على مدى عقود، ومنذ نشأة إسرائيل وهي تدعى تقديم نفسها كواحة للديمقراطية في منطقة ليست كذلك، وكانت هذه السردية محل تصديق كثيرين حول العالم، وليس فقط من ساعدوها على النشأة والاستمرار لحسابات سياسية معقدة لديهم في أكثر من عاصمة غربية. على رغم أن الفكرة الصهيونية منذ نشأتها تتناقض مع الديمقراطية بحكم كونها فكرة عنصرية تتضمن تفوق اليهود على ما عداهم، وأنهم شعب الله المختار، وتجعل من هذه الدولة دولة لليهود وحدهم.
لكن الآباء المؤسسيين جمعوا بين خلفيات فكرية متنوعة، وبخاصة بعض الأفكار الاشتراكية التي كانت رائجة آنذاك، ومعها كذلك أفكار ديمقراطية وليبرالية حملوها معهم من المجتمعات الغربية التي هاجروا منها، وما كان يمكن لهم أن يفعلوا خلاف ذلك، ليس فقط حرصاً على تعاطف هذه المجتمعات الغربية، ولكن أيضاً بقدر ما كانوا جزءاً من المواجهة الغربية ضد الفاشية والنازية التي لا تحمل إيماناً عميقاً بالديمقراطية والمفاهيم الإنسانية، فقد كانوا يدعون وفقاً لهذا أنهم جزء من العالم الحر الذي يؤمن ويروج للفكرة الديمقراطية.
تطورات عاصفة
على رغم أنه منذ بداية نشأة الدولة الإسرائيلية كانت تحمل النقيضين معاً، فإن تطورات السنوات الأخيرة تعد فارقة بالنسبة إلى كل تناقضات هذه الدولة، فثمة تطوران مهمان سارا معاً، هما صعود اليمين الإسرائيلي وبخاصة اليمين الديني المتشدد بشكل غير مسبوق في تاريخ هذه الدولة مع تراجع هائل للقوى اليسارية والليبرالية بشكل أكثر حدة في السنوات الأخيرة، والتطور الثاني هو تورط بنيامين نتنياهو نجم هذا التيار في قضايا فساد سياسي ومالي تحتاج إلى معالجة كي يتمكن من الاستمرار على عرش السياسة الإسرائيلية، وبما لا يؤدي إلى تكرار حال عدم الاستقرار التي شابت السياسة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، وما ارتبط بها من قصر فترة أي حكومة سواء رأسها نتنياهو أو حال الحكومة الأخيرة التي شكلتها القوى المعارضة ولم تتمكن من الاستقرار.
وتتسارع الإجراءات العنصرية للحكومة الجديدة، ومن أبرزها قيام الكنيست الإسرائيلي بالقراءة الأولى لقانون تمديد سريان فرض القانون الإسرائيلي بمستوطنات الضفة الغربية ولا تزال هناك قراءتان أخيرتان، كما شهد الموقف عاصفة بعد الاجتياحات المتكررة لوزير الشؤون الداخلية بن غفير للمسجد الأقصى وتكرار قيام المستوطنين بالاقتحامات برعاية الشرطة الإسرائيلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى صعيد تأمين نتنياهو تندفع الحكومة في إجراءات غير مسبوقة، أخطرها التعديلات الخطرة التي يتبناها وزير القضاء ياريف ليفين، وتدعمها أحزاب الائتلاف الحاكم، بهدف تقويض صلاحيات المحكمة العليا وجعل الكنيست هو المنبر الأخير للمصادقة على جميع القوانين والقرارات التي تعرضها أو تهدف إلى إقرارها الحكومة الإسرائيلية، كما تتضمن سلب صلاحية المحكمة في إلغاء القوانين إلا إذا اجتمعت بكامل هيئتها من 15 عضواً واتخذت قراراً بأغلبية خاصة. وكذا تعديلات على عملية تعيين المستشار القضائي للحكومة والمستشارين القضائيين للكنيست والوزارات المختلفة بحيث يكون التعيين سياسياً وخاضعاً لرغبة الوزير المعني ويتم بواسطة لجنة من هيئة متخصصة تخضع لمكتب المستشار القضائي للحكومة.
وقد أثارت هذه المشروعات ثائرة المعارضة وبخاصة غانتس ولبيد، اللذان وصفاها بأنها اعتداء على الديمقراطية وتمثل خطراً حقيقياً اعتبر غانتس أنه قد يقترب بالبلاد من حرب أهلية وبالدولة من حافة الهاوية. ومعنى ما سبق واضح وهو أن اليمين الإسرائيلي يريد تحجيم السلطة القضائية بشكل يحمي نتنياهو من ناحية، ويعرقل أي توجيه للقضاء يهدد مخططات هذا اليمين السياسية، وما هو مقبل من خطوات ظلامية وحادة.
ويأتي قرار المحكمة العليا، أخيراً، بعدم صلاحية وزير الداخلية درعي وزعيم حزب "شاس" اليميني على خلفية أحكام قضائية سابقة، لينضم إلى سلسلة المواجهات بين السلطة القضائية وهذه الحكومة والقوى اليمينية، وهي سمة طبيعية للآليات التي تنتهجها التيارات اليمينية المتطرفة.
كما هاجمت رئيسة المحكمة العليا إستر حيوت هذه التعديلات التي يحاول وزير القضاء فرضها، ووصفتها بأنها ستغير طبيعة إسرائيل، وتفرغ المحكمة من أدواتها للدفاع عن المواطن الإسرائيلي، وقد أدخلها هذا في مساجلة مع وزير القضاء ليفين الذي واصل إصراره على طرح هذه التعديلات.
تحديات ضخمة
وفى وسط هذه التراجعات الإسرائيلية التي لا تبشر بخير، جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإحالة ملف الاحتلال الإسرائيلي إلى المحكمة بمثابة تيار معاكس لما يريد نتنياهو المسارعة به، ومن هنا جاءت الإجراءات الإسرائيلية الانتقامية الحادة التي شملت حرمان السلطة الفلسطينية من أموال الضرائب التي تحصلها إسرائيل من الشعب الفلسطيني وتستقطع جزءاً منها لنفسها، فضلاً عن إجراءات عقابية أخرى تشمل منع مسؤولين فلسطينيين من السفر ومنهم وزير الخارجية رياض المالكي، وهو مما اعتبره رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيه تطوراً خطراً قد يؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية مع ما يحمله هذا من تبعات خطرة.
وأوضح غانتس أيضاً، في معرض انتقاده لحكومة نتنياهو، أن هذا الأمر يهدد باعتقال وزراء وعسكريين إسرائيليين كبار في حال سفرهم إذا صدرت توصية أو حكم من المحكمة يدين إسرائيل، وهو احتمال وارد الحدوث بخاصة مع تصاعد الإجراءات التعسفية الإسرائيلية التي تقوم بها الحكومة الحالية.
الغريب في أمر بعض المراقبين، وبخاصة الغربيون، أنهم يحاولون اختزال ما يحدث من تطورات جديدة عاصفة في كونه نتاج الصراع بين التوجهات اليمينية والليبرالية التي تعرفها كثير من مجتمعات العالم، حتى لو كان هذا بتطبيق خاص على الحال الإسرائيلية، وهو تفسير قاصر يتجاهل المعضلة الإسرائيلية منذ نشأة الفكرة الصهيونية وكونها فكرة عنصرية استعلائية لا يمكن أن تقود إلا إلى المسارات الراهنة التي سارت إليها الدولة العبرية، ولا يمكن للمرء أن يتخيل ناتجاً آخر لمسار الأمور، فعندما ينشأ كيان استيطاني على حساب شعب آخر، ويسعى هذا الكيان الاستيطاني إلى بناء مجتمع مغلق على عنصر أو دين معين، لا يكون أمامه إلا إبادة هذا العنصر الآخر تماماً، وهذا مستحيل في العصور الحديثة، وهو حتى لم يفلح تماماً في مجتمعات عنصرية أخرى إلا بدرجات، فقد نجح نسبياً في العالم الجديد بأميركا الشمالية بشكل أوضح من أميركا الجنوبية، وفشل في جنوب أفريقيا على رغم أنه بدا لفترة من الزمن وكأنه قد نجح.
وعموماً ما دام خيار الإبادة غير ممكن، يصبح الحل هو حكم هذا الشعب كمواطنين من درجة أدنى وبحقوق سياسية أقل، وهذا الباب يؤدي بالضرورة إلى تضيق هوامش الحريات حتى للعرق الغازي نفسه، وتتراجع مرونة قبول الاختلاف الداخلي كونه يعرقل خطط الاستيطان، فضلاً عن أن مبرره الفكري والأيديولوجي يستند إلى قراءة ضيقة لديانة لم ترفض أصلاً العنصرية، شعب الله المختار، ومن ثم فإن النتيجة الطبيعية هي التحول إلى مزيد من اليمينية المغلقة التي تستقيم مع هذه الفكرة المغلوطة، وتضيق الخيارات والمساحات وتتعمق التبريرات لمواصلة هذه المخططات التي تغير من طبيعة النموذج الذي نشأ على النقيضين معاً، بمعنى العنصرية والديمقراطية معاً. وبالمحصلة فإن إسرائيل مقبلة على مزيد من التراجع السياسي والتشوه الفكري الذي يتضمن كثيراً من التهديدات والتحديات للشعب الفلسطيني، ولكنها مع ذلك تعري وتكشف إسرائيل، وقد تقدم فرصاً للفلسطينيين إذا أحسنوا التعامل مع الأمر.