تسعى القاهرة وموسكو إلى إيجاد حلول غير تقليدية لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تواجه الدولتين مع اختلاف الأسباب، وإن كان القاسم المشترك بين الأزمتين هو الدولار الأميركي. فالدولتان دخلتا الأزمة في توقيت واحد تقريباً منذ مارس (آذار) 2022، إذ بدأت من روسيا بهجومها على الأراضي الأوكرانية بعد احتدام الخلاف الجيوسياسي، ثم صدرت موسكو التداعيات السلبية على القاهرة التي خلفت أزمات اقتصادية على عدة محاور، أبرزها تسرب استثمارات الأجانب في أدوات الدين السيادية المصرية بقيمة لم تقل عن 22 مليار دولار، مما أضعف من قيمة العملة المحلية المصرية أمام عملات الدول الكبرى، وعلى رأسها الدولار الأميركي، لتنخفض قيمتها بأكثر من 50 في المئة منذ مارس 2022.
كما تراجعت إيرادات السياحة لمصر، إذ إن السياح الروس والأوكران يمثلان أكثر من 30 في المئة من حجم السياحة الوافدة إلى المقاصد السياحية في مصر. إضافة إلى ارتفاع فاتورة الغذاء، إذ تعتمد القاهرة على استيراد الحبوب، خصوصاً القمح من الدولتين.
ونتيجة لشح العملة، تكدست الحاويات في الموانئ المصرية انتظاراً لتوفير الدولار، قبل أن تتدخل الحكومة المصرية لحل الأزمة، بعدما أفرجت عن بضائع بقيمة خمسة مليارات دولار خلال 23 يوماً من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قبل أن تعاود الإفراج عن بضائع أخرى بقيمة 4.7 مليار دولار في ثلاثة أيام في الفترة من 14 إلى 17 يناير (كانون الثاني) الحالي.
موسكو صدرت الأزمة والقاهرة تلقتها
على الجانب الآخر، ورغم أن موسكو هي من صدرت الأزمة إلى العالم ومصر تحديداً فإنها لم تنج من التداعيات السلبية، إذ تواجه روسيا بمفردها حزمة من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الدول الغربية، بسبب الحرب على أوكرانيا، التي حرمت روسيا من الوصول إلى احتياطاتها الأجنبية من العملات، خصوصاً الدولار بعدما سجلت العملة الروسية (الروبل)، أدنى مستوى لها في ثمانية أشهر، مع نهاية 2022 ليسجل الدولار الواحد نحو 70 روبلاً في الوقت الحالي في أدنى مستوى له منذ أبريل (نيسان) 2022، علاوة على فرض سقف سعري على النفط الروسي من الاتحاد الأوروبي يدخل حيز التنفيذ مطلع فبراير (شباط) المقبل.
وفي ديسمبر الماضي، اتفقت مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي وأستراليا على حظر استخدام التأمين البحري والتمويل والسمسرة الذي يوفره الغرب للنفط الروسي المنقول بحراً، الذي يزيد سعره على 60 دولاراً للبرميل في إطار العقوبات الغربية على موسكو لهجومها على أوكرانيا، ورداً على ذلك، أعلنت روسيا أنها ستمنع اعتباراً من الأول من فبراير بيع نفطها إلى الدول الأجنبية التي تحدد سقفاً للأسعار.
وفي تلك الأثناء، أظهرت بيانات الحكومة الروسية، الأسبوع الماضي، أن فائض الحساب الجاري الروسي، انخفض في الربع الأخير من عام 2022 إلى 31.4 مليار دولار، من 48 مليار دولار في الربع الثالث، ونحو 78.5 مليار دولار في الربع الثاني لنفس العام. في الوقت الذي كشفت وكالة الطاقة الدولية "IEA"، أن صادرات النفط الروسية تراجعت 200 ألف برميل شهرياً على أساس شهري في ديسمبر الماضي إلى 7.8 مليون برميل يومياً، مع تراجع شحنات الخام إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي ظل تلك الضغوط الاقتصادية على موسكو تفتقت، أخيراً، أحد الحلول في ذهن البنك المركزي الروسي بعدما أعلن، الأربعاء الماضي، إدراج الجنيه المصري ضمن سلة من العملات لديه، في محاولة لتخفيف الضغط عن استخدام الدولار.
وحدد البنك الروسي الأسعار الرسمية للروبل مقابل تسع عملات أجنبية أخرى، من بينها الجنيه المصري، بعد أن نشر على موقعه الرسمي بياناً قال فيه إن "قائمة العملات الأجنبية التي يحدد سعرها رسمياً مقابل الروبل تضمنت تسع عملات جديدة من بينها الجنيه المصري الذي يساوي أكثر من روبلين روسيين"، إلى جانب "الدرهم" الإماراتي، و"البات" التايلاندي، و"الدونغ" الفيتنامي و"الدينار" الصربي، و"الدولار" النيوزيلندي، و"اللاري" الغورغي، و"الروبية" الإندونيسية، و"الريال" القطري.
وصاحب قرار موسكو ردود أفعال واسعة وتفاعلاً على مواقع التواصل الاجتماعي في القاهرة، في الوقت الذي اختلفت آراء المحللين والمتخصصين حول أهمية القرار بالنسبة للاقتصاد والجنيه، ففي الوقت الذي اعتبره البعض بمثابة "طوق النجاة للجنيه" قلل آخرون من ذلك على اعتبار أن القرار "لن يدعم سوى التبادل التجاري".
ضبط آلية طباعة النقد
يقول مستشار وزير التموين المصري مدحت نافع "من المهم أن يترافق نظام قبول الجنيه المصري في الاستيراد من روسيا وغيرها مستقبلاً من دول (بريكس) مع ضبط آلية طباعة النقد". محذراً أن "عدم توافر العملة الصعبة مع استمرار تزايد النهم على الاستيراد بالجنيه المصري يغري بالسلطة النقدية أن تبالغ في طباعة النقود، ومن ثم مزيد من تراجع قيمة العملة وقوتها الشرائية محلياً"، مضيفاً أنه "فضلاً عن ذلك ستواصل العملة انسحاقها أمام عملات التجارة الرئيسة، وفي مقدمتها الدولار، الذي ما زلنا وسنظل نعتمد عليه طويلاً في تدبير وارداتنا مع شركائنا التجاريين الأهم والأكبر".
ويعتقد نافع أن أي نظام جديد للمدفوعات سيفرض على المشتركين فيه هذا النوع من الضوابط. مشيراً إلى أنه "ربما تعين علينا ونحن عادة صافي مستورد مع كل الدول أن نعيد شراء فائض الجنيه لدى تلك الدول وذلك بعملاتهم أو بالعملة الصعبة، ولما كانت عملاتهم يعتمد توافرها لدينا على حجم وارداتهم من مصر، الذي هو قليل نسبياً فبالضرورة ستجد مصر نفسها في نهاية العام أو بداية كل عام جديد في مأزق تخفيض كبير لقيمة سعر الصرف وحرق للاحتياطي الدولاري، فما زال الدولار مستخدماً لتقدير قيمة الروبل مقابل الجنيه المصري".
يدعم السلع الأساسية
من جانبها ترى النائب السابق لرئيس بنك مصر (المملوك للدولة) سهر الدماطي، أن "اعتماد البنك الروسي الجنيه المصري ضمن العملات الرسمية التي يتعامل معها يتيح مرونة التبادل التجاري بين الدولتين، ويخفف الضغط عن استخدام الدولار".
وقالت الدماطي "هذا الإجراء سيعزز من قدرة مصر على استيراد ثلاث سلع غذائية تتميز روسيا بوفرتها تشمل القمح ومدخلات الإنتاج والذهب بالجنيه، بما يؤثر مباشرة في سهولة السداد بالعملة المحلية وتحقيق وفرة كبيرة من العملة لعدم الحاجة لتوفير الدولار"، مضيفة أن "دولاً عديدة تتجه في الوقت الراهن إلى اعتماد عملات دول أخرى، لتسهيل التبادل التجاري من خلال تعدد الأقطاب لتخفيف ضغط توفير الدولار".
حدود ضيقة
واعتبر المتخصص في الاقتصاد الكلي هاني توفيق أن "هناك تأثيراً إيجابياً على الجنيه المصري بعد إدراج البنك المركزي الروسي ضمن العملات الأساسية". مستدركاً "لكن ذلك في حدود ضيقة. ستكون قيمة الإجراء في حدود حجم وميزان التجارة الروسي المصري فحسب. أي أنه ستتمكن الحكومة المصرية في الاستفادة من إجراء المقاصة بين السلع المستوردة والمصدرة إلى روسيا مما يخفف نسبياً الضغط على العملة الصعبة".
من جانبه وصف نائب رئيس البنك العقاري المصري وليد ناجي، تلك الخطوة بـ"الإيجابية". قائلاً إن "اعتماد البنك المركزي الروسي الجنيه المصري سيعكس ثقة وخطوات لدفع كمية وقيمة التبادل البيني بين موسكو والقاهرة".
دعم القطاع الخاص بالبلدين
وتوقع ناجي أن يمنح ذلك القرار الشركات في القطاع الخاص سواء في روسيا أو مصر دفعة هائلة نحو تنمية العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدولتين. مؤكداً أن "هذا الإجراء أيضاً سيصب في زيادة العائدات السياحية إلى الخزانة المصرية بعد إتاحة السياح الروس الدفع بالروبل عوضاً عن الدولار بعد إخراج موسكو من النظام المصرفي العالمي (سويفت) كعقوبات غربية ضد روسيا على خلفية الهجوم الروسي على أوكرانيا".
وتابع أن عدم الحاجة لتوفير عملات أجنبية مثل الدولار لسداد السلع المستوردة بين الدولتين "يخفف الضغط عن العملة، ويزيد حجم مجالات التبادل التجاري، ويسهل المعاملات القائمة، ويقوي من العملة المحلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل يدعم السياحة؟
في المقابل، قلل عضو غرفة المنشآت الفندقية في البحر الأحمر (شرقي مصر) راني فايز من أهمية إدراج الجنيه المصري ضمن عملات أساسية للبنك المركزي الروسي على قطاع السياحة، موضحاً أن "الأهم بالنسبة للقطاع السياحي هو توقيع المركزي المصري على اتفاقية النظام المصرفي الروسي (مير) بعد استبعاد الروبل من النظام المصرفي العالمي (سويفت)".
وأشار فايز إلى أن "مفاوضات البنك المركزي المصري مع نظيره الروسي للتوقيع على الاتفاقية توقفت عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا. لكن المفاوضات بين الجانبين تجددت عقب قرار البنك الروسي الخاص بالجنيه المصري"، مؤكداً أن "هذا الإجراء يمثل استفادة جيدة للعلاقات التجارية وتبادل السلع الأساسية بين موسكو والقاهرة فحسب، بينما العلاقات السياحية لن تستفيد من ذلك".
في تلك الأثناء، قال رئيس الشركة القابضة لمصر للطيران، يحيى زكريا، في تصريحات صحافية، إن "شركته شغلت 1250 رحلة طيران عارض خلال عامي 2021 - 2022 وحتى الربع الأول من العام الحالي، من بينها 470 رحلة جوية نقلت 150 ألف سائح روسي من العاصمة الروسية موسكو مباشرة إلى شرم الشيخ والغردقة".
وتخطط القاهرة وفقاً لاستراتيجية أطلقتها وزارة السياحة المصرية لزيادة عائدات قطاع السياحة إلى 30 مليار دولار سنوياً، أي ما يمثل ثلاثة أضعاف العائدات الحالية.
وفي غضون ذلك، توقع صندوق النقد الدولي، ارتفاع إيرادات قطاع السياحة في مصر، لتسجل 11.3 مليار دولار عام 2022 - 2023، و14.2 مليار دولار عام 2023 - 2024، و18.9 مليار دولار عام 2024 - 2025، و22.8 مليار دولار عام 2025 - 2026، و26.5 مليار دولار عام 2026 - 2027.
53.8 مليار دولار صادرات مصر
في تلك الأثناء، سجلت الصادرات المصرية مستويات غير مسبوقة عند 53.8 مليار دولار للصادرات السلعية والصناعية وكذلك الصادرات البترولية وفقاً لتصريحات صحافية لرئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، مضيفاً أن "معدل نمو الصادرات بلغ 19.5 في المئة خلال 2022 مقارنة بـ45 مليار دولار العام الماضي".
وبلغت قيمة الواردات غير البترولية نحو 80 مليار دولار. موضحاً أنه "جرى الإفراج عن بضائع من الموانئ بقيمة 4.8 مليار دولار في الفترة من 14 - 17 يناير (كانون الثاني) الحالي"، مشيراً إلى أن "مجلس الوزراء سيبدأ تطبيق مبادرة دعم الصناعة والزراعة بداية من الأسبوع الحالي".
ووصل حجم التبادل التجاري بين القاهرة وموسكو إلى حدود الـ3.7 مليار دولار خلال الفترة بين يناير إلى أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2022 مقابل 3.1 مليار دولار خلال الفترة المناظرة من العام السابق عليه، بزيادة بلغت 600 مليون دولار بحسب بيانات رسمية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
واردات القاهرة من موسكو 3.2 مليار دولار
خلال تلك الفترة زاد استيراد القاهرة للسلع من موسكو لترتفع قيمة وارداتها 16.5 في المئة، لتصل إلى حدود 3.2 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2022 مقابل 2.7 مليار دولار خلال الفترة المناظرة من العام السابق عليه، بزيادة بلغت 462.1 مليون دولار، بينما سجلت الصادرات المصرية إلى روسيا 512 مليون دولار خلال نفس فترة المقارنة، مقابل 427 مليون دولار خلال الفترة المناظرة من العام السابق عليه، بزيادة 85 مليون دولار.
وتعتمد القاهرة على موسكو في توفير عدة سلع أساسية، أبرزها الحبوب التي وصلت قيمتها إلى 1.5 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى أكتوبر 2022، يليها واردات خشب بقيمة 370.5 مليون دولار، علاوة على الوقود 151 مليون دولار خلال فترة المقارنة ذاتها.
ورصدت بيانات جهاز الإحصاء، قائمة أهم 10 سلع صدرتها مصر إلى روسيا خلال تلك الفترة يأتي في مقدمتها البرتقال بقيمة 110.2 مليون دولار، ثم البطاطا 82.6 مليون دولار، يليه العنب 31.4 مليون دولار، إلى جانب الفراولة 24.1 مليون دولار، ثم تأتي صادرات اليوسفي 15.3 مليون دولار، والمانغو 11.7 مليون دولار، ثم الرومان 10.2 مليون دولار. علاوة على خضراوات بقيمة 8.3 مليون دولار.