثاني السوري فرصة نفي التهمة عنه وبأنه خطط للعملية.


محاولة انقلاب فاشلة

لم تكن تهمة اغتيال المالكي هي وحدها التي تلاحق جديد وقد صدر بنتيجتها حكم بإعدامه. في خريف عام 1956 اتُهم جديد بالمشاركة في محاولة انقلاب على النظام في سوريا خطط لها الحزب "السوري القومي الاجتماعي"، بمساعدة النظام الملكي في العراق ضد حكم الرئيس شكري القوّتلي ورجل استخباراته القوي عبد الحميد السرّاج، ولكن العملية فشلت بعد اكتشافها في منتصف أكتوبر بعد انقلاب شاحنة أسلحة منقولة من لبنان إلى سوريا بسبب تعرّضها لحادث مرور، وبعدما كانت الشعبة الثانية السورية تمكنت من اختراق المخطّطين للعملية من خلال عدد من عملائها. كان لبنان يشكل وقتها أيضاً ساحة للعبور إلى دمشق وكانت محاولة الانقلاب تلك تستهدف وقف عملية الاندفاع، في اتجاه قيام الوحدة بين مصر وسوريا بقيادة جمال عبد الناصر التي كانت ستواجه قيام حلف بغداد. وقد اتهم جديد بأنه كان قائد الانقلاب واتهم أيضاً الرئيس السابق أديب الشيشكلي بأنه مشارك في التخطيط والتنفيذ.
لم تكن أيضاً تلك هي المحاولة الأولى لاغتيال جديد. إذ اتصلت الاستخبارات السورية بمشهور دندش العضو في "الحزب السوري القومي" بعدما قدمه إليها أحد عملائها الموثوقين وعرضت عليه المشاركة في اختطاف غسان جديد وتسليمه إليها، مقابل مبلغ 50 ألف ليرة لبنانية بموجب شك، و5000 ليرة لبنانية نقداً لقاء النفقات النثرية أثناء التحضير لتنفيذ العملية. أخبر دندش قيادة الحزب بكل خطوات التفاوض، فطلبت منه الاستمرار بهذه اللعبة إلى النهاية.
وبالفعل سلموه الشيك والمبلغ النقدي، وأُعدت الخطة لتسليم غسان جديد في بيت منعزل على البحر، عن طريق دعوة الأخير لتناول الطعام فيتم خطفه. أرسل السراج لهذه الغاية أحد مساعديه الضابط راشد قطيني مع مساعد له ولكن بعد جلوسهما في المطعم دخل عليهما غسان جديد مع عناصر من الحزب القومي واعتقلوهما. وبعد مضيّ أكثر من عشرين يوماً تدخل رئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون وطلب من الحزب تسليم المعتقلين، وهكذا تم تسليمهما إلى الحكومة اللبنانية التي بدورها سلمتهما إلى الحكومة السورية.
غسّان جديد هو شقيق اللواء صلاح جديد شريك حافظ الأسد في انقلاب "حزب البعث" في 8 مارس 1963، وتمكّن من قيادة الثورة في عام 1966 بعد الانقلاب على الرئيس أمين الحافظ. ولكن حافظ الأسد نجح في الانقلاب عليه في عام 1970 وزجّه في سجن المزّة حيث أمضى 23 عاماً، ولم يخرج منه إلا إلى مثواه الأخير في 19 أغسطس 1993.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات