مما يُحدَّد به المتخيَّل الاجتماعي أنه الطريقة التي يتخيل بها الناس العاديون محيطهم الاجتماعي، وهو ما يتجسد في القصص والأساطير والصور (تشارلز تايلر). ويتصل بذلك القولُ بالجماعة الطائفية أو المذهبية كجماعة متخيّلة، مما لعله يكون المفتاح (الماستر) للقول في التعبير الروائي اللبناني عن الصراع المذهبي والطائفي الذي لا يكاد يفتر حتى يحتدم، سواء في العقود الأربعة الماضية من الحرب الأهلية واستتباعاتها، أم في زمن الريادة، حيث يبدو أنه لازال لدى الروايات الرائدة ما تقوله، إنْ في الصراع بين الطوائف والمذاهب، أو في الطائفة الواحدة والمذهب الواحد.
"حسناء بيروت"
ظهرت هذه الرواية سنة 1898 للمطران جرمانوس معقد (1853- 1912) الذي وُلِدَ بدمشق، وعمل مطراناً باللاذقية، وقضى أغلب حياته في لبنان. ويتمحور الصراع في الطائفة المسيحية بين المذهب الكاثوليكي والمذهب البروتستانتي، عبر قصة حب فيليب وليلى. فالشاب مال عن كاثوليكية أبويه وحبيبته إلى البروتستانتية، ما جعل ذوي ليلى يجبرونها على قطع حبل الوداد، فالتجأت إلى الدير، بينما تزوج الشاب من "سفلة القوم". لكنه تاب بعد حين، وكتب إلى ليلى متذللاً ومستغفراً، فكتبت له مهنئة، وزالت الغمة التي ملأها الكاتب بالتشنيع على الفلاسفة وعلى الملاحدة وعلى الأجانب الذين يشربون الخمر.
"حُسْن العواقب أو غادة الزاهرة"
ظهرت هذه الرواية سنة 1899 لزينب فواز (1846-1914). والصراع هنا ضمن المذهب الواحد (الشيعي)، هو صراع على السلطة في بلدة تبنين من الجنوب اللبناني، وذلك عبر قصة حب أيضاً بين شكيب وابنة عمه فارعة التي ينافسه عليها ابن عمها تامر، كما ينافسه على الصولجان، فيدبر اختطاف فارعة مرتين، كما يدبر قتل شكيب الذي ينجو، ويهزم تامر بعون حتى من والد تامر. وهذا الشكل من الصراع ضمن المذهب الواحد، والذي لا يقل شراسة عنه بين المذاهب أو الطوائف، هو الشكل السياسي في جوهره، والغالب والمستمر في الحياة كما في الروايات.
"قلب الرجل"
هذه رواية لبيبة هاشم (1882-1952) التي تعدها يمنى العيد بحق رائدةً حداثية. وقد صدرت "قلب الرجل" عام 1904. وكانت حكومة دمشق قد نادت لبيبة هاشم عام 1919 لتكون أول امرأة تنهض بوظيفة المفتشة في وزارة المعارف.
سمّت رواية "قلب الرجل" الصراع المسيحي الدرزي في زمن ما سمته "الفتنة الأهلية"، وهي تعني الصراع الطائفي والمذهبي الذي اندلعت حرائقه في جبل لبنان عام 1860، وكاد شررها أن يحرق الشام أيضاً. وقد رسمت الرواية الفوضى والترويع اللذين عصفا بالجبل، فكان الشتات المسيحي عن دير القمر وبيت الدين، وكانت قصة الحب بين المسيحيّين حبيب وفاتنة التي ما كان حبيب يعلم إلا أنها درزية. فقد نشأت فاتنة في بيت سيد المختارة الجنبلاطي كابنةٍ له، بعد فقدها ذويها، كما تروي هي للكاهن، الذي صعقه أن تكون ابنة عدوه اللدود في بيته. ومن خطفٍ وقتلٍ وجنودٍ وصداقةٍ وكراهية وحب، تنتسج خيوط الرواية، وترسل نداءها من قرن إلى قرن، ليبلغ العنف اللفظي والمادي المتفجر للتوّ في (قبر شمون). إنه نداء الحب الذي يغالب العماء العصبوي ويغلبه.
"غادة بصرى"
صدرت هذه الرواية لأمين ناصر الدين (1876 - 1953) عن مطبعة الصفاء في عاليه 1911. وقد قدم الكاتب لروايته التي وصفها بأنها تاريخية فكاهية. وفي المقدمة أعلن أن أفضل الروايات "ما امتزجت فيه فائدة الحقيقة بفكاهة الخيال". وكما درجت العادة في زمننا، يبكّر أمين ناصر الدين بالقول إنه سيذكر أشخاصاً، عملاً بالطريقة الروائية: "أبوهم الوهم، وأمهم المخيلة (...) فما كان في أسماء الأشخاص التي ترد في الرواية مقرونة بنجمة، فهو مما ولّده الخيال".
تعود رواية "غادة بصرى" إلى الصراع السني الدرزي في منطقة بصرى من حوران جنوب سوريا. وتعود الرواية إلى ثورة الدروز على إبراهيم باشا في الكرك من ذلك الجنوب أيضاً. وتحت وطأة الاستطراد التاريخي، وفجاجة المعلومة، تمضي الرواية مثقلةً بالمصادفات والمفاجآت، وبإلحاح الكاتب على ذمّ السنّة ووصفهم بالهمجية، محرضاً للدولة العثمانية عليهم بسبب ثوراتهم ضدها، وبالمقابل يلح الكاتب على مديح الدروز.
من روسيا إلى منطقة بصرى تهاجر الأسرة الشركسية، ويقتل آل منصور الخليل منها زينب التي يريدها ابن القاتل زوجة، فترفضه، فيسجنها في بيته حتى يخلصها منه حبيبها الدرزي هاني، بينما يكون شقيقها أحمد قد صار ضابطاً في الجيش العثماني. وحين ينفجر الصراع بين الدروز وآل الخليل السنّة، يتشارك العاشقان هاني وزينب في ثورة الجبل ببطولة خارقة، كما ترسل الدولة العثمانية بأحمد ليؤدب عصيان الكرك. وإذ يؤسر هاني ويُنْفَى إلى الآستانة، يتدخل أحمد بعد حوادث إعدام الدروز، فيطلق سراح هاني الذي ينضم إلى المقاتلين في طرابلس (ليبيا) ضد الإيطاليين، ثم يعود ليتزوج من زينب.
"بين عرشين"
وهذه الرواية الصادرة عام 1912 لفريدة عطية (1867- 1917)، كرواية أمين ناصر الدين، تقع تحت وطأة التأرخة لسقوط عبد الحميد الثاني. لكن رواية "بين عرشين" تبرأ من العصبوية الطائفية والمذهبية والقومية، كما يتجلى فيما ترسم من المجازر الأرمنية (المسيحية) التي ارتكبها الأتراك المسلمون، وكما يتجلى أيضاً في الشخصيات الروائية من النساء اليهوديات. وقد نقلت فريدة عطية من رسالة شيخ الأزهر سليم البشري إلى مسلمي الأناضول، إدانته للمجازر، ومن الرسالة: "لقد قرأنا في الجرائد المحلية إشاعات سيئة وأخباراً حزينة جداً عن بعض المسلمين في بعض الدول العثمانية التي تشير إلى أن بعضهم يهاجمون المسيحيين. ووجدنا من الصعب تصديق ذلك، لأن الدين الإسلامي ينهي عن الاعتداء والهجوم، ويحرم سفك الدماء وإلحاق الأذى بالأشخاص، سواء أكانوا مسيحيين أم يهوداً".
"عطّار القلوب"
شغلت الطائفية والمذهبية ما شغلت من كتابتي الروائية والنقدية، وحسبي أن أذكر كتابي "أخيولات روائية عن القمع والطائفية" (2015)، لكن وكد الكتاب كان في الرواية في سوريا. على أن الصراع الطائفي والمذهبي في لبنان كان حاضراً في بعض الروايات في سوريا. ومن ذلك ما يصلح خاتمة هنا، أعني رواية محمد برهان "عطار القلوب" (2014) التي شبكت ما كان في لبنان عام 1860 بما تعيشه سوريا منذ 2011. فقد عادت الرواية إلى ما سمته لبيبة هاشم "الفتنة الأهلية"، ورسمت أحوال النازحين من جبل لبنان والبقاع بعد حرق واجتياح مئات القرى، وسريان الرعب إلى الأحياء الدمشقية المسيحية، وصولاً إلى سَوْق أطفال مكبلين بالسلاسل إلى تلك الأحياء لينظفوا جدرانها مما رسموا من الصلبان عليها. وقد ثار الأهالي من أجل أطفالهم، ففتك الغوغاء بهم والعسكر يتفرجون، بينما دافع عن المسيحيين وجهاء حي الميدان ونبلاء المدينة من السنّة، يتقدمهم الأمير عبد القادر الجزائري. وتتتوّج رواية "عطار القلوب" بحلم الراوي بأن يتدخل إله يعلن: "كفى جنوناً.. أوقفوا هذه الكراهية"، وهي الصيحة التي تدوّم منذ 1860 إلى يومنا السوري واللبناني.