لم تسفر أزمة المناخ عن حصيلة مدمرة لبني البشر فقط ولم ينتج منها مجموعة مختلفة من الظواهر المناخية الشديدة والمتزايدة وحسب، بل أضحت تلحق أضراراً فادحة بالتنوع البيولوجي للكوكب أيضاً.
ففي يوم الثلاثاء الماضي، كشفت تقارير عن مقتل سيدة وطفلها على يد دب قطبي في قرية صغيرة بغرب ألاسكا. على رغم أنه لم يتضح بعد في ما إذا كان الهجوم قد نجم بشكل مباشر عن أزمة المناخ، إلا أن الظروف المتغيرة تجبر الدببة على الدخول في مزيد من المواجهات مع البشر التي تكون مميتة أحياناً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذكرت شرطة ولاية ألاسكا في تقرير عن الهجوم: "تشير التقارير الأولية إلى أن دباً قطبياً تسلل إلى القرية وطارد عديداً من السكان ليهاجم بعدها سيدة وابنها ويقوم بقتلهما". في النهاية المطاف قام أحد السكان المحليين بإطلاق النار على الدب ليرديه قتيلاً.
وفي بيان لـ"اندبندنت"، ذكر الصندوق العالمي للحياة البرية في أعقاب الهجوم: "يعبر الصندوق العالمي للحياة البرية عن عميق حزنه لمقتل امرأة وطفل على يد دب قطبي في تجمع ويلز السكني، القرية التي يغلب عليها سكان الأنوبياك Inupiaq [إحدى قبائل الإنويت من سكان ألاسكا الأصليين] ويبلغ مجموعهم 145 شخصاً، وتقع على أقصى الطرف الغربي لشبه جزيرة سيوارد المتاخمة لمضيق بيرينغ. إن مشاعرنا مع أسرة [الفقيدين] وأفراد المجتمع ككل في مواجهتهم لهذه المأساة. ينصب تركيزنا الآن على منح الأسر الخصوصية اللازمة والوقت من قضاء الحزن. ونحن على استعداد بعدها للاستماع إلى السكان عندما يكونون جاهزين لذلك لمناقشة الدعم الذي يمكننا تقديمه".
كونها تستوطن القطب الشمالي، تعيش الدببة في منطقة تعاني احتراراً يفوق بأربعة أضعاف معدل ما يعانيه بقية العالم، وذلك وفقاً لعالم [وكالة الفضاء الأميركية] ناسا بيتر جاكوبس.
ارتفاع درجات حرارة المحيطات قاد إلى ذوبان الجليد البحري بالتالي تقليص المناطق التي تستخدمها الدببة للصيد. هنالك ما يقرب من 21 إلى 30 ألف دب قطبي تعيش ضمن هذه المناطق، إلا أنه من العسير معرفة ما إذا كان هناك انخفاض في أعداد البالغين منها لعدم توفر البيانات التي يتم جمعها على المدى الطويل.
ومع ذلك، فقد أظهرت الإحصاءات الجوية الأخيرة لأشبال الدب القطبي التي تراوح أعمارها بين عام وعامين انخفاضاً كبيراً في الدببة البالغة منذ تسعينيات القرن الماضي. كانت تلك الأشبال، التي تسمى "دببة يافعة"، تمثل 12 في المئة من عدد الدببة القطبية. والآن، أصبحت تمثل ثلاثة في المئة فقط.
ركزت الأخبار على الصور المحبطة للدببة القطبية الهزيلة التي تقطعت بها السبل على تدفقات الجليد وكذلك تزايد أعداد - وإن كانت نادرة بالعموم - المواجهات العدوانية بين الدببة القطبية المنعزلة بشكل عام وبني البشر. ففي أغسطس (آب) الماضي، هاجم دب قطبي ثلاثة أشخاص عندما وجدوه بينما كان يأكل من ذبيحة بالقرب من مقصورتهم في سانيراجاك، نونافوت، كندا. نجا الثلاثة من الهجوم لكنهم أصيبوا بجروح خطرة نتيجة لذلك، بحسب شبكة "سي بي سي".
وفي حادثة أخرى في الشهر ذاته، جرى استدعاء طائرات هليكوبتر لإخافة سبع دببة قطبية كانت تطارد قطيعاً أسيراً من حيوانات الرنة في سيبيريا. وبحسب ما ورد كانت الدببة تتصرف بعدوانية تجاه الرنة وحراسها، على الأرجح لأنها كانت تشعر بالجوع. وفي عام 2014، تجمع أطفال يرتدون زي الهالوين في قرية ارفيات في القطب الشمالي الكندي داخل مبنى محلي لأن ثلاثة من الدببة القطبية كانوا يجوبون المكان في الخارج بحثاً عن الطعام.
وعلى رغم هذه التقارير، يحذر كبار الباحثين في مجال الدبب القطبية من التركيز على هذه الحوادث. فهم يرون أن الظروف هي التي تغيرت، وليس الدببة!
وحول هذا الموضوع ذكر الدكتور ستيفن أمستروب، كبير العلماء في المنظمة العالمية للدببة القطبية Polar Bear International (PBI)، لـ "اندبندنت": "أعتقد أنه من المهم التمييز بين التغير السلوكي، كما نفكر فيه عادة، والتفكير فيه أكثر ضمن منظور أن الدببة مجبرة على ذلك لأن موائلها لم تعد موجودة".
يقوم الدكتور أمستروب بإجراء بحوث عن الدببة القطبية للمنظمة غير الربحية منذ عام 2010. وقبل انضمامه إليها، أمضى 30 عاماً في هيئة المسح الجيولوجي الأميركية يعمل في بحر بوفورت في ألاسكا ويجري أبحاثاً عن الدببة، وعمل كرئيس في الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة والمجموعة المتخصصة في الدببة القطبية.
الدكتور أمستروب قال إن ذوبان الجليد الناجم عن تغير المناخ هو التهديد السائد لحيوانات الدببة القطبية في العالم. وفقاً للتقرير الصادر عن الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) حول القطب الشمالي لعام 2021، شهدت المنطقة أسخن خريف منذ بداية عملية التسجيل في عام 1900. وكانت مستويات الجليد البحري بعد انتهاء الشتاء عند أدنى مستوياتها منذ أن بدأت الإدارة في تتبع ذلك قبل عقد من الزمن. وهذه التغييرات تواصل تدمير المناطق التي تصيد فيها الدببة القطبية.
وفي الغالب، تأكل الدببة القطبية نوعين من فقمات القطب الشمالي - الفقمة الملتحية والفقمة الحلقية. تستخدم الفقمات الثلج الذي يتساقط على الجليد البحري لبناء أوكار عند الولادة. عندما تغامر صغار الفقمة وتخرج في الجليد، فإنها مع الفقمات البالغة تشكل معظم السعرات الحرارية التي تتناولها الدببة القطبية.
عندما يكون الجليد البحري أقل، تكون هناك أماكن أقل للفقمات لبناء أوكار للولادة. في المقابل، سيكون هنالك فرص أقل للدببة القطبية للتغذية والحصول على الطعام. يتأخر الجليد ليتجمد أيضاً خلال العام عما كان عليه في الماضي، مما يعني أن الثلج يذوب في مياه المحيط بدلاً من التراكم.
وفي ظل وجود عدد أقل من الفقمات التي تشكل مصدر غذاء، اضطرت الدببة القطبية إلى توسيع مناطق الصيد بحثاً عن مصادر جديدة للغذاء. وكشفت تقارير نشرت في مجلة الجمعية الملكية للعلوم الحرة The Royal Society Open Science عن أن الدببة القطبية تزور بشكل متكرر مواقع تعشيش الطيور، مثل العيدر، وتأكلها هي وبيضها.
هذا التغيير في طرق الصيد التي تتبعها الدببة القطبية لا يهدد فقط هذه الأنواع من الدببة القطبية الشمالية، ولكنه يوفر بديلاً غير كاف للحصول على السعرات الحرارية.
وقال الدكتور أمستروب إن الفقمات مثل "حبوب الدهون" للدببة. أما تناول الطيور والبيض كغذاء فلا يمكن لذلك أن يحل محل الطاقة التي تحتاج إليها الدببة القطبية للبقاء على قيد الحياة والتكاثر.
وفي حين أشارت بعض التقارير الصادرة من روسيا إلى أن الدببة القطبية تتجه إلى تناول لحوم جنسها، قال الدكتور أمستروب إن هذه الحوادث نادرة، مشيراً إلى أن جميع أنواع الدببة تقتل الدببة الأخرى. وعادة ما يحدث ذلك بين الذكور والأشبال البالغين لتحرير الإناث المرضعات لغرض عملية التكاثر.
لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هي تلك التقارير التي تفيد بأن الدببة أصبحت تزور المستوطنات البشرية بشكل متكرر. وفي حين يعتقد أحياناً أن القطب الشمالي أرض قاحلة من الثلج والجليد، إلا أنه في الواقع موطن لأكثر من 21 ألف نوع معروف من الحيوانات والنباتات والفطريات وأنواع الميكروبات، إضافة إلى أربعة ملايين إنسان.
وأوضح الدكتور أمستروب أن الدببة القطبية عادة ما تبحث عن بقايا "الحوت المقوس الرأس" bowhead whale التي تخلفها قبائل الإينوبياك، سكان ألاسكا الأصليين، مما خلق مخاطر على مجتمع السكان والدببة في آن. وفي مناطق أخرى، تهاجم الدببة القطبية قطعان الرنة الأسيرة كذلك.
لحماية الناس والدببة، تبذل المنظمة العالمية للدببة القطبية والصندوق العالمي للحياة البرية جهوداً للتخفيف من هذه الآثار. تقوم المنظمة العالمية للدببة القطبية بتجربة الرادار الأرضي، وهي تقنية يستخدمها الجيش بشكل عام، لاكتشاف اقتراب الدببة. تسمح التكنولوجيا للأشخاص بإخافة الدب قبل أن يصل إلى مستوطنة بشرية. كما وينظم الصندوق العالمي للحياة البرية دوريات محلية تستجيب لأي تهديد يتعلق بالدببة وبأساليب لا تهدد حياتها.
كما أن عدم وجود مصادر غذائية كافية للدببة القطبية يعني أيضاً أن عدد أشبال الدببة التي ستصل إلى مرحلة البلوغ سينخفض. وفي حين أن الدببة لا تزال تتزاوج بالمعدلات نفسها، فقد انخفض عدد الأشبال التي تصل إلى المرحلة المعروفة باسم "السن اليافع".
وأوضح الدكتور أمستروب: "كثير من الناس لا يقدرون كلام علماء الأحياء عندما يقولون إن عدد الأشبال التي تبقى على قيد الحياة انخفض ولم يعد كما كان، والحقيقة أن هذه العبارات ما هي إلا أسلوب لطيف يلجأ إليه العلماء ليقولوا لنا إن عدد أشبال الدببة القطبية الذين يتضورون جوعاً حتى الموت قد ارتفع".
هناك بعض التقارير من مصادر متعددة تتحدث عن التزاوج الداخلي للدبب القطبية [داخل العائلة الواحدة] وهو أمر قد يؤدي إلى ظهور سمات متنحية (غير سائدة) بالتالي تضييق التنوع الجيني لدى الدببة. كما أشارت بعض المراقبات إلى قيام الدببة القطبية بالتزاوج مع الدببة الرمادية بالتالي ولادة ذرية هجينة. الجدير بالذكر أن هذه الحالات نادرة.
قد يضمن الدب الهجين نجاة بعض سمات الدب القطبي مع انهيار القطب الشمالي، لكن الباحثين مثل الدكتور أمستروب ليسوا راضين عن هذا السيناريو.
وفي رأيه: "إذا سمحنا للعالم بالاستمرار بالاحترار لدرجة تؤدي إلى اختفاء الدببة القطبية تماماً، فقد يكون هناك عدد قليل من جينات الدب القطبي في شيء يشبه الدب الأشهب. هذه ليست نتيجة مرضية حقاً. والأهم من ذلك، أن الدببة القطبية من المرجح أن تتضور جوعاً قبل أن تكون هناك أية فرصة لإنقاذها بالتزاوج".
تشير بعض الدراسات إلى احتمال انقراض الدب القطبي بحلول عام 2100. كما قام الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة بإدراج الدببة في "قائمته الحمراء" للأنواع المهددة، محذراً من انخفاض محتمل لعددها بنسبة 30 في المئة على مدى السنوات الـ35 المقبلة.
وبغض النظر عن هذه التوقعات، لا يزال الدكتور أمستروب متفائلاً، ذلك أن إنقاذ الدببة القطبية ما زال تحت سيطرة الإنسان بشكل كامل.
ويختم الدكتور أمستروب: "من منظور انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الذي يتبناه المجتمع، لا يبدو أن أمام الدببة القطبية أية فرص للنجاة. يمكننا السيطرة على ذلك. فإذا أوقفنا الاحترار في الوقت المناسب، يمكننا إنقاذ الدببة القطبية. وبالمناسبة، إذا فعلنا ذلك، فسيفيد بقية الحياة على الأرض كما نعرفها، بما في ذلك حياتنا".
© The Independent