الرئيس فلاديمير بوتين يُنزل الحرس الإمبراطوري إلى المعركة في أوكرانيا. وليس أمراً عادياً أن يقرر تعيين رئيس الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف قائداً للحملة كلها على الجبهة، ولا أن يعمل كما في سوليدار التي حوّلها أرضاً محروقة لكي يعكس التوجه التراجعي الذي بدأ منذ أشهر وكان رمزه الانسحاب من خيرسون. وهو يسخر من سيناريوهات يوم القيامة التي تحدث عنها مايكل كيماج وليانا فيكس في "فورين أفيرز" تحت عنوان "موقف بوتين الأخير". أول السيناريوهات أن يوافق بوتين على الهزيمة ويسعى لتسوية عبر التفاوض، وهذا ضدّ طبيعة الرجل، وثانيها أن يوسع الحرب إلى جيران أوكرانيا بحيث يصل إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع "الناتو"، وقد يستخدم السلاح النووي، وهذا يحول روسيا من "دولة تحريفية إلى دولة منبوذة، ويقود "الناتو" إلى تسريع هزيمتها على الأرض"، وثالثها "هزيمة للسلطة عبر معارك في قاعات الكرملين". وهذا يعني وصول الروس "في السير وراء القيصر إلى نقطة معينة ثم ينقلبون عليهم إذا قادتهم الحرب إلى فاقة عامة". ولا شيء يوحي أن هذا يلوح في الأفق، ولا أن من الممكن استنزاف كل القوة العسكرية والاقتصادية لروسيا في أوكرانيا، و"على الغرب الاستعداد للفصل التالي من حرب الخيار الكارثي لبوتين" بحسب هذه السيناريوهات.
ذلك أن رهان بوتين كبير على ما سماها هال براندز أستاذ كلية الدراسات العامة المتقدمة في جامعة "جونز هوبكنز" "جائزة استراتيجية" اسمها أوكرانيا. أوكرانيا هي "المفصل الذي يربط" ما وصفه هالفورد ماكندر بأنه "قلب أوراسيا". وكل قوة أوراسية يجب أن تمر في أوكرانيا، والحلم الأوراسي هو مشروع بوتين. والشائع هو أن بوتين لا يستطيع أن يخسر، وإن لم يستطع أن يربح رهانه كاملاً. لماذا؟ لأن معنى الخسارة أن النظام الروسي تحت بوتين ليس على قاعدة ثابتة. فأميركا خسرت في فيتنام وخرجت خاسرة من أفغانستان والعراق، لكنها بقيت قوة عظمى بسبب القاعدة الثابتة للنظام الأميركي. وقوة أميركا، في رأي جون إيكنبري هو أنها "تستطيع أن تخطئ وتفشل وتبقى قادرة على تصحيح الأخطاء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والسؤال الحائر ليس لماذا لا يستطيع بوتين أن يخسر بل لماذا لا يستطيع أن يربح؟ قبله ربحت كاترين العظمى التي كانت تقول: "لا أملك أي طريقة للدفاع عن حدودي سوى توسيعها". وقبله خسر القيصر حرب القرم أمام السلطنة العثمانية المدعومة من قوى أوروبية في القرن التاسع عشر، وبقيت القيصرية. لكن بوتين لعب في أوكرانيا بكل أوراقه، تجاوز "مذكرة بودابست" عام 1994 بعد تخلي كييف عن سلاحها النووي، والموقعة من روسيا وأميركا وبريطانيا المتعهدة "بالامتناع عن استعمال القوة أو التهديد باستعمالها لانتهاك سيادة الأراضي والحدود الأوكرانية المعترف بها". خرق ما يسمى القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتحدى الغرب كله.
والرهان مزدوج حين يعلن بوتين أنه يحارب "الناتو" لا فقط أوكرانيا: أي خسارة للرئيس الروسي هي هزيمة استراتيجية يصرّ الغرب على إلحاقها به، وأي خسارة لـ "الناتو" هي أيضاً هزيمة استراتيجية للغرب يحلم بها بوتين منذ أراد الانتقام لما سماها "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، أي سقوط الاتحاد السوفياتي. وأيضاً منذ أعلن في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2008 رفض الأحادية الأميركية والإصرار على نظام عالمي متعدد الأقطاب تلعب فيه روسيا دور الند لأميركا والصين.
والمفارقة في كل هذه الرهانات والمغامرات الكبيرة أن بوتين لا يزال يسمي حربه "عملية عسكرية خاصة".