هناك قدر من الغش في العنوان الذي اختير لكتاب يمكن اعتباره مدخل الفرنسيين إلى قراءة الفيلسوف الألماني هيغل، بل حتى الكتاب الذي أسقط المفكر الفرنسي جان هيبوليت عن تلك المكانة التي كانت تجعل منه أهم المفكرين الذين أدخلوا ذلك الفيلسوف الألماني الكبير في "الحياة اليومية" لعالم النخبة الفرنسي. فالكتاب الذي قد نتهمه بـ"الغش" - ولكن طبعاً "الغش" الذي لا يؤذي أحداً! - يحمل عنواناً كثيراً ما فتن قراء الفلسفة من الفرنسيين الذين اقتنوا نسخاً من طبعته الأولى وهم مؤمنون بما يقوله العنوان "مدخل إلى قراءة هيغل". وهو مدخل مغر بالتأكيد بالنظر إلى أن قراءة هيغل ومن دون معظم الفلاسفة المحدثين قاطبة، تحتاج حقاً إلى مدخل حتى ولو انتشر بلغة متميزة على مدى الستمئة صفحة الذي يتألف منها هذا الكتاب. غير أن القراء سرعان ما يكتشفون أن الكتاب في حقيقته ليس سوى "مدخل لتفسير كتاب واحد" من كتب هيغل وهو على أية حال كتابه الأساسي "فينومينولوجيا الروح" بل ثمة ما هو أكثر غشاً، حيث إن هذا المدخل ليس في حقيقته سوى تحليل لموقع الدين في هذا الكتاب الهيغلي الكبير، ناهيك بأنه، في حقيقته أيضاً، عبارة عن دروس جامعية ألقاها المؤلف، وهو الروسي الأصل ألكسندر كوجيف طوال سنوات امتدت من بدايات 1933 إلى ربيع 1939 على طلابه في "المدرسة العملية للدراسات العليا" في باريس وتحديداً تحت عنوان "فلسفة هيغل الدينية" مما يضاعف الغش مرات ومرات. ومع ذلك لم يشتك أحد من كل هذه التشعبات.
كتاب شعبي على رغم صعوبته
ولكن الأهم من ذلك معرفة الجميع وبخاصة طلاب كوجيف ومريديه أنه لم يكن هو المسؤول عما حدث. كان المسؤول الكاتب ريمون كوينو الذي كان من حواريي كوجيف ومن طلابه لفترة، فأخذ على عاتقه تدوين الدروس وضبطها لينشرها ضمن سلسلة منشورات عنوانها "كلاسيكيات الفلسفة" منذ عام 1947 فيتخذ الكتاب لاحقاً مكاناً أساسياً لدى منشورات غاليمار الفرنسية في سلسلة كانت جديدة عندذاك عنوانها "تيل"، وهي النسخة المعتمدة حتى اليوم والتي صدرت في طبعات عديدة تكاد تجعل من الكتاب كتاباً شعبياً على رغم صعوبته. مهما يكن فإن صعوبته المفهومية والأسلوبية ليست شيئاً إزاء صعوبة كتاب هيغل الذي نعرفه. والحقيقة أن المتعة التي يجدها قارئ الفلسفة وهو يقرأ هذا الكتاب باللغة التي ضبطها ريمون كوينو كأديب وليس كفيلسوف تقني، هي التي أعطت "مدخل إلى قراءة هيغل" قيمته الكبرى وجعلت الجمهور النخبوي يتغاضى عن ذلك "الغش" الذي كان من الصعب ألا يلاحظ ولكن كان من الصعب أن يتم التوقف عنده. ولسنا في حاجة هنا إلى بذل جهد كبير كي نقول إن هذا الواقع هو الذي شكل جزءاً أساسياً من مكانة الكتاب في تاريخ الحركة الفلسفية في فرنسا خلال الربع الثاني من القرن العشرين.
العودة إلى مفكر لامع
أما الجزء الثاني فقد شكلته شخصية كوجيف نفسه. وهو أمر كان لا بد من انتظار بدايات العقد الثاني من القرن التالي أي عام 2011 قبل الإحساس بأنه لم يعد ثمة إجحاف كبير تشكو منه ذكرى كوجيف الذي كثيراً ما أسيء إليه، ولا سيما من قبل مفكرين لم يتورعوا عن اتهامه بأنه كان أواسط القرن العشرين يعمل مع الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) بعد أن كان قد "ادعى" أول الأمر أنه منشق هرب من الثورة البلشفية إلى أوروبا الغربية في عام 1920 ملتحقاً بخاله الرسام فاسيلي كاندينسكي. ولسوف يتبين لاحقاً أن ذلك إنما كان افتراءً. وهو أمر أكده، بين أمور كثيرة تصب لصالح ألكسندر كوجيف ذلك الكتاب الذي أصدره عن منشورات غاليمار الفرنسية التي كانت ناشره الأول، وبالطبع كما أشرنا، ناشر كتابه الأساسي "مدخل إلى قراءة هيغل"، مؤرخ الثقافة ماركو فيلومي وترجم من الإيطالية بعنوان "فيلسوف أيام الأحد: حياة ألكسندر كوجيف وفكره". ويروي لنا الكتاب كيف أن كوجيف كان فيلسوفاً شاباً من أصل روسي يعيش حينها في باريس اهتم بتدريس الفلسفة في المدرسة العملية للدراسات العليا، وأن "ذهنه المتفتح" بحسب وصف ريمون كوينو مكنه من أن يجتذب وهو بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره، عدداً كبيراً من مثقفين لم يتابعوا فقط دروسه الجامعية بل تابعوه في لقاءات يوم الأحد التي أعارت كتاب فيلوني عنوانه.
كبار بين مريديه
والحال أن ما يتوقف هذا الكتاب عنده هو تلك المجموعة من الأسماء التي كانت في طريقها لتصبح كبيرة في الحياة الفكرية الفرنسي، والعالمية أيضاً إلى حد كبير، من بين متابعي كوجيف، من جان بول سارتر إلى موريس ميرلو بونتي، ومن جورج باتاي إلى جاك لاكان وغيرهم من الذين إنما تعرفوا إلى هيغل الحقيقي من خلاله، كما سيقول جورج باتاي، مضيفاً أن كوجيف قد غير له مساره الفكري وأربكه وقتله عشر مرات فكرياً وأكثر. ومن هنا لم يكن غريباً أن يتنطح ريمون كوينو أحد كبار المثقفين الفرنسيين حينها، إلى ضبط وتحرير ذلك الكتاب الذي شاءت منشورات غاليمار نشره. وسيقول كوينو لاحقاً كما يخبرنا كتاب "فيلسوف الأحد" أن ما اجتذبه إلى ذلك العمل إنما كان ما لاحظه فيه من "توليف اشتغل عليه كوجيف بحذق بين المثالية الألمانية والماركسية وفلسفة هايدغر، باعتبار هاتين الأخيرتين قد اتكأتا لدى هيغل وتحديداً في (فينومينولوجيا الروح) على تلك المثالية التي ارتبطت دائماً بهيغل". ولعل ما يجب التوقف عنده هنا، وتبعاً لما يكتبه فيلوني في "فيلسوف الأحد" أنه ما إن أطلت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى كانت الحياة الفلسفية الفرنسية وعلى رأسها سارتر، واقعة تحت تأثير كوجيف. "لكن هذا الأخير كان قد أضحى في مكان آخر". كان قد ترك الحلبة الفلسفية وقد وقع تحت تأثير الدبلوماسي والخبير الفرنسي في الشؤون الاستراتيجية روبير مارجولين، ليساعده على "تكوين" عدد لا بأس به من الدبلوماسيين والاقتصاديين الفرنسيين من ذوي المناصب الرفيعة، ولا سيما في الشؤون التجارية والاقتصادية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مدونات ناقصة
غير أن فيلوني يؤكد لنا "أن كوجيف لم يتخل عن الفلسفة ولا عن هيغل بالطبع كلياً"، بل إنه ظل يكتب دراسات في هذا السياق، بل حتى يستقبل في بيته أيام الآحاد عدداً من كبار المفكرين ومن بينهم من كانوا من تلاميذه، ليتداول معهم في شؤون الفلسفة بصورة خاصة. ومن هنا، بالطبع جاء فيلوني بعنوان كتابه الذي فهم في بعض الأحيان بكونه مستعاراً من تعبير فرنسي يتحدث عن "البساطة الفكرية"، مشيراً إلى أن فيلسوف الأحد هو كرسام الأحد أو موسيقي الأحد مبدع يقوم طوال الأسبوع بأعمال ونشاطات حياته العادية ليكرس يوم راحته الأسبوعية لهواية تخرج عن إطار تلك النشاطات. والحقيقة أن ألكسندر كوجيف (1902 - 1968) لم يكن كذلك، بل إن لقاءات الأحد كانت لديه أهم ما سيقوم به في حياته حيث، بعيداً من الاهتمامات الاقتصادية والدبلوماسية التي كانت تشغل كل أيام الأسبوع بالنسبة إليه، راح يمارس أحب النشاطات إليه: السجالات الفكرية. والغريب في الأمر أن من الصعب اليوم العثور على مدونات تتعلق بما كان يدور من سجالات في أيام الآحاد. وهو أمر يمكننا أن نفترض أن كثراً من حضور تلك اللقاءات سوف يؤاخذون أنفسهم كونهم لم يدركوا أن ما كان يقال في تلك الجلسات إنما كان ذا أثر كبير وبالغ الأهمية في ذلك الحراك الفكري من حول كوجيف، ولكن أيضاً من حول هيغل، في تلك السنوات الذهبية التي استبقت أحداث ربيع عام 1968 التي من الواضح أن كوجيف قد عاشها بكل زخمها، لكن "فيلسوف الأحد"، أي كتاب فيلوني، لم يتمكن من الحصول على ما يطلعنا عليه ولو في شهادات مجتزأة.